ردد الشعب الأميركي مطلع السبعينات أغنية شهيرة مطلعها"لن نُخدع مرة ثانية". واعتبرت تلك الأغنية في حينه تعبيراً صارخاً عن رفض الأميركيين لحرب فيتنام وما انتجته من مآس وتظاهرات اعتراض بسبب تخطي عدد الضحايا الخمسين ألف جندي. الشهر الماضي أحيت الاذاعات المحلية الأميركية هذه الأغنية، خصوصاً بعدما وجه أربعة جنرالات انتقادات لاذعة الى مقرري حرب العراق بحجة أنها مرتجلة، وخاطئة وغير ضرورية. وكتب الجنرال المتقاعد غريغ نيوبولد في مجلة"تايم"مقالة طالب فيها بضرورة استبدال وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بسبب انتهاجه استراتيجية متعثرة أدت الى ارتكاب آلاف الأخطاء. وتوقع أن تفشل خطة واشنطن في إعادة تشكيل جيش عراقي قادر على قمع المتمردين المطالبين بإنهاء الاحتلال. كما توقع أن تتكرر أخطاء فيتنام في العراق لأن السياسيين وظفوا المؤسسة العسكرية من أجل غزو بلاد لا تشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي. من الواضح أن ارتفاع عدد القتلى والجرحى لدى الجيش الأميركي شجع شيوخ الحزب الديموقراطي على توسيع حملة الاعتراض خوفاً من المجازفة بإرسال قوات اضافية الى العراق. وهذا ما أوحى به قرار الوزير رامسفيلد الذي أمر بإرسال 1500 جندي كدفعة أولى يمكن ان تملأ الفراغ الأمني الذي أحدثه مقتل 2500 جندي. علماً أن الفصائل العراقية المسلحة أعلنت عن قتل 30 ألف جندي أميركي منذ بداية الحرب، وتستبعد وزارة الداخلية في بغداد سقوط هذا العدد الكبير الذي أنكره المراسلون العرب والأجانب. كما أنها تتحفظ على ذكر الأعداد الحقيقية ولو أنها لا تنكر وصول عدد القتلى الى أكثر من ثلاثة آلاف. ويرى رئيس وزراء بريطانيا توني بلير ان المأزق المحرج الذي تعانيه قوات التحالف في العراق لم يعد مقتصراً على عقدة الاحتلال فقط، وانما تعداها ليصل الى عقدة السلوك المهني. ومعنى هذا ان العمليات العسكرية لم تعد وحدها تمثل الاخفاق في تحقيق المهمة، وانما أضيفت اليها ظاهرة الانهيار النفسي التي أعتبرت عاملاً اضافياً يهدد معنويات جنود الاحتلال. ولقد استدعت حال الشلل العام في أوساط قوات التحالف، زيارات مفاجئة قام بها توني بلير وكوندوليزا رايس ودونالد رامسفيلد. وذكر في حينه أن المسعى المشترك الذي تولاه المسؤولون الثلاثة اقتصر على رفع المعنويات المنهارة، والحؤول دون حدوث عمليات انتقامية بسبب ضغوط الحصار ومواصلة حالات الاستنفار الدائم. ولقد اضطرت واشنطن الاسبوع الماضي الى ارسال الجنرال مايكل هاغي للتحقيق في مجزرة"حديثة"التي شهدت مقتل 24 مدنياً عراقياً ذهبوا ضحايا الانتقام لمقتل جندي واحد. كذلك حجب توني بلير عن وسائل الاعلام وقائع التحقيق الذي أجراه وزير الدفاع البريطاني بشأن اختفاء أكثر من ألف جندي استغلوا اجازاتهم للانفصال عن وحداتهم في البصرة. ويشير التحقيق الى اتصالات أجراها 2670 جندياً بمكاتب محاماة في لندن للاستشارة حول أفضل الوسائل القانونية لإلغاء الخدمة العسكرية. وتحاشياً لاستفحال الوضع