تحولت الحرب الكارثية في العراق إلى مصدر حرج سياسي خطير يواجه الرئيس جورج بوش وحليفه رئيس الحكومة البريطانية توني بلير. إنها أخطر قضية من شأنها أن تحدد مصيرهما السياسي. ففي بريطانيا دمر العراق سمعة بلير، وأما في أميركا فالحرب نالت من شعبية بوش إلى حد أن ساسة الحزب الجمهوري يواجهون خطر حصول الديموقراطيين على مكاسب مهمة في الانتخابات نصف الدورية في 7 تشرين الثاني نوفمبر المقبل، حيث يجري انتخاب جميع أعضاء مجلس النواب وإعادة انتخاب ثلث أعضاء مجلس الشيوخ. ولا شك أن بوش وبلير يتمنيان بحرارة الخروج من هذا المستنقع ولكن شريطة أن يحرزا انتصارا واضحا, فكيف يتصرفان؟ الجواب هو أن يتم خلسة نوع من الانسحاب الذي يسمح لهما بإسكات حملة منتقدي الحرب. ولكن مع تجنب خسارة السيطرة على بلد استراتيجي غني بالنفط. هذا الغموض هو الذي يفسر ازدواجية الخطاب لدى الزعيمين. فهما يتحدثان عن انسحاب قوات التحالف حين يستطيع العراق تحمل مسؤولية أمنه. وفي ذلك يقول بوش"حين يقف العراقيون على أقدامهم نبدأ بالانسحاب". وأما بلير فيقول شيئاً مشابهاً كما جاء في تصريحه خلال زيارته لبغداد يوم 22 أيار مايو الماضي"سيتزامن انسحابنا مع قيام العراقيين ببناء دولتهم". على أن بوش وبلير أنكرا بأن الانسحاب سيكون تاما أو عاجلا وكيفيا، إذ قال الأول"سنترك مستوى قواتنا هناك على القدر اللازم لانتصارنا". وردد ديزموند براون وزير الدفاع البريطاني الجديد قائلاً:"أتوقع أن نبقي على وجود عسكري في العراق لفترة من الزمن ما دامت الحاجة تدعو إلى ذلك. ويجب أن نقاوم كل فكرة تدعو إلى الانسحاب الكيفي أو إلى أي تحديد لمواعيد اصطناعية إذ لا بد لنا من إكمال المهمة". ومن حقنا أن نتساءل في ضوء هذه التصريحات ما إذا كانوا باقين أو مغادرين. والجواب هو أنهم يريدون الأمرين. فهم حريصون على وقف نزيف الأرواح والأموال والرصيد السياسي ولكن من دون أن يلحق أي أذى بمصالحهم الأساسية. وجدير بالتنويه أن السفارة الأميركية التي يجري بناؤها في العراق هي في الواقع شبه مدينة تأوي 8 آلاف شخص - لا توحي مطلقا بأن واشنطن تفكر بانسحاب حقيقي وكامل. على أن هنالك أنباء عن تخفيض القوات الأميركية في الشهور القادمة، إذ تشير معلومات سرية مستقاة من البنتاغون إلى أن قائد القوات الجنرال جورج كايسي أعد خطة ترمي إلى تخفيض ألوية القتال من 14 إلى 12 لواءً هذا الصيف، ثم إلى 10 ألوية في آخر السنة وإلى نصف هذا العدد في أواخر عام 2007. ومن المعروف أن كل لواء يضم 3500 جندي، وسيؤدي كل ذلك إلى تخفيض عدد القواعد العسكرية من 69 إلى 11 فقط في نهاية عام 2007. ويعني ذلك كله أن عدداً لا يستهان به من القوات الأميركية سيظل في العراق إلى ما بعد عام 2009 حين يتولى الحكم في واشنطن رئيس جديد. ولكن الانسحاب المحدود سيتوقف على مجرى الحرب وعلى نجاح توسع الجيش العراقي وعلى التطورات السياسية في بغدادوواشنطن. ولقد خصص الكونغرس الأميركي 48 ساعة لمناقشة حرب العراق - وهو أول نقاش من نوعه منذ التصويت على الإذن بالحرب قبل ثلاث سنوات. وكانت النتيجة أن مجلس النواب والشيوخ صوتا بأكثرية ساحقة ضد الانسحاب. وقال السناتور بيل فريست، زعيم الأكثرية الجمهورية إن"أي انسحاب للقوات سيكون خطراً وتهوراً مخجلاً. فالانسحاب ليس خياراً مطروحاً والاستسلام ليس حلاً". ويبدو أن الاستراتيجيين الجمهوريين وخصوصا كارل روف المستشار الرئيسي لبوش في شؤون السياسة الداخلية قرروا، نظراً لقرب موعد الانتخابات التشريعية المقبلة وموعد انتخابات الرئاسة عام 2008، أن الأفضل هو الإبقاء على موقف حازم وواثق وهجومي بالنسبة لموضوع العراق مع اتهام الديموقراطيين في الوقت نفسه بالجبن والانهزامية. وحين تقدم السيناتور جون كيري المرشح الديموقراطي السابق إلى الرئاسة باقتراح يدعو إلى انسحاب تام للقوات في منتصف عام 2007 هزم هذا الاقتراح من قبل الأكثرية الجمهورية. هكذا أفسدت الأكاذيب حرب العراق منذ البداية وهي ما زالت مستمرة سواء بالنسبة إلى أسباب الاجتياح أو بالنسبة إلى أسباب البقاء والانسحاب. فالتحاف العسكري الذي قادته أميركا للهجوم على العراق في عام 2003 كان الغرض الظاهر