السؤال الذي طرحه الأميركيون على أنفسهم بعد 11 ايلول سبتمبر، وجدوا له جواباً، فالسياسات الأميركية المتعاقبة تجاه قضايا العرب والمسلمين بصفة عامة، ربما كانت سبباً رئيساً، لكن السؤال ذاته، يطرق أبواب العراقيين بدموية مرعبة، من دون تلمس إجابة منطقية تبرر كل هذه الكراهية تجاههم. ليس الارهاب وحده، يمارس كراهيته، فهؤلاء يتبعون منهجاً مغايراً لكل ما هو بشري، وهو خليط من خرافة وعقد وسلوكيات أطلقت الغرائز من عقالها متلبسة بآلهة وثنية، أخرجتها من كهوف الجحيم، فباتت وباء يهدد المجتمعات كافة. لكن المشكلة، انها من المرات النادرة التي تكاد فيها شرائح متناقضة ومختلفة بشدة - نخب ثقافية واعلامية وسياسية، تضم خليطاً من كل ما عرفته مساحة الأرض العربية، أن يجتمع معظمها على مساندة الارهاب في العراق وحده، حيث يتحول خطاب تلك النخب، الى نوع من ايديولوجيا غرائبية لا تخضع لاحكام العقل في تحديد معالمها، فما هي اذاً؟ وكيف يمكن مقاربة مصدرها؟ فتحت سلسلة المجازر ضد العراقيين، قوس المفردات التي كانت حتى الأمس بين مزدوجين، كناية عن اتضاح طبيعة العدو واستهدافاته التي وصلت الى العصب الحي، اذ لم تعد الاسئلة تدور حول ماهية هذا العدو والى أين يريد الوصول، بل حول البحث عن اساليب المواجهة وكيفيتها وما تقتضيه من أدوات وحشد، فليست المعركة ذات طابع سياسي يمكن من خلاله ارساء قواعد معقولة لادارة اللعبة، ولا هي انطلاقاً من مختلف مذهبي ضمن معتقدات ايمانية واحدة، يمكن فيها استدعاء المشترك الموحد لتدارك المتعارض. انها باختصار مواجهة قاسية مع وثنية اسطورية خرافية تعتاش على القتل والدماء، هذه محصلة يمكن استنتاجها من مقاربة الخطاب التكفيري الالغائي الذي تنتهجه بعض الجماعات، في تشابهه المتماهي مع الاساطير الوثنية عند حضارات ما قبل الاديان السماوية، تلك الاساطير التي تتحدث عن آلهة القتل والدمار ممن لا يهدأ غضبها الا بتقديم قرابين بشرية تعبيراً عن مقدار شهوتها للدماء. القراءة في الخطاب التعبوي لتلك الجماعات، لا شك ستحيله الى موروث أسطوري يعاد احياؤه بلباس ومفردات أخرى، فالإله الذي يهمس لهذه الجماعات بضرورة القتل الجماعي وتتخذ منه راعياً وموجهاً، لا يقارن مع"الله"الغفور الرحيم الذي ارسل انبياؤه وآياته البينات لخير الانسان وهدايته، بل هو نظير ل"إيرا"إله الدمار البابلي الذي يقتل الابن فيدفنه أبوه ثم يقتل الأب فلا يجد من يدفنه، كما جاء في الاسطورة البابلية، أو"مارس"إله الحرب عند الاغريق الموكل بمهمة كونية تتمثل بإشعال الحروب وإثارة الفتن. لكن هل هذه الجماعات وحدها تتخذ من الاسطورة نهجاً وموجهاً؟ وكيف وصل بها الأمر الى هذا المستوى؟ من البديهيات المعروفة أن مواجهة الشيء، تقتضي ايجاد ما يناظره أو ما هو مشتق منه، وأسطرة المعتقدات الدينية ليست جديدة بحد ذاتها، لكن جدتها تكمن في ما دخل عليها من تقنيات تجعل من مواجهتها أمراً في غاية الصعوبة، فالاسطورة المشتقة من مقولات توراتية هي التي تأسست بموجبها دولة"اسرائيل"وهي من تتحكم الآن في مصائر شعوب وأمم بأكملها نتيجة تداخلها وتأثيراتها المتزايدة في الادارات الأميركية المتعاقبة منذ عهد"رونالد ريغان"في شكل أخص، وقد ازدادت وتيرة الايمان الاسطوري لما يعرف باليمين المسيحي داخل المجتمع الأميركي في شكل متسارع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، حيث شكل ذلك السقوط زخماً وصدقية لما كان ينادي به المبشرون اليمينيون من اقتراب معركة"أرمغدون"الحاسمة ضد قوى البشر وطليعتها العرب