المقلق، قام توني بلير بزيارة مفاجئة لبغداد التقى خلالها رئيس وزراء العراق نوري المالكي وتباحث معه حول أسرع الطرق لتفادي موجات العنف قبل تسليم المسؤوليات الأمنية الى القوات العراقية. كذلك استعرض معه جدولة الخطة الأمنية في العاصمة والمحافظات لأن اتساع نشاط المتمردين يعيق تنفيذ خطة الانسحاب، الأمر الذي ينعكس بشكل سلبي على معنويات قوات التحالف. ووعد المالكي بالسيطرة الكاملة على الوضع الأمني بعد الاتفاق على اختيار وزيري الدفاع والداخلية، استعداداً لتأهيل قوات وطنية توقع أن يصل تعدادها الى ربع مليون شرطي وجندي مطلع السنة المقبلة. وفي زيارته يوم الأربعاء الماضي لمدينة البصرة، حاول المالكي تطمين توني بلير الى تنفيس الاحتقان الشعبي الذي أثاره"حزب الفضيلة الاسلامي"ضد القوة البريطانية. كما سعى خلال زيارته الى اقناع زعماء الحزب للانضمام الى حكومته لأن تمثيلهم الرسمي يدعم الدعوة لحماية أهم منفذ لتصدير النفط. وقبل أن يغادر عاصمة الجنوب العراقي، أعلن المالكي حالة الطوارئ في المدينة بهدف ضبط الوضع الأمني وتطمين لندن الى ان الحكومة ستساعد القوة البريطانية على اخراج الميليشيات المسلحة ومنع المافيات من تهريب النفط. يتردد في لندن ان توني بلير هدد الحكومة العراقية بأن الضربات الموجعة التي يسددها المتمردون داخل المحافظات ستضطره الى تخفيض عدد قواته، أو الى التعجيل بسحبها. وعزا هذا الموقف المتغير الى ضراوة الحملات التي تشن ضد حكومته في مجلس العموم ووسائل الاعلام. وقد أبلغ الرئيس جورج بوش اثناء زيارته الأخيرة لواشنطن، بخطورة العواقب السياسية التي تنتظر حزبيهما في حال تواصلت الهجمات ضد القوات الاميركية والبريطانية. ورسم له صورة قاتمة لمراحل تطور العنف في جميع المدن العراقية، منبهاً الى ان المجموعات المسلحة وسعت نطاق احتلالها بحيث دفعت المحايدين الى اختيار طريقين: إما الهرب باتجاه سورية والاردن، أو الانضمام الى المقاتلين. ووصف الجبهات المفتوحة في أكثر من مئة مدينة وقرية بأنها تشبه"هجوم ثاث"يوم داهمت قوات الفيتكونغ في وقت واحد مئة مدينة وقرية ودسكرة داخل فيتنام الجنوبية، الأمر الذي أدى الى سقوط سايغون والنظام التابع لها. ويتخوف بلير من تكرار تلك العملية في العراق، لأن انهيار الوضع الأمني، سيقود حتماً الى سيطرة الميليشيات والى خلق ثلاثة كيانات منفصلة للشيعة والسنة والكرد. خصوصاً ان الشعار الذي طرحه السناتور جوزيف بايدن والمطالب بتقسيم العراق على اسس مذهبية وعرقية، وجد لدى الحزب الديموقراطي من يؤيده بشعار آخر يطالب"بالانسحاب الآن"من دون الأخذ في الاعتبار تأثير هذا العمل على وحدة العراق أولاً وعلى أنظمة الشرق الأوسط ثانياً. ويبدو ان الشعارين وجدا جمهوراً متجاوباً داخل البلدين عقب الاعلان عن سقوط مئة صحافي في حرب العراق. وأظهرت الأرقام ان الصحافة لم تخسر مثل هذا العدد في اي حرب عالمية أم اقليمية! على الجبهة الافغانية دارت معارك في الجنوب - معقل الباشتون - اسفرت عن مقتل أكثر من 