لم تتوقف السينما في أميركا اللاتينية والجنوبية عن إمتاعنا عبر سنوات طوال بكلاسيكيات متنوعة واتجاهات فنية متباينة على أيدي رموزها في الإخراج مثل فراناندو سولانا وهيكتور بابنكو من الأرجنتين، وغلوبير روشا وجوليو بريسين وروجيريو من البرازيل وأرتورو ريبشتاين من المكسيك وغيرهم. صحيح أن الحال لم تعد كما كانت عليه في الماضي، إذ تشهد حركة الإبداع السينمائي في هذه الدول صعوداً وهبوطاً في العقدين الأخرين"لكن مع المحاولات الجادة لبعض المخرجين الشباب، ومع مساهمات بعض مخرجي جيل الوسط، يبقى هناك أمل في إحياء مجد هذه السينما. بدأ الأرجنتيني راؤول بيروني الإخراج السينمائي في العام 1993 وقدم حتى نهاية العام الفائت 16 فيلماً روائياً كان أحدثها"بعد ثمانية أعوام"وهو الجزء الثاني والمكمل لفيلم"جراسياديو"الذي أخرجه بيروني قبل ثمانية أعوام 1997. وكما هو جلّي، يكمل المخرج في هذا الجزء قصة فيوليتا وغوستافو اللذين كانا يشعران في الجزء الأول بانجذاب قوي تجاه بعضهما بعضاً، ومع ذلك لم تنشأ بينهما أية علاقة حميمة. لكن الصدفة التي تجمعهما مجدداً في إحدى المدن الصغيرة بعد ثمانية أعوام أثارت في داخلهما ذكريات وأفكاراً تتعلق بإمكان ما كان يمكن أن يحدث في علاقتهما. والسؤال المطروح في بداية الجزء الثاني: هل ستؤدي هذه الذكريات والأفكار إلى اكتمال قصة حبهما؟ من خلال لقطات طويلة تحاكي السينما الفرنسية"المثقفة"بحواراتها المسيطرة وأمكنتها المحدودة، يزيد عليها هنا وحدة الزمن، إذ تدور أحداث الفيلم في يوم واحد، من خلال هذا الاسلوب يسرد علينا المخرج قصة اللقاء الثاني بين الحبيبين اللذين كانا يتمنيان قبل ثمانية أعوام أن تربطهما علاقة حميمة خصوصاً غوستافو، وفي الوقت نفسه يقدم لنا لمحات يمكن أن ندرك من خلالها لماذا لم تكتمل قصة حبهما، منها اختلاف وجهتي نظريهما تجاه أشياء عدة، صغيرة كانت أم كبيرة، أهمها طبيعة علاقتهما بالماضي، إلى جانب حواراتهما الجدلية الطويلة، والعقيمة أحياناً، التي تؤكد تمسك كل منهما بآرائه من دون التفكير في أي محاولة لتغييرها، خصوصاً فيوليتا. حرص المخرج على ترك مساحة كبيرة من الحيرة لممثليه، فجاء في أداء الشخصيتين المحوريتين نوع من الطبيعية والتلقائية. وعلى رغم أن الحوار كان مسيطراً بالفعل على أحداث الفيلم ضمّن بيروني بعض مشاهده جماليات بصرية رفيعة منها مشهد غروب شمس ذلك اليوم الذي تقابلا فيه والذي وظفه في الوقت ذاته كدلالة على غروب قصة حبهما. من المشاهد الجيدة الأخرى في الفيلم مشهد النهاية الذي يأخذهما إلى محطة القطار فيجلسان على مقعد انتظار القطار فيها في صمت ليأتي القطار بالفعل ويحتل مقدمة الكادر ويتم تثبيت الكادر هكذا كلقطة النهاية المفتوحة، إنما بتأمل أحداث الفيلم واسترجاع حوارات الحبيبين يمكن أن نفهم أن هذه اللقطة هي الستار الذي يُسدل على قصة حب لم تتحقق منذ ثمانية أعوام ولن تتحقق هذا العام. تلفزيون في السينما أما فيلم"الماكينة"للمخرج البرازيلي خوأو فالكأو 47 عاماً فيناقش التأثير الطاغي للتلفزيون في المشاهدين، والرغبة الأبدية في البحث عن حياة أفضل وأفق جديدة من خلال الشكل الفانتازي لكوميديا استعراضية. تدور الأحداث في قرية برازيلية نائية يهجرها أهلها خصوصاً بعد إهمال المسؤولين لها وتجاهلهم لوجودها على خريطة البرازيل. لكن رغم هذا يحدث أن يعثر أنطونيو الشاب القادم من