أفهم أن يسبغ أتباع القيادات الدينية هالات القداسة على رموزهم الدينية، ولكن أن تتحول صورهم إلى مقدسات صنمية لها القدرة على ممارسة الاستبداد الديني عليهم، فهذا أمر آخر. وقد يكون من الطبيعي جداً أن تفرض حالة الحب الموغلة في الإسراف للرموز الدينية تبعاتها"النفسانية"على مَن يجدون فيهم خلاصاً للواقع الذي يعيشون فيه وتصبح صورهم في حياتهم تعبيراً دقيقاً عن مدى التعلق بهم والسير في خطاهم والتشبث بأفكارهم. ان التعلق الشديد بصور الزعامات الدينية الأصولية وزعامات الفكر الشمولي أو التشبث بها كثقافة متأصلة في تفكير التابعين لها يشير بوضوح إلى مدى الهوس النفساني بهم والتسليم القلبي لهم الذي أصبح يتجاوز شكلية العلاقة العادية في ما بينهما لتتحول صورهم التي لا يتوانى البعض منهم حتى عن وضعها على شاشات هواتفهم النقالة إلى صنمية تحمل قداسة دينية مطلقة لا تقل عن قداسة شخوص رموزهم الدينية. أفهم أن يضع المراهقون على قمصانهم صوراً للمشاهير من الفنانين أو الفنانات أو اللاعبين، لكنني أفهم أن هؤلاء المشاهير لا يتبنون نظريات دينية أصولية أو فكرية متطرفة ولا يمارسون استبداداً دينياً أو فكرياً على معجبيهم، فالأمر لا يتعدى كونه تعبيراً عن الاعجاب بهم لا أكثر من دون أية دلالات أصولية دينية أو توجهات فكرية متطرفة. لذلك ليس غريباً أن نجد أن صور الزعماء الدينيين وغيرهم من أصحاب النظريات الشمولية تتصدر اهتمامات أولئك الذين يجدون في الصورة رمزاً دينياً أو فكرياً تجعل الصورة على اتصال عاطفي وقلبي معهم! ويمكننا أن نقرأ توجهات الكثيرين من خلال الصور التي لا يزالون يرفعونها علانيةً أو سراً في بيوتهم أو في مكاتبهم أو يضعونها في هواتفهم الخليوية وهي بالتأكيد تعكس حالة الحب التي تتعدى مجرد الإعجاب إلى التقديس المطلق. وليس هناك أسوأ من أن تستطيع صورة أن تحتل مساحة كبيرة في آمال وأمنيات محبيها وتتحول إلى واقع حقيقي يفرض هيمنته الفكرية واستبداده الديني وحمولاته الأيديولوجية. وليس هناكَ أسوأ من أن تمارس صورة الرمز استبداداً دينياً وفكرياً تجعل المحب بلا أية ملامح فكرية واضحة مستقلة يخضع لعملية الاستلاب الفكري التي تقوم بها الصورة العاكسة دائماً لفكر الرمز وتوجهاته الثقافية الشمولية... إلى ما قبل 11 أيلول سبتمبر كانت صور بن لادن مثلاً تستحوذ على قلوب محبيه ولا يجدون حرجاً من وضعها في كل مكان علانيةً تعبيراً عن حبهم الكبير له والتعلق بأفكاره وتوجهاته، لكنهم الآن بعد أحداث 11 أيلول والعمليات الإرهابية التي تمت هنا وهناك بقيادة"القاعدة"وخوفاً من الملاحقة الأمنية لهم اختفت ظاهرة صور بن لادن العلنية نوعاً ما، لكن هذا لا يعني أن صورته حينما توارت عن الأنظار اختفت تماماً بل لا يزال محبوه يتداولونها. قد لا يبدو مفهوماً بالنسبة إلينا كيف تستطيع الصورة أن تمارس استبداداً ما على محبيها والمتيمين بها فكراً وتوجهاً وممارسة ولكنها عملية منظمة ترعاها المؤسسات الدينية ومؤسسات الحكم الشمولية بدقة متناهية من خلال التركيز دائماً على ثقافة الصورة ونشرها وإسباغ هالة القداسة عليها، وكلنا يتذكر كيف كان نظام الحكم البائد في العراق يزرع صور الطاغية في كل زاوية وفي كل شبر من أرض العراق، حتى أن النكتة التي راجت بعد الإطاحة بنظام البعث هي أن أمام العراقيين مهمة شاقة جداً تتلخص في إزالة صور القائد الضرورة من الشوارع والمؤسسات والمستشفيات فضلاً عن إزالة نصب النصر التي زرعها النظام في شوارع العراق متباهياً بانتصاراته الخالدة، وليس هناكَ أجمل من مقولة برنارد شو الساخرة وصفاً لهذه الممارسة القومية المزيفة: ان الأمم تصنع تماثيل كبيرة للأشياء التي تفتقدها أكثر! انتشار ثقافة الصورة - الصنم بين عاشقيها المحبين تعكس تمكّن رموز الاستبداد الديني والفكري من الاستحواذ كلياً على عقول أتباعهم وممارسة الاستبداد الديني عليهم من خلال قداسة الصورة! محمود كرم - كاتب كويتي - بريد الكتروني