300 شخص من طالبان والقوات الاميركية وعناصر الجيش المحلي. وبحسب الجنرال حميد غول، مدير الاستخبارات الباكستانية السابق والمساهم في خلق حركة طالبان، فإن تجدد القتال على مختلف الجبهات يشير الى تحالف طالبان مع الحزبين الاسلاميين، الأول بقيادة حكمتيار والثاني بزعامة يونس خالص. وفي رأي غول ان روسيا حاقدة على الولايات المتحدة بسبب طردها المذل من افغانستان، وبسبب تمويل حركة المجاهدين العرب بدعم من السعودية. وتستخدم موسكو الاسلوب ذاته ضد الولايات المتحدة عن طريق تقوية المعارضة العراقية بواسطة التمويل الايراني. وهي عازمة على اخراج النفوذ الاميركي من منطقة الخليج العربي بعد اقصائها عن العراقوافغانستان. لذلك غضت النظر عن عمليات تهريب المخدرات عبر أراضيها من افغانستان لأن طالبان تشتري بأثمانها تأييد زعماء القبائل واعتدة حربية. وقدرت قيمة تجارة المخدرات في السنة الماضية بأكثر من بليونين ونصف بليون دولار. وتؤكد المعلومات الصادرة عن كابول ان اصرار واشنطن على قتل اسامة بن لادن أو اعتقاله، كان وراء نشاط طالبان لاجتذاب أعداد كبيرة من ابناء القبائل الى صفوفها. وركز الرئيس الباكستاني برويز مشرف على تنظيف منطقة وزيرستان من حزام الباشتون الذين يحمون بن لادن ويؤمنون له طرق التخفي مع صديقه الملا محمد عمر. وارتكب الجيش الباكستاني اخطاء كثيرة بإبدائه احتراماً زائداً لزعماء القبائل ولقيامه بدفع أموال لكسب ودهم. وكان من الطبيعي ان تضفي تلك المعاملة بعض الشرعية على هؤلاء الزعماء الذين يتهمون مشرف بالتحالف مع الكفار. كل هذا لأنه منع عناصر طالبان من فرض أفكارهم على سكان قرى وزيرستان، وذلك بإجبارهم على اطلاق لحاهم، وتشجيع نسائهم على ارتداء الازياء الاسلامية المحافظة، ومنع المواطنين من مشاهدة التلفزيون. الاسبوع الماضي أعلن حاكم ولاية قندهار اسدالله خالد، ان عناصر تنظيم"القاعدة"بالتعاون مع"طالبان"جددوا هجماتهم بهدف السيطرة على مزيد من المناطق ولا سيما في جنوب افغانستان. وهذا ما دفع الرئيس حميد كارزاي للقيام بزيارة خاطفة الى طهران واجراء محادثات مع آية الله علي خامنئي تركزت حول تسلل معارضي الدولة عبر الحدود الايرانية. ومع ان خامنئي وعده بمطاردة المتسللين، إلا ان الوقائع تثبت ان النظام الايراني يشجعهم على التمرد ضد قوات التحالف، ويحرضهم على خلق حال من الفوضى شبيهة بالحال التي تشل نشاط الحكومة العراقية. ولقد امتد نفوذ طالبان الى كل مكان تقريباً بحيث أصبحت عمليات القتل الجماعي نسخة مكررة عن العمليات التي تشهدها المدن العراقية. ففي الاسبوع الماضي اغتال خمسة من حركة"طالبان"الزعيم القبلي الموالي للحكومة الباكستانية وعضو مجلس الاقليم مهر ديل خان، جنوب وزيرستان. كما أردت فرقة الاغتيال في"طالبان"زعيماً قبلياً آخر في بلدة"مير علي"ضمن الاقليم ذاته، وإنما من الجهة الشمالية. وتُقدر أعداد الذين قتلوا على أيدي جماعة"القاعدة"و"طالبان"بأكثر من مئة زعيم قبلي من الموالين للحكومة الباكستانية. عقب