هناك بلدان يمكن، عبر انفجار تناقضاتها الداخلية وتحولها إلى مسارات معينة، إعادة صياغة الإقليم المحيط بها، كما حصل في أفغانستان بين عامي 1998و2001، فيما يمكن استغلال مشاكل داخلية متفجرة في بلد معين من أجل إعادة صياغة داخله وهويته ولأجل إعادة رسم الأدوار الإقليمية للدول المحيطة فيه، كما جرى في السودان، من خلال مشكلتي الجنوب ودارفور بين عامي 2002-2006، في اتجاه تحجيم حكم الوسط والشمال العربيين له منذ الاستقلال وفي منحى اعطاء الغرب الأميركي والأوروبي عبر اتفاقيتي نيفاشا وأبوجا، دوراً اقليمياً غالباً للدول الافريقية المحيطة بالسودان على حساب مصر وليبيا. يلاحظ الآن بعد سيطرة"المحاكم الاسلامية"على العاصمة الصومالية ومناطق واسعة في شمالها وجنوبها خلال النصف الأول من حزيران يونيو، عودة الاهتمام الدولي والاقليمي بالصومال واشتعاله بعد خبو وبرود استمر منذ حزيران يونيو 1993 عندما انسحب الأميركيون من العاصمة مقديشو بعد ستة أشهر من التدخل، ما يعيد إلى الذاكرة وضعية مماثلة عاشتها أفغانستان عقب انسحاب السوفيات منها في 15 شباط فبراير 1989 حتى سيطرة حركة"طالبان"على كابول في 26 أيلول سبتمبر 1996 أو بالأحرى حتى انفجار التناقضات بين واشنطن و"طالبان"في آب اغسطس 1998 بعد تفجير السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام من قبل تنظيم"القاعدة"الذي أعلن عن تأسيس جبهته العالمية في شباط فبراير 1998 من قبل ابن لادن والظواهري المقيمين في أفغانستان. كانت مسارات الصراع الأفغاني بين"طالبان"وتحالف الشمال، تؤشر إلى اتجاه أميركي لتحجيم باكستان بخلاف ما كانت عليه الأمور في فترة الحرب الباردة وإلى تغليب أميركي للدورين الهندي والروسي في الشأن الأفغاني مع غض نظر من قبل واشنطن حيال الدور الايراني الداعم لبعض فصائل تحالف الشمال. هنا، إذا قارنا بين أفغانستانوالصومال، فمن الواضح الآن أن هناك انقلاباً في النظرة الأميركية الى إثيوبيا عما كانت عليه الأمور في زمن حكم الكولونيل هيلا ميريام الذي كان حليف السوفيات بين عامي 1977و1991، في اتجاه دعم"دور ما"لأديس أبابا في الشؤون الصومالية بانت ملامحه الأولى منذ النصف الثاني من التسعينات عبر دعم الإثيوبيين لجمهورية"أرض الصومال"في الشمال ولبعض ميليشيات زعماء الحرب الصوماليين في الجنوب والوسط الذين مالوا إلى مبادرات اثيوبية للمصالحة الصومالية بخلاف تلك التي دعت إليها الجامعة العربية بالقاهرة، وهو دور يبدو أنه لن يكون بعيداً عن الدور الذي لعبته أوغندا وكينيا في قضايا جنوب السودان أو عن دور نيجيريا وتشاد في أزمة دارفور. يلاقي هذا هوى معيناً عند أطراف عديدة في الساحة الصومالية، وقد كان من الواضح وجوده عند الحكومة المؤقتة في بيداوة عقب سقوط مقديشو بأيدي الاسلاميين، فيما تنطلق الحسابات الاثيوبية من استعادة دور اقليمي يوازن ما أخذته أوغندا وكينيا أو أريتريا عبر مشكلة شرق السودان وعلاقات أسمرا الواسعة بالقوى السودانية المعارضة لحكم البشير، ليحقق لأديس أبابا وصولاً آمناً ومريحاً الى البحر لم تعد تؤمنه المرافئ الأريترية أو جيبوتي، كما يمكن لإثيوبيا، عبر التحكم بالمسارات الصومالية بغطاء دولي وافريقي، منع الصومال من أن يكون قاعدة لحركات المسلمين الاثيوبيين المعارضة من قومية الأمورو في الغرب والجنوب أو للصوماليين الاثيوبيين في اقليم أوغادين الذي أدى التنازع عليه إلى حرب 1977 مع الرئيس الصومالي سياد بري، في وقت يعاني الحكم الإثيوبي الحالي بزعامة ميليس زيناوي المستند أساساً هو وحزبه المسمى الجبهة الديموقراطية الثورية لشعب اثيوبيا إلى قومية التيغري 12 في المئة من السكان من معارضة واسعة تتركز أساساً ضمن قومية الأمهرا 25 في المئة التي كانت الحاكمة في العهد الملكي وفي عهد هيلا ميريام. من الواضح أن هذا الاتجاه الاثيوبي لن يلاقي الصد في واشنطن أو في العواصم الأوروبية إن ترسخت الأمور للاسلاميين في مقديشو. كما أن العاصمة الكينية لن تكون ضده رغم مشاكلها الحدودية مع الاثيوبيين ما دامت عينها على مسلمي الساحل الكيني الذين يرتبطون بروابط عرقية وتاريخية مع الصومال. هل ستتجه الولاياتالمتحدة، ومن ورائها الاتحادان الأوروبي والافريقي، إلى انشاء"تحالف شمال"صومالي ضد اسلاميي"المحاكم الاسلامية"تكون اثيوبيا داعمته الرئيسية؟ واذا حصل هذا فماذا سيعنيه على صعيد العلاقات العربية - الافريقية عندما ستتحول الدول الافريقية بدعم دولي وافريقي المجاورة لبلدين عربيين هما الصومال والسودان، إلى صياغة المسارات فيهما بمعزل عن بلد عربي رئيسي هو مصر. من الواضح أن ذلك سيؤدي ليس فقط إلى فقدان مصر الرأي والنفوذ في السودان، وإنما أيضاً إلى مجابهتها لوضع جديد لم يكن موجوداً منذ أيام محمد علي باشا الذي وصلت جيوشه إلى منابع النيل الجنوبية عندما ستصبح دول منابع النيل، أي اثيوبياوأوغندا وكينيا، ذات أدوار اقليمية غالبة على المحيط المجاور وبغطاء دولي. * كاتب سوري