منه القضاء على أسلحة الدمار الشامل التي يملكها صدام حسين والتي وصفت آنئذ بأنها تهديد خطير للبشرية. ولم يكن ذلك سوى ذريعة لعدوان سبق الإعداد له منذ وقت طويل. ويكفي التذكير في هذا الصدد بما قاله بول وولفوفيتز النائب السابق لوزير الدفاع والمهندس الأول لحرب العراق إذ اعترف بأن التهديد العراقي المزعوم المتعلق بأسلحة الدمار الشامل كان"لأسباب بيروقراطية"إذ كان الهدف الوحيد الذي يمكن بناء التحالف على أساسه. وأما الأهداف الحقيقية للحرب، كما أصبح الآن معروفاً لدى الجميع، فهي أولاً السيطرة على موارد العراق النفطية بما في ذلك عقود ببلايين لإعادة بناء العراق بعد 13 سنة من العقوبات وهو هدف نسب إلى نائب الرئيس ديك تشيني. ولو لم يكن العراق بلدا نفطيا لما حصل الاجتياح. والهدف الثاني من الحملة هو القضاء على القوة العربية العسكرية بغية إزالة أي مصدر تهديد لإسرائيل من الشرق، وقد نسب هذا الهدف لفريق المحافظين الجدد الموالين لإسرائيل في إدارة بوش. ولا شك أن الهدف الآخر للحرب، والذي يشارك به دونالد رامسفيلد وزير الدفاع هو تلقين العرب درسا حول قوة أميركا العسكرية وتصميمها على الانتقام من هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، ولعل هذا المنطق هو الذي دفع الأميركيين الى ارتكاب خطيئة حل الجيش العراقي. وكانت نتيجة كل ذلك: 1- خلق فراغ أمني لم تستطع أميركا ملأه، 2- تزويد المقاومة بأعداد من الجنود المتمرسين في القتال، 3- نشوء الميليشيات المذهبية إذ أخذت كل طائفة تسعى للدفاع عن نفسها في جو الفوضى القاتلة التي أعقبت انهيار الدولة. والواقع أن الجيش العراقي كان، حتى قبل تتويج فيصل الأول في بغداد عام 1921، العماد الرئيسي للدولة التي أنشأها الإنكليز من ثلاث ولايات عثمانية ويمكن للقارئ الرجوع إلى كتاب"قصة جندي، مذكرات جعفر باشا العسكري، لندن 2003. هكذا ظل الجيش المؤسسة الأهم في العراق، رغم حملات التطهير العديدة عام 1958 حين جرى القضاء على الملكية وعام 1963 إثر الانقلاب الاول للبعث، وعام 1968 حين عاد البعث إلى الحكم، ثم في مرات عدة من قبل صدام حسين خصوصاً خلال الحرب العراقية - الإيرانية 1980-1988. فالجيش إذاً هو المؤسسة الوحيدة القادرة على ضبط العراق وحماية وحدته. وتحاول أميركا وبريطانيا اليوم أن تعيدا بناء الجيش العراقي بعد تدميره ولكنها مهمة عسيرة جداً، ذلك أن العناصر الوطنية القوية في المقاومة، تضاف إليها طبعاً الجماعات الإسلامية المتطرفة ك"القاعدة"، تريد خروج القوات الأميركية والبريطانية. فمن الصعب إشاعة الاستقرار في العراق ما دام تحت سيطرة الجيوش الأجنبية لأن وجودها ينزع الشرعية عن الحكومة ويدينها لكونها عميلة للغرب. ليس من الغريب والحالة هذه أن نرى النقاش في أميركا لا يدور حول البقاء في العراق أو الخروج منه بل على مدى تأثر المصالح الأميركية من دون أي اعتبار لمصالح العراق نفسه. أحد الأسباب التي يسوقها أنصار البقاء هو أن على أميركا أن تحافظ على"شرف قتلاها". فالانسحاب يعني في نظرهم أن آلاف الأميركيين فقدوا حياتهم سدى. وبتعبير آخر لا بد أن يموت آخرون لتبرير التضحيات التي قدمها أولئك القتلى. ومن الحجج التي يسوقها أنصار البقاء أن الانسحاب سيسيء جداً الى صورة أميركا وسمعتها وسيعتبر رسالة ضعف، وأما ترك العراق الآن فسيحوله إلى قاعدة إرهابية، أو بتعبير عزيز على المحافظين الجدد إلى منطلق"لامبراطورية فاشية إسلامية"ذات عواقب خطيرة على مستقبل الأمن الأميركي. غير أن أحد الأسباب الرئيسة والذي لا يذكر علناً فهو الخوف من أن يؤدي الانسحاب الأميركي إلى جعل الاحتياطي النفطي العراقي تحت سيطرة الدول المنافسة لأميركا، خصوصاً الصين وروسيا بل في أيدي أعدائها أيضا كإيران. ويبدو أن أعضاء الكونغرس الذين رفضوا فكرة الانسحاب لم يفكروا بأن هذا الموقف قد يكون في صالح العراق، إذ سيحض على المصالحة الضرورية من أجل إيقاظ الضمير الوطني. فمعظم السنة والشيعة وحتى أكثرية الأكراد يريدون عراقا سيدا وموحدا ومسالما ومزدهرا، قادرا على استرداد مكانه في المنطقة من الاحتلال الأجنبي. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط