شدد القاص والروائي السعودي عمرو العامري على أن الموروث كنز يمكن أن ينهل منه الجميع، محذرا من فقدانه نتيجة كونه موروثا شفهيا غير مدون على الرغم من وجوده في كثير من عاداتنا وممارساتنا اليومية، مشيرا إلى أن الاستفادة منه لا تقتصر على بقعة دون أخرى، وأنه بقي كنزا نهل منه الأدب في مختلف أصقاع المعمورة، متسائلا ومحذرا "هل لنا أن نعي أنه بموت شيخ أو عجوز تموت حكايات وأساطير وتأريخ وللأبد وينطفئ سراج ظل ينير طويلا"، وأنه بإعادتنا الأساطير وخلقها وإحيائها من جديد نعيد إلى الإنسان دهشته الأولى؟". وقارن العامري بين اللغة التي يستخدمها الغرب دون حساسيات وخشية الوقوع في المقدس والمحرم، والقلق المفرط في اللغة العربية التي لم تفرق بين اللغة كلغة، وبين بعض المفردات كمقدس ما جعل المبدع الغربي يعود لاستخدام الأساطير الإغريقية أو حتى التوراتية الدينية دون الخوف من الوقوع في طائلة المحرم. وكان العامري شارك الأسبوع الماضي بأمسية ثقافية نظمها فرع جمعية الثقافة والفنون بجازان، تحدث فيها عن تراث وأساطير منطقة تهامة، جازان تحديدا، عبر ورقة قال إنها مسار من مسارات إصداره الأخير "من أساطير القرى - مرويات تهامية" عن طريق دار أزمنة في الأردن. حاجة وقال العامري "ما زلت على يقين من صحة مقولة البير كامو: كم هم فقراء من هم بحاجة إلى الأساطير، ومن صدق تساؤلات الشاعر محمد العلي في قصيدته "لا ماء في الماء": ما الذي سيبقى إذا رحت أنزع عنك الأساطير؟. ربما يظن البعض أن الأساطير حكايات قالها أو عمل بها الأقدمون، وأنه يجب علينا الحفاظ عليها كمورث لا أكثر، غير أنها أعمق كثيرا من ذلك، إنها تذهب بعيدا في أعماق وذاكرة الناس وتشكل جزءا كبيرا من وعيهم أو لا وعيهم ولغتهم وخيالهم وحكمهم على الأشياء". ويكمل "المتتبع للآداب الحديثة الحية ولأعظم الشعراء والروائيين سيجد اغترافهم اللامحدود من أساطيرهم الإغريقية والرومانية وأساطير الهنود الحمر وسكان بلاد الشمال البادرة أو (التندرا) كما يطلق عليها، بل حتى من أساطيرنا العربية الشحيحة كألف ليلة وليلة. جابرييل جارسيا ماركيز أعظم روائيي القرن العشرين يؤكد أنه لو لم يعثر على "ألف ليلة وليلة" صدفة في مكتبة جده لما صار أديبا، "هو ما صنع مني أديبا، بعد أن سحرتني الحكايات داخله، وأكثر ما شُغِفت به هو دور الراوي"، ويقول أيضا "تعلمت من ألف ليلة وليلة ما لن أنساه أبدا، وهو أنه يجب أن نقرأ فقط الكتب التي تجبرنا على أن نعيد قراءتها. جوته وبورخيس وبوشكين أيضا اعترفوا بتأثير ألف ليلة في ذائقتهم، ومن أعظم الآثار الأدبية الخالدة التي أثرت الفكر العالمي ملحمة الإلياذة لهوميروس والأوديسة، والتي سجلت ملاحم الإغريق والرومان الكبرى ثم الشهنامة الفارسية وكرشينا الهندية والأساطير الفرعونية وأساطير وادي الرافدين، وكتاب ألف ليلة وليلة ورسالة الغفران للمعري، ثم الكوميديا الإلهية لدانتي وغير ذلك من آثار عالمية. بل إن