يعيد المشهد السياسي الفلسطيني الحالي رسم صورة الحياة السياسية العربية عموماً ويكثّفها، وهو إذ يدلي بسماته البارزة، ويطلّ بقسماته النافرة، فإنما يذكّر بما اعتمل في البنية السياسية العربية، على امتداد العقود الخالية. تأخذ حركة التفاعل السياسي بين فلسطين ومحيطها، اتجاهاً معكوساً للسابق، فلقد باتت الأرض العربية المحتلة هناك المنطلق، بعد ان كانت الوجهة والمقصد، وصارت"أرض القضية"هي مركز الثقل السياسي، بعد ان جال"المركز"على عواصم عربية عدة، متدثراً بشعارات وإيديولوجيات بادت، بعد ان نهلت شرعياتها طويلاً من بيانات التحرير والتصميم على استعادة الأرض السليبة!! لقد فشلت العقائد الشمولية الكبرى في تكوين اكثريات شعبية عربية، مثلما أخفقت الأحزاب"القومية"وسواها من أحزاب العقائد الكلية في تقديم نماذج اندماج وطنية وما فوق وطنية. كان الفرز والاستقطاب الحاد والإلغاء وسائل هذه الأحزاب للانفراد بالسلطات، مثلما كان ادعاء الإحاطة"العلمية"بمشكلات الأمة، وصواب الأجوبة المقترحة لها، وتنزيه"النظرية والقيادة"عن الخطأ سبيلاً من سبل إلغاء الحيوية الفكرية، ومحاربة التعدد، وتسفيه الديموقراطية، والنيابة عن"الجماهير"في صناعة خياراتها العامة. كان كل ذلك، بعضاً من"مقدمات الاستعداد للمعركة القومية الكبرى"التي لا تحتمل ترف الاختلاف في الاجتهاد، ولا تسمح بتهديد الوحدة، ولا تتسامح في موضوع متانة"الجبهة الداخلية"كشرطين لازمين لتحرير فلسطين!! لنراجع سريعاً ما آل إليه حال النظريات القومية، خصوصاً تلك التي استظلت راية"حركة القوميين العرب"او راية"الناصرية". ولنعاين مصائر"الوعود البعثية"، ولنمعن النظر في المحاولات الماركسية، التي أعلنت فرادتها ولم تتردد في مفاخرة أقرانها بأحزابها التي قدّت"من طراز جديد"!! نتيجة لمعاينة واقع التخلف والعجز والتشرذم و"الفوات العالمي"حتى لا نقول التاريخي، وكي نحتفظ بشيء من الأمل، لما هو قادم من تاريخ مستقبلي. نشهد الآن، وعلى أنقاض التجارب"العابرة للوطنيات"حلاً"إسلاموياً"يحاول إشغال الأماكن الشاغرة التي أخلتها العقائديات السابقة. في هذا المجال، تقول المعاينة ان حظوظ"السياسيين الإسلاميين"ليست أحسن حالاً من حظوظ أقرانهم"العلمانيين"، مثلما تنبئ التجربة بأن السمات الأساسية للأحزاب الشمولية"الدنيوية"لا تفترق كثيراً عن مثيلاتها في الأحزاب"الدينية"، بل انها قد تكون مضخمة لدى هذه الأخيرة، بسبب من طبيعة النشأة، ومن الخلفية الفكرية، ومن المنبت الاجتماعي الذي ترتكز عليه هذه الأحزاب. هذه العودة الاسترجاعية، تقرّب المعالجة الى حيز ملموس، عندما تنتقل الى الميدان الفلسطيني، في اصطراعه الراهن، وبعد ان سلّمت مقاليد"الحكومة"الى حركة"حماس"، التي تستند في مرجعيتها الفكرية الى مستندات"دينية"، وتتقدم باسمها، وتحت رايتها، لخلق مسوّغات سلطتها الزمنية. لم يعد خافياً ان"حماس"توّجت مسيرتها الى السلطة بفوزها في الانتخابات الأخيرة. ليس هنا مجال تكرار عناصر"الفوز الحماسي"، الذي يعود في بعض عناصره الى أداء"حركة المقاومة الإسلامية"مثلما يعود بعض الفضل فيه الى حصيلة ممارسة"حركة فتح"ومحصلة مسيرة السلطة الوطنية الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو وحتى تاريخه! بعيداً من هذا التكرار، يجدر الانتباه الى ان"حماس"وضعت"السلطة هدفاً لها"في زمن الرئيس الراحل ياسر عرفات، وتصرفت من هذا المنطلق"كشريك مضارب"، تحصد من الكفاح الفلسطيني غنمه، فيما كان الغرم السياسي ملقى في وجه عرفات الذي قضى محاصراً، لأنه رفض، من جملة ما رفض، المساس بسلاح"حماس"واستقوى في المقابل، بتنوعات الأطياف السياسية في الساحة الفلسطينية. الآن وبمقياس"عرفاتي"تبدو"حماس"غير عصية على الاندفاع فئوياً، ومستسهلة لإعادة كتابة التاريخ الفلسطيني، بحيث يبدأ الحفاظ على الثوابت الوطنية معها!! ويعلو شأن الكفاح المسلح معها ايضاً، ومعها، إضافة، تلامس الخطوط الحمر المفتوحة على"نزاع"أهلي داخلي، رفضت حركة"فتح"، بقيادتها التاريخية الاقتراب منه، بل إن هذه القيادة، بما اختزنته من خبرة نضالية، وبما حملته من تعدد فكري، وبما ارتضته من أساليب مرنة في إدارة الاختلاف، هذه القيادة شكلت عائقاً سياسياً صلباً في وجه كل انحراف داخلي، تفوح منه سياسة"ضيق الصدر"بالفلسطيني الآخر المختلف. مع قيادة الرئيس التاريخي ياسر عرفات، كان الاقتتال الداخلي"ضرب خيال"، وفي اللحظة الراهنة، دخل التفجر ضمن أهل البيت الواحد حيّز الاحتمال. تكمن المفارقة، في تاريخ الحركتين الفلسطينيتين، مثلما تكمن في بنية كل منهما. لقد نهضت حركة"فتح"في رحاب الاستقلالية الوطنية الفلسطينية، وجعلتها من الثوابت، وتمسكت بالوحدة، وصنفتها كحصانة اساسية من حصاناتها، ومعها ظلّت"الديموقراطية الفلسطينية"رباطاً داخلياً، يحفظ شؤون البيت الواحد، ويرسي دعائم اركانه. ظلت"العقلانية السياسية"قائدة للفكر السياسي"الفتحاوي"، الذي لا يستطيع احد ان ينكر"تدين"اقطابه، وتمظهرت هذه العقلانية في القدرة على إدارة"الخليط"الفكري والسياسي الذي ارتضى إطار"فتح"شكلاً تنظيمياً لنشاطه النضالي، كان في ذلك انعكاساً لطابع القضية الفلسطينية التي لا يمكن ان يقام الارتباط مع شعبها إلا من خلال عقلانية سياسية واسعة، تأخذ في الاعتبار واقعه التعددي، على معاني التعدد ووجوهه كافة. لا يمكن القول بتاريخ مماثل لحركة"حماس"، لا على صعيد التاريخ الاستقلالي، ولا على صعيد البنية السياسية والتنظيمية، بل ان وصول"فئوية سياسية"الى السلطة، يعتبر بمقاييس القضية الفلسطينية خطوة تراجعية في المسيرة النضالية عموماً، اذ ان كل تقليص لمساحة"الحكم شعبياً"، هو تقليص لمساحة المرونة الفلسطينية المهمة، وتضييق لرئة التنفس الديموقراطي، الذي لا يستطيع"القلب الفلسطيني"ان ينبض في معزل عن هوائه. لا يشكل ما تقدم مرافعة ضد نتائج الانتخابات الفلسطينية، لكنه ينبّه الى القصور عن استنتاج الخلاصات اللازمة لقيادة المسيرة الفلسطينية، ويتخوف من عدوى"الطهارة"الإيديولوجية العربية، ومن انتقال"عصمة القائد"الى السيرة الفلسطينية. هكذا واقع يعيد إنتاج مثال فلسطيني خاص على شاكلة أمثلة الفشل العام، الذي تتخبط ضمن جنباته أوضاعنا العربية. لطالما قيل ان الوحدة طريق فلسطين، وكان الحصاد تفتتاً متزايداً، لعل من الجائز القول ان الديموقراطية والعقلانية والسياسة السياسية، كلها خريطة طريق فلسطين، ووجهة سير العرب إليها. * كاتب لبناني