فتحت وفاة ميليس زيناوي رئيس الوزراء الإثيوبي المجال للمزيد من التكهنات والتساؤلات حول عديد من الملفات المفتوحة على المستوى الداخلي والمحيط الاقليمي والخارجي أيضاً، باعتباره أحد أهم اللاعبين المهمين في ميدان السياسة الإفريقية، ولا تتعلق هذه الملفات بمستقبل إثيوبيا الاقتصادي والسياسي فحسب بل وضع منطقة القرن الإفريقي. حققت إثيوبيا تحت قيادة زيناوي خلال العقدين الماضين إنجازات تنموية واقتصادية مقدرة أمنت لها استقراراً نسبيًا على الصعيد الداخلي، وكان يطمح في استكمال مشاريع تنموية نوعية تنقل إثيوبيا من مرتبة إحدى أفقر دول العالم إلى مصاف الدول المتوسطة الدخل، حيث كانت تحقق سياساته الاقتصادية نسبة نمو اقتصادي تصل %11 سنوياً يقابلها نسبة تضخم ال 20% إلا أن الطريق أمام أجندة ميليس كان وعراً ومليئاً بتحديات كبيرة، خاصة بعد اندلاع صراع مرير تطور إلى حرب مدمرة بين أريتريا وإثيوبيا في 1998-2000، كان من تداعياتها بروز خلافات داخل حكومته حول مسار الصراع مع أريتريا، حيث طالب خصومه بتصعيد الحرب مهما كلف الأمر، بينما كان يرى ميليس التوقف عند حدود استعادة المنطقة المتنازع عليها بدلاً من السعي إلى تحقيق نصر يرهق البلاد اقتصادياً ويعطل عجلة التنمية. وبرزت إثيوبيا كدولة محورية في القرن الإفريقي تضطلع بمهمات ذات صلة بأمن واستقرار المنطقة بمباركة وتشجيع غربي، خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية وأصبحت إثيوبيا تحت قيادته موضع رهان الولاياتالمتحدة كحليف استراتيجي لها في المنطقة، بعد أن كان قد اهتز التحالف التاريخي بين الولاياتالمتحدة وإثيوبيا في عهد نظام منجستو هيلا ماريام الشيوعي نتيجة تحالف ذلك النظام مع الاتحاد السوفييتي في حينه، وتوافقت المصالح الأمنية الإستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة والمصالح الأمنية الإثيوبية في مواجهة حركة الشباب في الصومال، التي تفتقر إلى حكومة مركزية منذ 22 عاماً، وأرسلت إثيوبيا قوات عسكرية إلى الصومال في 2006 تحت غطاء أممي «الأممالمتحدة» وإقليمي «الاتحاد الإفريقي» لمساعدة الحكومات الانتقالية المتتالية في الصومال حتى الآن، وأصبح الصومال مسرحاً أخر للصراع بين أريتريا والصومال في ظل الصراع الذي لم يحسم بين البلدين، كما سعى زيناوي إلى لعب دور قيادي في القارة الأفريقية من خلال تفعيل دور بلاده في الاتحاد الإفريقي في قضايا السلام والتغير المناخي، فقد لعب دورًا ملحوظًا في اتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان، خاصة في تثبيت مبدأ حق تقرير المصير لجنوب السودان في إطار تلك الاتفاقية التي أفضت إلى استقلال الجنوب، وكلفت قواته بحفظ السلام في منطقة إبيي المتنازع عليها بين السودان ودولة جنوب السودان، ومن المعروف أن إثيوبيا تحتفظ بعلاقات متوازنة مع كل من الخرطوم وجوبا، وأيضاً رحل زيناوي قبل أن تحسم ملفات سياسته الخارجية تجاه الأزمة الصومالية والنزاع الأريتري الإثيوبي وفق ما كانت تتطلع إليه إثيوبيا بقيادته. السؤال الذي يطرح نفسه ماذا بعد رحيل زيناوى؟ هل تنجح أثيوبيا بقيادتها القادمة في سد الفراغ؟ هل تتجنب أثيوبيا الهزات الاقتصادية؟ وبالتالي استكمال أجندة البناء والتنمية التي كانت محور سياسة زيناوي، وكيف سيكون مستقبل العلاقات مع دول الجوار خاصة أريتريا والصومال والسودان؟ وهل سيطرأ عليها تغيير، وكيف سيكون حال التعاون مع الاتحاد الافريقي؟ ويؤكد خبراء الشأن الأفريقي أن وفاة زيناوي تهز بشكل كبير منطقة القرن الإفريقي، كما أن غيابه خلف فجوة كبيرة في السلطة وآثار التساؤلات حول دور إثيوبيا في المنطقة في الوقت الذي جعل زيناوي لأثيوبيا دوراً كبيرًا في منطقة القرن الأفريقي بما في ذلك العلاقات بين بلاده وبين أريتريا والصومال المضطربة، محذرين من أن استقرار القرن الإفريقي يعتمد على الانتقال السلمي للسلطة. «التسامح مع المعارضة والقوميات» يرى السفير أحمد حجاج رئيس الجمعية الأفريقية «إن زيناوى أحدث توازنات داخلية وإقليمية ودولية وبوفاته لا اعتقد أن هذه التوازنات ستسير كما يأملها أصحاب المصالح الذين كانوا يراهنون دوماً على تحركات زيناوى ومواقفه وقراراته»، مشيراً إلى «أن أثيوبيا بالرغم من اقتصادياتها المتواضعة إلا أنها في عهده حققت نمواً اقتصاديًا كبيراً قدره البنك الدولي بحوالي 11 % كما شهدت البلاد في عهده عملية تنمية واسعة تضمنت بناء سدود أهمها سد الألفية وإقامة بني تحتية ومشاريع زراعية ضخمة، وأنا أرى صعوبة استمرار هذه الإنجازات في ظل ما سيكون عليه الحال الآن من إفراز شخصية بحجم زيناوي، فضلاً عن الخلافات على اعتلاء المنصب من المعارضة الأثيوبية ومن القوميات المتعددة، ولا ننسى أيضاً التدخلات والعوامل خارجية التي من المقرر أن تلقي بظلالها على تطورات الأوضاع في إثيوبيا خلال الأيام القليلة المقبلة». «تراجع الدور الأثيوبي» من جانبه يرى د. هاني رسلان رئيس تحرير ملف الأهرام الاستراتيجي ورئيس وحدة دراسات دول حوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية أن «رحيل زيناوي خلف تركة ثقيلة وهواجس لا نهاية لها ومخاوف داخلية وإقليمية ودولية لا حجم لها، مؤكداً أن الموقف سيزداد سخونة خلال الفترة القليلة المقبلة، حيث تبدأ التحركات على مختلف الأصعدة بل بدأ التفكير والاستعداد لها عقب وفاته المفاجأة مباشرة»، مشيراً إلى أنه «لا شك أن رحيل زيناوي سيخلق فراغاً سياسياً واقتصادياً باعتبار أنه جعل من أثيوبيا مسرحاً للعمليات وجعل من نفسه لاعباً مهماً للنظام العالمي، وبوفاته أحدث حالة من الارتباك لكل اللاعبين على هذا المسرح لسنوات طويلة». وتوقع رسلان أن يؤدي «غياب زيناوي عن الساحة الأثيوبية إلي حدوث خلل بهذه التوازنات والتحول إلي مرحلة من الاضطراب والفوضى سعيًا للوصول إلي توازن جديد وهو ما سيؤدي إلى انشغال النظام الإثيوبي الجديد بالشأن الداخلي والمحلي والتراجع عن فكرة لعب دور إقليمي بالمنطقة، وهو ما سيتبعه ضعف وتراجع الدور الإثيوبي بالمنطقة وفى القارة الإفريقية». «سيناريوهان» يرى الدكتور حمدي عبد الرحمن خبير الشئون الإفريقية وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن «هناك تطورات ستطرأ حتماً على أثيوبيا خلال الأسابيع المقبلة، والتي من المؤكد أنها ستؤثر بلا شك في الوضع السياسي والاقتصادي والأمني في القرن الإفريقي لسنوات مقبلة، مؤكداً أن «هناك سيناريوهين يحتلان الصدارة في مستقبل أثيوبيا ما بعد زيناوي، السيناريو الأول تسوية مسألة الحكم بالخلافة السياسية بشكل يضمن بقاء الأوضاع على ما هى عليه عبر اختيار أحد أعضاء حزب زيناوي المقربين من أفكاره، والثاني أن يحدث