كان الانهيار الحاد لسهم عملاق الصناعة الأوروبية للطيران المدني والعسكري"أو آ دي إس"EADS بنسبة أكثر من 26 في المئة من قيمته في يوم واحد، سبباً كافياً كي يسحب نفسه على بورصة باريس وعلى مؤشرها"كاك 40"الذي يضم أبرز اسهم الشركات المتداولة في ردهتها. في حين لا يبدو ان الدولة، في وضعها الحالي السيئ نتيجة المماحكات الحاصلة في قمتها بسبب الدخول في مرحلة الانتخابات الرئاسية المقبلة في شهر ايار مايو 2007، قادرة على انتشال"أو آ دي إس"من كبوتها. وبالتالي، انقاذ سمعة الشركات الكبرى الأخرى، بغض النظر عن مستوى مبيعاتها او الأرباح الصافية التي تحققها. فالمسألة باتت هذه المرة أخطر من ان يتم ضخ بضعة بلايين في شرايين الشركة التي تعاني على غرار ما تم اعتماده عام 2005 مع مجموعة"ألستوم"للصناعات الفولاذية. فالإشكالية القائمة مع عملاق صناعة الطيران في أوروبا، تمثلت بالتغاضي او التعامي عن تجاوزات كانت بحسب بعض المصادر المطلعة، معروفة بالنسبة الى اصحاب الشأن والقرار. فبغض النظر عن التراجع المنتظم لقيمة سهم الشركة المعنية الى اكثر من 40 في المئة منذ بداية عام 2006 في الوقت الذي كانت اسهم معظم مكونات المؤشر الفرنسي في تصاعد مستمر، إلا ان عمليات البيع المشبوهة للأسهم التي يمتلكها عدد من مسؤولي"أو آ دي إس"وأفراد عائلاتهم التي تمت في شهر آذار مارس الماضي، بلا رقيب أو حسيب أو حتى مجرد لفت نظر من اية جهة مسؤولة، كانت بمثابة بداية لرفع الستارة عن احدى اكبر الفضائح المالية التي ستشهدها فرنسا وأوروبا في بداية هذا العقد. اما الذي زاد الطين بلة، هو تمسك إدارة المبيعات في هذه المجموعة طوال اشهر بمواعيد التسليم المقررة، والمتعلقة بطائرات"ايرباص T 380"، علماً انها كانت تعرف مسبقاً من خلال دائرة التصنيع بصعوبة الإيفاء بهذه الالتزامات. فالإعلان عن تأجيل التسليم لستة او سبعة اشهر اضافية، والتي ترافقت مع انهيار سعر السهم وفضيحة البيع المشبوهة، جعلت من فقدان بريق وتراجع سمعة هذا العملاق الأوروبي، الفرنسي البنية، ينعكس على صدقية ما تبقى من عمالقة صناعة اخرى داخل الاتحاد الأوروبي. فأياً تكن التفسيرات والمبررات التي حاول تقديمها أبرز المساهمين في المجموعة"آرنو لاغاردير"، لناحية تصحيح الصورة ورفع المعنويات، أو نواب الرئيس لناحية الحديث وبموضوعية عن الصعوبات الجدية والفنية التي أخّرت التسليم، إلا ان الأزمة ستؤثر بلا شك في جميع الفروع الأخرى، بدءاً من انتاج الطائرات المروحية من طراز"اورو - كوبتر"التي تملك المجموعة 9 في المئة من رأسمالها، الى الأنظمة الدفاعية والأمنية المختلفة التي تمتلك فيها اكثر من 25 في المئة. فالمحاولات التي اضطلع بها"لاغاردير"للتخفيف من هول"الفاجعة"من خلال تأكيد وحدة الشركاء الفرنسيين والألمان في السرّاء والضرّاء، لم تعط النتائج المبتغاة. فقد جاء رد الفعل الأول من"دويتش بنك"بعد اقل من ساعة على انهيار سعر السهم عبر تعليقات محلليه الماليين الذين تحدثوا عن"خيبة امل مهمة"وكذلك عن"المطبات الخطرة التي تلوح في الأفق". من جهتها، سارعت وكالة"فيتش"العالمية، المتخصصة بتقويم المخاطر الى الخفض السلبي لتقديراتها بالنسبة الى"أو آ دي إس". في حين عمد محللو"غولدمان ساكس"الى الإشارة الى ان ازمة هذه الأخيرة سيكون لها تأثيرات سيئة جداً في الصدقية التي تتمتع بها إدارتها. وكذلك، بالنسبة الى طائرات"ايرباص"، خصوصاً لناحية إدارة برامجها. في هذا السياق، تجدر الإشارة الى ان الجهود الهائلة التي بذلها الرئيس الفرنسي جاك شيراك خلال زياراته الى عدد من البلدان الآسيوية وروسيا وغيرها، والذي كان على رأس جداول أعمالها تسويق"ايرباص T 380"، يمكن ان يذهب بعضها سدى في حال لم يتم تدارك أبعاد الأزمة الحاصلة بالسرعة المطلوبة. وكذلك، تعويض تأخير التسليم عبر خفض الأسعار. لكن حتى هذه اللحظة، لم يصدر أي موقف في هذا الاتجاه عبر إدارة المجموعة، ولا حتى إشارة من جانب الدولة الفرنسية المعنية اكثر من شريكتها الألمانية في هذه القضية، ما يدل على ان اللجنة الاقتصادية والمالية في الاتحاد الأوروبي لم تستوعب حتى الآن خطورة الحدث وانعكاساته على صناعة الطيران المدني الأوروبي، أو انها لم تتوصل بعد الى ايجاد المخرج المناسب والسريع لهذه الورطة التي أفقدتها صدقيتها. في هذا السياق، تجدر الإشارة الى انه من اولى تأثيرات هذه الهزة، زيادة فقدان"ايرباص"اسواقاً عدة لمصلحة منافستها الرئيسة"بوينغ"، والدليل على ذلك، ان هذه الشركة الأميركية حصلت منذ بداية 2006 على 417 طلباً في مقابل 106 فقط للأوروبية. ومن التأثيرات المباشرة الأخرى ايضاً، إعلان شركة طيران سنغافورة يوم الأربعاء في 14 حزيران يونيو، أي في عز مشكلات"أو آ دي إس"وپ"إيرباص"، عن طلب قدمته الى"بوينغ"بقيمة 4.52 بليون دولار لشراء 20 طائرة من طراز"دريم لاينرز"المنافسة المباشرة لپ"إيرباص 350". ومن المؤشرات الفورية الإضافية، قيام المساهمين الرئيسيين، مجموعة"لاغاردير"وپ"دايملر كرايزلر"على خفض حصتهما بمعدل 7.5 في المئة. كما ان المجموعة البريطانية"BAC سيستمز"، قررت هي الأخرى بيع 20 في المئة من اسهم"ايرباص"التي تمتلكها الى الشركة الأم. نتيجة لهذا التخلي المضطرد، تتخوف الشركات الفرنسية والأوروبية التي تعمل على تصنيع مكونات طائرات"ايرباص"من تراجع الطلبات وإلغاء البعض الآخر، ما سيؤثر سلباً في انتاجيتها وإدارتها. في حين ان كل النقابات داخل المجموعة الأم بدأت برفع الصوت استباقاً لأية خطوات"تسريحية"مستقبلية. مطالبة في المقابل بأن تدفع الرؤوس الكبيرة ثمن الأزمة وخسارة جوهرة صناعة الطيران الأوروبية صدقيتها. * باحث اقتصادي.