الغربيين تعاملوا مع الإرث التوراتي كإرث أسطوري يستمدون منه الحكايات ويضمنونه أشعارهم وكتاباتهم ولغتهم اليومية دون خوف أو قلق من الوقوع في دائرة المقدس أو المحرم، والنظر إليه كلغة كما هو القلق المفرط في اللغة العربية التي لم تفرق بين اللغة كلغة، وبين بعض المفردات كمقدس، ما جعل المبدع الغربي يعود لاستخدام الأساطير الإغريقية أو حتى التوراتية الدينية دون الخوف من الوقوع في طائلة المحرم". إعادة حياة يقول العامري "أعاد الغربيون الحياة إلى الأساطير من خلال إطلاق أسمائها ورموزها على المركبات الفضائية والصواريخ الحربية وموديلات السيارات وأسماء كثير من الأشياء التي نتعامل دون أن نعرف أنها تحمل أسماء أسطورية في الأصل". ويتساءل "لم لا يوجد توظيف أو تضمين للأساطير العربية أو المحلية في إبداعاتنا الفكرية والأدبية؟ وهل يوجد من الأساطير ما هو جدير بالتسجيل أو التضمين ضمن إبداعاتنا الفكرية؟. سأدعي وبضمير غير قلق أن كل ما حولنا يحمل ملمح الأسطورة.. الأرض وحكايات الناس وما عبر هنا من حضارات وأديان وأجناس وأمم. وقدر هذا الجزء من العالم، وأعني تهامة وقوعه على تقاطع قارات ثلاث، وحضارات عدة، المحلية القديمة ثم الإسلامية.. الفرعونية.. الأفريقية.. والهندية، بل ونقول حتى الرومانية، إضافة إلى الأديان السماوية وغير السماوية، ومن المحال أن يعبر هذا كل الزخم والإرث التاريخي دون أن يترك تأثيره وبصمته على المكان وابن المكان، ولكن أين هو الآن؟. هذا الإرث ربما ليس ظاهرا بوضوح، ولم يعد حتى محكيا، غير أنه متغلغل كثيرا في عادتنا ولغتنا وحياتنا اليومية دون أن نشعر، وكثير من مفرداتنا المحلية وعادات الزوج وطقوس الفرح والختان مسكون بكثير من هذه الأساطير، وإن لم تستلهم كعمل أدبي كما في الثقافات الأخرى، ولهذا أسبابه الثقافية والسياسية والدينية وعدم الوعي بغنى هذه الأشياء والخسارات التي لن تعوض بفقدها جعل كل هذا المورث الذي هو شفهيا في الأغلب.. جعل كثير منه يُفقد ويضيع". عدم وعي ويركز العامري على أن "الأسباب الثقافية في الأغلب تأتي بعدم الوعي بهذا الكنز الهائل الذي نمتلك.. ومحاولة البعض تهميش كل ما هو محلي بحجة الهوية وإعلاء ثقافة منطقة على حساب أخرى باسم الوحدة الوطنية، دون إدراك أن التنوع هو الغنى الكامل الذي يجعل هذه الوحدة أكثر جمالا وإبهارا وتنوعا. لكن الأخطر هو طمس كل ما هو قديم وسابق بذرائعية غير مبررة كاعتبار ذلك رموزا وثنية أو شركية والوقوف ضد كل ما يعد التأصيل لمثل ذلك، ثم وهذا هو الأخطر اعتبار اللغة كائنا مقدسا، وبالتالي وضع دوائر وخطوط حمراء على كل مفردة أو مقولة بحجة أن هذه الكلمة أو المفردة اجتزاء من نص ديني أو تلميح له، وهنا يأتي الوقوع في دائرة التفسير ثم التكفير. ولعل أقرب مثال على هذا ما أحدثه كتاب "الحداثة في ميزان الإسلام" للشيخ عوض القرني من زلزال في مسيرتنا الأدبية في منتصف الثمانينات وكيف تم اجتزاء وابتسار