صراع على السلطة لن يحسم في الوقت القريب». ويقول الدكتور حمدي «فى السيناريو الأول فإن أفكار ورؤية زيناوي ربما لن تتغير لأنه كان لديه مشروع إقليمي ودولي معروفة خطوطه، خصوصًا أنه أصبح الوكيل الحصري لأمريكا ضد «الإرهاب» في إفريقيا، مما أعطاه قوة إقليمية أدى إلى تحول إثيوبيا لمركز القوة في شرق إفريقيا بدلًا من كينيا، وهو ما سيسير عليه خلفه التوافقي، أما إذا تنافر الفرقاء فإن هذا سيكون له تبعات على كل الملفات الإقليمية والدولية حتى الداخلية، حيث أن النظام في أثيوبيا مركب ويتكون من مجموعة من القوميات التي توجد بينهم خلافات كبيرة في اللغة والثقاقة والدين، فكل منهم يشغل حيز جغرافي معين في أثيوبيا، وكل منهم يريد أيضًا الانفراد بالسلطة وأخذ حقه منها بعد الانفراج، وهو ما سوف ينعكس سلباً على الأوضاع الداخلية للبلاد بسبب زيادة عدد الأقليات فيها والتي ترغب في أن تستأثر بالسلطة واختلال التوازن الداخلي، وبالتالي سوف يؤثر ذلك على الإستراتيجية التي كان يتبعها زيناوي لتحويل أثيوبيا إلى دولة مسيطرة في القرن الإفريقي إلى إعادة صياغة المواقف، وهو ما يحيي طموحات القوميات الشريكة في الجبهة بحيث تسعى لدور أكبر يتناسب مع حجمها السكاني، خصوصاً الأورمو حوالي 35% والأمهرا أكثر من 20% . «مطبات سياسية» بدوره، توقع الدكتور حسين مراد وكيل معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة أن «تظل أثيوبيا ما بعد زيناوي حليفاً وثيقا لأمريكا، معتبراً أن أديس أبابا أكبر متلقي للمساعدات البريطانية، حيث وصل حجم المساعدات ما يقارب 2مليار دولار خلال السنوات الأربع، في حين أن الولاياتالمتحدة تعتبر أكبر مساهم في المساهمات الثنائية لأثيوبيا، حيث بلغت قيمة المساعدات المقدمة منذ عام 2007 من الولاياتالمتحدة أكثر من مليار دولار سنوياً»، مشيراً إلى أن «هذا الدعم اللامحدود من الغرب يدل على أن الأخير لا يهتم بمسألة إيقاف القمع وانتهاك حقوق الإنسان، خصوصًا أن هذا الدعم المتواصل هدفه قتل الإسلاميين المتشددين خاصة دول الجوار، مؤكداً أن هذا الدعم كان بغرض ذلك، ولم يغير شيئًا من حياة السكان المدنيين بسبب سياسة الحكومة الإثيوبية»، كاشفاً عن وجود أدلة على أن الحكومة الإثيوبية تستخدم المليارات من الدولارات التي تصل إليها كمعونة إنمائية كأداة للقمع السياسي، منوهاً إلى وجود قرى بأكملها يتضور سكانها جوعاً في المناطق الجنوبية بعد أن حرموا من الغذاء بسبب عدم دعمهم لزيناو»ي. «ربيع إفريقي» من جانبه، توقع الدكتور بدر حسن الشافعي الباحث في الشأن الإفريقي «اندلاع صراعات عرقية وسياسية خطيرة ملتهبة داخل أثيوبيا خلال الفترة المقبلة بعد رحيل زيناوي، خاصة وأن هناك طموحات لدى المعارضة في الداخل الإثيوبي للظهور، وأيضًا هناك طموحات للمعارضة في الخارج للعودة إلى بلادهم مرةأخرى»، موضحاً أن المعارضة الأثيوبية تتركز في عدد من الدول المجاورة في مقدمتها أريتريا الجارة اللدودة لإثيوبيا. وأضاف الشافعي «غياب زيناوي قد يجدد آمال أفورقي الرئيس الأرتيرى في تعزيز صلاته مع معارضي الوجود الإثيوبي», وتوقع د. الشافعي «انطلاق ربيع أفريقي بين النظام والمعارضة في إثيوبيا بعد وفاة ميليس الذي حكم بقبضة من حديد طيلة 21 عاماً، وأن التوقعات تؤكد بأن عمر رئيس الوزراء الجديد في الحكم قصير».