تفاجأ العقيد الفلسطيني المتقاعد، محمد العفيفي، كما معظم الفلسطينيين، بالمشاهد التي بثتها فضائية"العربية"، ونقلتها الفضائية الفلسطينية، والتي يظهر فيها أحد أفراد"قوة الحماية والمساندة"التي شكلتها وزارة الداخلية الفلسطينية، يطلق النار على رجل أمن فلسطيني، بعد إيقاف سيارته في أحد شوارع غزة... وما إن أدرك العفيفي أن العيارات النارية أصابت ولده طارق، حتى هرع إلى مستشفى الشفاء للوقوف على حالته الصحية... ونقلت الفضائيات حكاية العفيفي الأب بلسانه، حيث قال: فوجئت حينما شاهدت الاعتداء على ابني عبر الفضائيات، فتوجهت إلى المستشفى لأكتشف أنه يعاني من حالة انخفاض شديد في نسبة الدم... كانت مشاهد قاسية ومؤلمة. وتثير مشاهد الاقتتال الداخلي في غزة، والتي باتت تزخر بها نشرات الأخبار عبر الفضائيات، حالة من الارتباك والألم لدى الفلسطينيين، دفعت سيدة فلسطينية الى توجيه صرخة، عبر الفضائية الفلسطينية، إلى"شعبها"بضرورة توجيه السلاح نحو المحتل فقط، مشيرة، واللوعة تعتصرها، إلى أن ولديها، وأحدهما ينتمي الى حركة فتح، والآخر الى حركة حماس، باتا يطلقان النار على بعضهما بعضاً في الاشتباكات بين الطرفين في غزة. ويعبر عدد من المواطنين الفلسطينيين عن استهجانهم وغضبهم مما باتوا يشاهدونه عبر الفضائيات. وتقول نوال النابلسي طالبة جامعية: تخيلت أنني أشاهد تصويراً للشرطة الأميركية التي اعتادت على بث مثل هذه المشاهد التي تظهر ملاحقتها للصوص والعابثين بالقانون، أو أنني أشاهد صوراً للميليشيات في الصومال... أما أن تكون هذه"البشاعة"في فلسطين، فهذا أمر مرعب حقاً، في حين قال ناصر الأدهم سائق عمومي:"ما إن دخلت المنزل ليلاً، حتى أخبرتني زوجتي برعبها مما شاهدت، وحين شاهدت ما بثته"العربية"، ولاحقاً الفضائية الفلسطينية، شعرت بانقباض في قلبي، وبرغبة في البكاء، جراء ما آلت إليه الأوضاع بين الفلسطينيين". ومن بين المشاهد التي أثارت لغطاً كبيراً وصل حد الإحباط في الشارع الفلسطيني، ما بثته الفضائية الفلسطينية، وتناقلته الفضائيات العربية والأجنبية، حول مقتل خالد الردايدة، السائق في السفارة الأردنية في غزة، خلال الاشتباكات التي وقعت، قرب المجلس التشريعي الفلسطيني في ما يعرف بمنطقة الجوازات في غزة، والتي على أثرها عبر الكثير من الفلسطينيين عن سخطهم مما يحدث، وصل إلى درجة إعلان الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي الإضراب عن الطعام، تعبيراً عن رفضهم لما يحدث. والشارع الفلسطيني، الذي لا يزال يتابع يومياً، وعبر نشرات الأخبار، التي بات يصفها بعضهم بپ"الوجبة السامة"، جرائم الاحتلال، من قتل، واعتقال، وهدم للمنازل، وعذابات يومية عند حواجز الاحتلال، وبالقرب من جدار الفصل العنصري، بات مصدوماً من تصدر مشاهد الاقتتال الفلسطيني - الفلسطيني لنشرات الأخبار في مجمل الفضائيات العربية والأجنبية. وراء الحدث حول ذلك يقول الدكتور سميح شبيب، أستاذ الإعلام في جامعة بيرزيت:"من الطبيعي أن المراسل الصحافي يلهث وراء الحدث الأهم، ويسعى باستمرار إلى تحقيق سبق صحافي، وهذا لا خلاف عليه، لكن المشكلة تكمن في كون بعض الفضائيات العربية والأجنبية، باتت تتعاطى مع الحدث على نحو مضخم ومبالغ فيه، خصوصاً ما يتعلق بالاقتتال الداخلي في الأراضي الفلسطينية، وتصور الأمر على أننا انزلقنا فعلاً في حرب أهلية، لا يمكن الخروج منها، مع أن ما حدث في غزة، يُسيطر عليه". ويؤكد شبيب أن الإطار العام الذي تقرر الجهات السياسية، وربما الأمنية، التي تقف وراء هذه الفضائية أو تلك، هو العامل الأساس في طريقة استقبال الجمهور للخبر، مشيراً إلى أن البعض"ليس بريئاً من تعمد شن حرب نفسية على الفلسطينيين"، مؤكداً أن الكثير من هذه التقارير، باتت تتجه بالجمهور الفلسطيني نحو مزيد من الإحباط، و"القرف من الذات...". ويوافق شبيب على أن مشاهد القتل، والعنف، والدمار، والاشتباكات التي تتصدر نشرات الأخبار، حولتها إلى"وجبة سامة"تؤثر سلباً في نفسية المشاهدين، ويقول: نحن في فلسطين، ساهمنا، عبر تلفزيون فلسطين، والفضائية الفلسطينية بذلك، فقد كنا نفاخر ببث صور الجثث المشوهة جراء جرائم الاحتلال، والجثامين