مقاطع كثيرة من سياقها واستخدامها الفني والأدبي وسجلت كدلالة على التعدي أو التطاول على المقدس. فكيف إذا ما أردنا الكتابة مثلا عن أسطورة بلقيس وعشتار وديانة القمر ومحابس الجن واستجداءات المطر والسعلاة والغيلان والتقمص والتناسخ وحكايات إعادة الخلق والواردة ضمن حكايات كثيرة مورثة تضيع الآن". رحيل ويتابع "الآن هذه الأساطير ما عادت تتلى منذ تتابع رحيل جامعيها بالموت أو بالهجرة وبتغير أسماء المعالم وهدم بعض الشواهد، وبالتالي أصبح يهددها الفقد والتلاشي.. الآن أصبح الناس أكثر وعيا بقيمة هذا الموروث وغناه بعد أن هاجمت موجة الاغتراب الإنسان وسط تغول الحياة الحديثة، إضافة إلى الإطلاع على المورث الأجنبي والإدراك أنه لا يختلف كثيرا عما هو لدينا، بل والبعض يتشابه معه.. والإرث الإنساني واحد". ويضيف "حسب ما أعرف فإن الأستاذ عبده خال أول من بادر إلى جمع البعض من هذه الحكايات في مجموعته "قالت عجيبيه".. محاولا ربط هذه الحكايات بأصل ديني أو أسطوري.. وقد سبق عبده خال يحي أم قاسم في روايته "الهربة أو ساق الغراب"، ولكن لا يحي ولا عبده ولا غيرهم فعل أكثر من القبض على هذه الأساطير ومحاولة تسجيلها دون الانطلاق من عمل ملحمي روائي أو شعري يتضمن هذه الأساطير وإدماجها في عمل فني.. غير أن هذا بكل الأحوال عمل جيد وربما يأتي من يستلهم منها أعمالا فنية، وهناك بعض الكتاب الشباب حاول استلهام بعض هذه الأساطير في أعمال قصيرة.. كالأستاذ أحمد يوسف في قصة "المغوي" وعبدالله عقيل في مسرحيته "أم الصبيان". أما على المستوى الفني أو الغنائي فأعتقد أن العمل الرائع الذي قام به الشاعر أحمد السيد عطيف في الأوبريت الذي كتب وأنشد بمناسبة زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز هو أول استخدام للموروث الغنائي والشعري في عمل مؤصل.. وقد بين ذلك العمل الغنى الذي تمتلكه هذه المنطقة". تساؤلات يطرح العامري تساؤلاته "هل لنا أن نعي أنه بموت شيخ أو عجوز تموت حكايات وأساطير وتأريخ وللأبد وينطفئ سراج ظل ينير طويلا؟، وأنه بإعادتنا الأساطير وخلقها وإحيائها من جديد نعيد إلى الإنسان دهشته الأولى؟ وأن ما يميز الشعوب والجماعات هو الهوية، وهذه الهوية تستند على الإرث الإنساني وعلى ما هو خالد في هذه الأرض؟". ويستعرض "بادر علماء الأنثربولجيا العالميون إلى الغوص عميقا في هذه الأساطير ومنشئها، محاولين الوصول إلى طفولة الجنس البشري وفك مغاليق الرحلة الطويلة من الكهف إلى سفن الفضاء، متخذين من اللغة التي هي الأساس معراجا ونبراسا لمثل لذلك، وكان النتاج أعمالا عظيمة أثرت الفكر العالمي وفسرت كثيرا من ظواهر الكون والذين قرأوا الغصن الذهبي لجميس فريز ثم يونج أو ما كتبه جاستون باشلار وليفي شتراوس وميشل فوكو يعرفون.. ونحن أيضا نمتلك ما يمتلكون وأكثر، فهل نضيف لبنة ولو صغيرة لفكرنا نحن أولا ثم للفكر الإنساني الكبير.؟. سنفعل لو فقط امتلكنا الإيمان بما نمتلك؟".