المدينة على الحب الحقيقي في هذه القرية، يعثر على كارنينا التي تحلم بامتلاك جهاز تلفزيون كما تحلم بالسفر ومتعة الاكتشاف، ولكي يفوز انطونيو بقلبها يسعى إلى أن يقدم لها العالم تحت قدميها، ولا يجد في سبيل تحقيق هذا اكثر من"الماكينة"التي سيستطيع هو أيضاً من طريقها تحقيق حلمه القديم قدم هذا العالم نفسه وهو السفر عبر الزمن بهدف تغيير المسار التاريخي الماضي الخاص به وبكارنينا وبأي شخص يرغب في هذا. من خلال المزج بين الحلم والواقع، والفقر والرفاهية وبين الماضي والحاضر والمستقبل، يعرض المخرج لتأثير التلفزيون في تغيير نمط الحياة حتى على سكان قرية نائية مثل قرية كارنينا، كما يعرض بصورة دقيقة لطبيعة الحياة داخل هذه القرية في شكل أقرب إلى الحكايات الخيالية، وما ساعد المخرج على تحقيق هذا أنه صور فيلمه كاملاً داخل الاستوديوات، لكن على رغم ضخامة الطموحات تظل الامكانات لصنع فانتازيا برازيلية استعراضية متواضعة إلى حد كبير إذا ما قورنت بتلك الأعمال هوليوودياً. من عالم الفانتازيا والأحلام يأخذنا الفيلم الكولومبي"زيارات"إلى واقع مرعب عاصره مواطنو العاصمة بوغوتا لسنوات طوال نتيجة لسلوكيات العصابات السياسية بها. من الطريف في هذا الفيلم، الذي لا توجد أي طرافة في موضوعه القاتم، أن مخرجه بيدرو لانغ يعمل أيضاً مدرساً للغة الاسبانية وهذا الفيلم أولى تجاربه الإخراجية. يصور لانغ الذي صاغ فيلمه في ثلاثة أجزاء أجواء، العنف والإرهاب التي سادت العاصمة، وعبّر في كل جزء منها عن الخوف والكرب اللذين اتسمت بهما حياة هؤلاء المواطنين بدءاً من الطبقات المتوسطة حتى الطبقات الدنيا. وإذا كان فيلم لانغ يتفرد بخصوصية ما، فهي بلا جدال عدم لجوئه إلى السرد التصاعدي الكلاسيكي في عرض الأحداث، وعلى غير المعتاد يلقي المخرج بمشاهديه منذ البداية وسط أجواء من العنف والإرهاب على غرار أفلام الرعب. لكنه يعود ويدعم أجزاء فيلمه ببعض المشاهد التي لا تتبع تماماً الواقع الذي يسرده ومشاهد أخرى من دون تحديد هوية بعض شخصياتها لنكتشف عبر بعضها على سبيل المثال إحدى شخصياتها مرعوباً بسبب أصوات تعذيب غير مفسر صادرة من غرفة ملاصقة لغرفته التي ينزل بها في أحد الفنادق. والذي نفهمه من هذا المشهد الذي لا يحدد هوية المُعذب أنه يشير بصورة ما إلى أن الأسباب السياسية والاجتماعية المسؤولة عن العنف في كولومبيا ما هي إلا أسباب ثانوية. إذاً يتحول الفيلم مع نهايته عن فكرته الرئيسة ويعرض للإرهاب ويندد به بصفة عامة أو كظاهرة أكثر مما يناقشه في هذا البلد، كولومبيا، على وجه الخصوص، ما يعد تراجعاً انتقص بشدة من قوة الفيلم"المحتملة". ما بين واقع متغير وكوميديا اجتماعية ساخرة يقدم المخرج الأرجنتيني الشاب مارسيلو مانغوني 32 عاماً فيلمه الروائي الثاني"الهدم"بعد فيلم"طبيعي"أو"ناتشورال"في العام 1999 الذي قوبل بردود فعل نقدية إيجابية خصوصاً لكونه أول عمل لمخرج شاب في السابعة والعشرين. تدور أحداث فيلم"الهدم"حول شخصيتيه المحوريتين وهما موظف في إحدى الشركات المعنية بهدم البنايات المطلوب إزالتها وهو يتقاضى راتباً ضعيفاً يُمكنه بالكاد من سد رمقه هو وأسرته، وصاحب إحدى الشركات الذي ما زال يعيش في وهم الثراء والرفاهية والمكانة الاجتماعية البارزة. وعندما يتقرر هدم بناية قديمة وغير مأهولة بالكامل ليتم إنشاء سوبر ماركت ضخم مكانها، يلتقي الموظف بصاحب الشركة