الإعلان عن سقوط أربعة مدنيين ارداهم جنود أميركيون، نظّم طلاب جامعة كابول تظاهرة ضخمة انتهت بمهاجمة السفارات ونهب المحلات واضرام النار بالسيارات. وأمر الرئيس كارزاي بانزال الجيش والشرطة الى الشوارع بعدما هاجم المتظاهرون مكاتب المنظمات الدولية وأحرقوا مكاتب الوكالة الفرنسية والتنمية اكتيد و"أوكسفام"البريطانية. واضطرت غالبية العائلات الأجنبية لأن تلجأ الى السفارات بقصد الحماية. والملفت ان قوات"طالبان"أصبحت تسيطر على أكثر من ستين في المئة من المناطق الحدودية المتاخمة لباكستان وإيران، وأن استعداد القبائل لمحاربة القوات الدولية سيحرج الرئيس كارزاي الذي منعه المتظاهرون من مبارحة منزله. ومثل هذه المقاومة المتنامية ستقوي من نفوذ روسياوإيران، وتجعل من تدخلهما شرطاً أساسياً لتهدئة الأوضاع في منطقة ملتهبة ومسيبة مثل أفغانستان. في خطوة مفاجئة، أعربت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، عن نية بلادها اعتماد اللغة الديبلوماسية المرنة في علاقاتها مع طهران. وأكدت استعدادها للمشاركة في مفاوضات"الترويكا"الأوروبية مع إيران، في حال وافقت على وقف تخصيب اليورانيوم. ورأى المراقبون في التحول الاميركي مدخلاً للتعاون مع الدول الأوروبية الثلاث، أي بريطانياوفرنسا والمانيا. وأعلنت هذه الدول بالاتفاق مع روسيا والصين والولايات المتحدة، عن استعدادها لمساعدة إيران على بناء مفاعلات نووية عدة تعمل بالمياه الخفيفة إذا تراجعت طهران عن قرار تخصيب اليورانيوم. وربما خفف تصريح محمد البرادعي من المخاوف المتأتية عن مخاطر إيران النووية، وذلك عن طريق استبعاده لهذه المخاطر في المستقبل القريب. كذلك تراجعت فرنساوبريطانيا وأميركا عن مطالبها القاسية بضرورة استخدام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الأمر الذي يسمح باتخاذ حزمة عقوبات آخرها التدخل العسكري. ولكن روسيا والصين والمانيا تحفظت على استخدام الفصل السابع لمسألة يمكن تسويتها بالطرق الديبلوماسية. ولقد اقترحت موسكو انضمام إيران الى منظمة شنغهاي على اعتبار أن هذا المخرج يعطي الوكالة الدولية حق معالجة المشكلة بواسطة روسيا والصين الدولتين القادرتين على صوغ اقتراحات تقبل بها إيران. ولكن، متى تقبل إيران بوقف عملية التخصيب؟ ردّ مسؤول إيراني كبير على هذا السؤال بالقول: عندما ينزع السلاح النووي الإسرائيلي وتنسحب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة؟ وفي رأي الرئيس أحمدي نجاد إن الولايات المتحدة غزت العراق بحجة امتلاك اسلحة نووية، وهي حالياً تهدد ايران بعمل عسكري لمنعها من امتلاك أسلحة نووية. و"عليه نأمل من واشنطن أن تكون دولة غير منحازة وتضغط على إسرائيل لجعل الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية!". والملفت أن قناة"سي ان ان"الأميركية فتحت منذ شهر ملف إسرائيل النووي، وتساءلت عن سبب حاجتها الى هذا السلاح إذا كان قيام الدولة الفلسطينية يؤمن لها الأمن والاستقرار؟ * كاتب وصحافي لبناني