داخل ثلاجات المستشفيات، من دون أدنى اعتبار لنفسية ذوي أصحاب هذه الجثث من الشهداء، ولنفسية الأطفال، والنساء، وكل من يشاهد نشرات الأخبار، وهذا ينطبق على الكثير من التلفزيونات والفضائيات. تعزيز عدوانية الأطفال وأصبحت نشرات الأخبار العربية بمثابة فيلم مغامرات"هوليوودي"حافل بمشاهد دمار حقيقية، ومناظر دماء تخثرت عند قاعدة الكاميرا التلفزيونية، التي أدمنت نقل"المشاهد المؤلمة"كوجبة إخبارية تقدمها الى مشاهديها، والتي من دون شك تترك أثرها الكبير في نفسية المتابعين لها، فثمة إجماع عام بين الباحثين النفسيين على أن لمشاهد العنف التلفزيونية، وتتكثف في نشرات الأخبار، أثراً سلبياً على نفسية المشاهد، بخاصة على شخصية الأطفال... وفي هذا الإطار، تقول الاختصاصية النفسية، نوال الأسعد:"تبقى مشاهد العنف والقتل والدمار، عاملاً محورياً في تعزيز العدوانية لدى الأطفال، وأحياناً تترك انعكاسات سلبية كالكوابيس، والتبول اللاإرادي، في حين يكون الانطواء، والانعزال، رد فعل طبيعياً لدى البعض، مشيرة إلى أن ما تبثه الفضائيات عبر نشراتها الإخبارية، قد يصيب البعض بالتشبع، فتتحول هذه المشاهد إلى"أمر اعتيادي"، وهذا خطير، على حد تعبيرها، مشيرة إلى أن الدراسات تتفق على أن حساسية المُشاهدين لمشاهد العنف، قد تؤدي إلى نوع من اللامبالاة، إذا ما شاهدوا حدثاً مشابهاً يقع أمامهم، وهذا من شأنه أن يخلق جيلاً متبلد الإحساس، ويتعاطى مع القتل، والذبح، من دون استهجان، أو رفض". وتضيف الأسعد:"الطفل الذي يتعود مشاهدة العنف في شكل مستمر، يحتاج إلى مرحلة تأهيل ليكون فرداً صالحاً في مجتمعه، فالأطفال الذين عاشوا في بيئات اتسمت بالعنف، كالأراضي الفلسطينية، يحتاجون إلى مثل هذا التأهيل"، مؤكدة أن"ما تقوم به القنوات العربية من عرض لمشاهد العنف خلال نشرات الأخبار، وبعض البرامج الوثائقية، جريمة في حق المجتمع، وبخاصة الأطفال، لما ستولده هذه المشاهد من إفرازات خطيرة في المستقبل". وحول خصوصية المشاهد التي تصور الاقتتال الداخلي في غزة، على نفسية الفلسطينيين، وبخاصة الأطفال، تقول الأسعد:"ألمس حالة من الإحباط لدى مجمل الفلسطينيين، جراء ما يرونه عبر الفضائيات من اشتباكات مسلحة بين الفصائل الفلسطينية، أما في خصوص الأطفال فأخشى أنهم باتوا يفقدون الثقة في كل ما حولهم، ولا أبالغ إن قلت ان رؤوسهم انقلبت كما هي رؤوسنا، فلم يعد الطفل الفلسطيني يدرك العدو من الصديق... سمعت عدداً منهم يتساءل باستنكار عن هذه الأحداث التي يرونها على شاشات التلفزة، بعضهم يكتفي ببراءة بالحديث عن"مين هو المنيح ومين العاطل؟!"، مطالبة الأهل بضرورة تجنيب أطفالهم، قدر الإمكان، متابعة نشرات الأخبار"اللي بتسم البدن"، في معظم الأوقات". ولا تقتصر المخاطر النفسية على المشاهد فحسب، بل إن الصحافيين والمصورين، وجميع من يشاركون في إعداد"هذه التقارير المؤلمة"عرضة لذلك. وتقول نسرين سلمي، مراسلة فضائية L.B.C في الأراضي الفلسطينية:"أعتقد أن معظم مراسلي الفضائيات بحاجة إلى زيارة عاجلة إلى طبيب نفسي: الرصاص، والدم، والجثث المتناثرة، تصنع منا أشخاصاً مدججين بالعقد النفسية، التي في مجملنا لا ندركها، ولا نعي مخاطرها". وعلى رغم أن محمد الداهودي المدير العام للتلفزيون الفلسطيني، عبر عن ألمه وهو يتابع قبل غيره، مشاهد الاقتتال الداخلي التي تنفرد ببثها الفضائية الفلسطينية في الكثير من الأحيان، إلا أنه أكد ضرورة"عدم دفن الرؤوس في الرمال". فالفضائية الفلسطينية لا بد من أن تكون السباقة في نقل الحدث، مهما كان مؤلماً ومسيئاً، مؤكداً"أن المشاهد التي بثتها قبل أيام حول الاشتباكات بين المسلحين، قرب المجلس التشريعي في غزة، وأدت إلى استشهاد الموظف في السفارة الأردنية في غزة، خالد الردايدة، أثارت ردود فعل غاضبة، بعضها وصل إلى حد تخوين الفضائية، والقائمين عليها والعاملين فيها". ويؤكد الداهودي، أن"السياسة الإعلامية لتلفزيون فلسطين، والفضائية الفلسطينية، تعمل على مواكبة الحدث الفلسطيني, وتناول قضايا المجتمع وهمومه في مختلف الجوانب"، مشدداً على أن"كاميرا الفضائية ستواصل مواكبة هذه الأحداث كما هي على أرض الواقع".