الموجودة في البناية ذاتها التي على وشك الهدم فيجده جالساً بكبرياء أمام مكتبه المكتظ بالأوراق ومتحدثاً بالهاتف اللاسلكي، كما لو كان كل شيء عادياً وكما لو كانت شركته ما زالت تعمل على رغم أن البناية نفسها ستزال خلال ساعات. منذ ذلك اللقاء تنطلق هذه العلاقة الغرائبية والمثيرة للمواقف الكوميدية أحياناً والساخرة أحياناً أخرى، ومن خلالها يركز المخرج على لحظة"الأزمة"التي يواجهها الإنسان - أي أنسان"ولكن في مستوى أكثر خصوصية ومن خلال العلاقة هذه نفسها يسلط أضواء على المواطن الأرجنتيني وصراعه اليومي مع مجتمع متغير. روعة التسجيلي كان المخرج المكسيكي ارتورو ريبشتاين 63 عاماً حقق فيلماً تسجيلياً العام 1976 قابل من خلاله سجناء سياسيين داخل سجني ليكومبري والبلاسيونيرو، في فكرة لامعة. وبعد مرور ثلاثين عاماً كاملة، يعود المخرج في فيلم"الأبطال والزمن"الى مقابلة هؤلاء السجناء مجدداً بعد الإفراج عنهم. أثناء هذه اللقاءات الجديدة يتحدثون عن معارك الماضي ووجهات نظرهم عنها والأضرار التي اصابتهم نتيجتها وعما آل اليه حالهم بعدها. ولكن لم تقتصر أحاديثهم مع المخرج عن معارك الماضي، إنما وبفضل الثقة التي كان اكتسبها المخرج من قبلهم من خلال علاقته القديمة بهم، تحدث معظمهم بكل حرية وعمق وفهم عن مجريات الحياة الاجتماعية والسياسية وحقيقة القوى في المكسيك اليوم. فجاءت كل شهادة أدلى بها كل شخص من بينهم بمثابة جزء صغير من الصورة. وبتجميع هذه الشهادات معاً تتضح معالم الصورة وتكبر لتعكس بكل وضوح صورة شاملة للمجتمع المكسيكي اليوم بمتغيراته وتناقضاته وأيضاً بمميزاته. وكما هو متوقع من موهبة وحرفية مخرج في حجم ريبشتاين لم تأت هذه الشهادات من طريق شخص يدلي بأقواله أمام الكاميرا وحسب، إذ تداخلت مع شهادتهم المهمة صور ولقطات أرشيفية لا تقل عنها أهمية فدعمت هذه الشهادات بصرياً في بلاغة فنية استثنائية. من أعمال أميركا اللاتينية المهمة التي سجلت لمسيرة الشخصيات أيضاً، لكنه يأتي هذه المرة من أورغواي"كلمات صادقة"، يقدم المخرج ريكاردو كاساسي 50 عاماً بورتريه ثرياً عن شاعر أورغواي الكبير وأديبها ماريو بنديتي مستعيناً في عرضه له بوسائل عدة، من لقاءات حوارية مع الشاعر نفسه، وشهادات كُتاب آخرين عن أدبه ومبادئه إلى صور أرشيفية نادرة. وأظهر المخرج من خلال ذلك البورتريه المودة والصدق المتسمة بهما شخصية الشاعر إلى جانب تأكيده القيمة الرفيعة لأعماله. أما الخط الرئيسي الذي قام عليه بناء الفيلم فكان عن الدوافع والأسباب التي رفعت ذلك الرجل المتواضع إلى مصاف الأدب المكتوب باللغة الاسبانية والتي دفعته دفعاً إلى الانخراط في الصراعات المتلاحقة في المشهد السياسي ببلاده. نجح المخرج في تسليط الضوء على شخصية بنديتي وإظهارها بصورة خلاقة يمكن أن يحتذى بها في هذه النوعية إذ كان يضعها دائماً في مواجهة مع الخلفية التاريخية والاجتماعية لأورغواي. فكانت شخصية الكاتب تلقي أضواء كاشفة على هذه الخلفية، وفي المقابل كانت هذه الخلفية تلقي أضواء مماثلة على شخصيته، خصوصاً في ما تعلق بجزئية نفيه إلى اسبانيا، ونتج من هذه العلاقة التبادلية نوع من الإيقاع البصري المحبب والمدروس الذي يكاد المشاهد أن يسمعه لا أن يراه فقط. على العكس من المخرج ريبشتاين الذي أخرج ما يقرب من 20 فيلماً روائياً لم يعمل كأساس حتى الآن إلا في التسجيلي والروائي القصير.