والمسلمون ومن تحالف معهم. لقد أشار الكثير من البحوث الى أن العداء للاسلام في أوساط اليمين المسيحي على وجه الخصوص، يعود بجزئه الأهم، الى أن الاسلام هو المعتقد الوحيد الذي يمتلك"مقولاته"الخاصة عن الخير والشر والمعركة الفاصلة بينهما التي ستنتهي بانتصار ساحق لقوى الاسلام يعم بعدها السلام على البشر، أي انها مقولة تناقض تماماً الرؤية الاخرى لليمين المسيحي، حيث الاختيار الالهي سيقتصر على الذين سيعيدون بناء الارض وابقاء الحياة ضمن أسس جديدة تكون فيها السيادة كاملة للرؤية التوراتية. لقد حشدت لتحقيق هذه الاسطورة، كل ما انجزته العلوم الحديثة من وسائل بطش، بحيث اصبح ما لدى أميركا من أسلحة قادراً، ليس على تدمير الارض وحدها، بل وربما جزء كبير من مجموعتنا الشمسية، في مقابل ضعف القدرات والامكانات المادية لدى أصحاب المعتقد المضاد. وكما تماهى اليهود مع معتقدات آشور وبابل عند سبيهم اليها، وبالتالي تبنوا معظم اساطيرها وبنوا مقولاتهم على اساساتها، كذلك تتبنى هذه الجماعات التكفيرية خطاب اليمين المسيحي الذي يحثهم على تدمير كل من لا يتبنى رؤيتهم وتفسيراتهم. قد تحتاج المقارنات بين طبيعة الرؤية والخطاب التعبوي عند الجماعات التكفيرية في الاسلام ومثيلها في بقية الأديان، الى أكثر من مقالة وبحث ابتداء من الاسترجاع التاريخي، فالمعروف أن الاسطورة رافقت الانسان منذ الوجود الأول له على الارض، ومن خصائصها أنها تحتمل الاضافة والحذف والتحوير واعادة الصياغة، خصوصاً في تناقلها وروايتها وتفسير اسقاطاتها ومعناها، ومع توالي الوقائع والاحداث التاريخية، تكيف الاسطورة نفسها تبعاً لذلك بل وربما استجابة له، فتدخل في سياق المعتقدات الدينية باعتبارها مكوناً اساسياً من مكوناتها، ومع مرونتها وقابليتها للتكيف وفي اطار منافستها للمعتقد الاصلي ذي المنشأ الديني، تتقدم تدريجاً لاحتلال العقل، حيث تتحول من كونها اسطورة، الى كونها يقينيات ايمانية مطلقة يعمل على تجسيدها بشتى السبل. وظاهرة التكفير عرفتها الاديان جميعها، ففي اليهودية شهدت الحقب التاريخية المختلفة، اتهامات متبادلة بين رجال الدين حول مخالفة تعاليم الرب، وفي المسيحية وقعت احداث كثيرة بين اتباع الكنائس المختلفة حيث وصل الاتهام بالهرطقة حد احلال حرق الآخر المختلف، لتطهيره من الكفر والاتصال بالشيطان، أما في الاسلام، فقد شهدت معركة صفين الظهور الأول لهذا النوع من الدعوات تمثل ب"الخوارج"، ومن ثم تتالت الفتاوى التي اخذت منحى سياسياً ربطت فيه بين طاعة الله، وطاعة الحاكم باعتبارهما كلاً واحداً، وقد وضعت اساسها الفقهي مقولة"من قويت شوكته وجبت طاعته". الخلاصة، أن التكفير وأسطرة الموروث الديني، هما ظاهرة سياسية بدرجة أساس، تتلبس الدين لحاجتها الى مشروعية تحرك وقوة خطاب واقناع، حيث ان التعاليم الدينية أكثر رسوخاً وثباتاً من القضايا السياسية المجردة، هذا ما تعرفه تلك الجماعات وتستغله ايما استغلال، وهو ما تظهر نتائجه في العراق، الذي عليه مواجهة تجمع"آلهة الموت"والدمار الاسطورية. لذا تتبنى النخب المذكورة، خطاب الجماعات التكفيرية على أرض العراق، في إحياء جديد لأيديولوجيا تلبس ثوب الاسطورة في مزيج فجائعي. لقد وجّه البولنديون حينما حوصروا من أعدائهم، نداء استغاثة الى شاعر فرنسا الاكبر فكتور هوغو قائلين: النجدة أيها الأخ الأكبر، قل كلمة الحضارة، لكن أطفال العراق، لن يجدوا من يوجهون نداءهم اليه، لادراكهم أن بعض ما يفترض أنهم"هيغوات"العرب، قد اصطفوا الى جانب الهمجية والارهاب. * كاتب عراقي