الخطر الذي يتهدد العراق ليس"الفتنمة"بل"الصوملة". ولنتذكر ان قوات دولية يتقدمها الأميركيون تحت لواء الأممالمتحدة واسم"بعث الأمل"حطت في مقديشو، في 1993، و تولت العملية الدولية وقاية سكان الصومال من المجاعة، وحمايتهم من مجازر الجماعات المتحاربة. وحين خسر مشاة البحرية الأميركيون 19 من جنودهم عادوا الى مراكبهم وأبحروا. وما أعقب الحادثة هذه لا يزال في الأذهان: أقسم كلينتون ألا يعيد الكرة، وعندما انفجرت حرب الإبادة في رواندا، السنة التالية نيسان/ ابريل 1994، أبى التدخل، وكان 4 آلاف جندي من القبعات الزرق في مستطاعهم الحؤول دون مقتل مليون رواندي من قوم التوتسي في غضون ثلاثة اشهر وهذا رقم قياسي في المقارنة مع اوشفيتز، سرعة وعدد ضحايا، وأعقاب الأعقاب ليس اقل شهرة. فسرى طاعون الإبادة في افريقيا الاستوائية، وفتك بملايين البشر في الكونغو وجواره. واليوم، يستولي مسلحو"المحاكم الإسلامية"على الصومال، بعد ان لم تنفع الأموال التي استثمرتها وكالة الاستخبارات المركزية في قتالهم. وانتقل جزء منها إليهم، ويتهدد انتصار مسلحي"المحاكم"القرن الافريقي بأفغانستان على مثال طالباني. والحق ان من يتولون رعاية السلم في هذه البلدان ليسوا واحداً. فالأممالمتحدة هي المسؤولة عن تيمور الشرقية. وحلف الأطلسي، الى بلدان اوروبية، يتولى المسؤولية في افغانستان، والبنتاغون اليد العليا بالعراق. وعلى رغم اختلاف الأحوال تكاد تكون المهمة واحدة، والخصم الذي ينبغي هزيمته واحداً. فالنموذج الصومالي على ضآلته، ينتشر في ارجاء الكرة الأرضية. ويقضي النموذج هذا باستيلاء قادة محليين، خوارج على القانون، على الأهالي وإرهابهم، واستعمالهم وقود اقتتالهم وحربهم، وتتذرع عصابات متناحرة بالدين، أو القوم أو الإيديولوجية أو العرق أو الحق في ذاكرة مزورة، الى الاستيلاء بالكلاشنيكوف على السلطة. ويقاتل قادة الجماعات المسلحة المدنيين فوق ما يقاتل بعضهم بعضاً، فقتلى المدنيين يبلغون 95 في المئة من جملة القتلى في مثل هذه الحروب. فالإرهاب، اذا عرّف بأنه مهاجمة المدنيين عمداً وعلى قصد قتلهم، ليس وقفاً على الإسلاميين. فهذا النهج انتهجه ولا يزال ينتهجه جيش نظامي يباركه قساوسة وميليشيات، ويأتمر الفريقان بأمر الكرملين في بلاد الشيشان حيث يحصى عشرات الآلاف من الأولاد القتلى. والصومال هو مختبر فظاعة الفظاعات هذه، أي الحرب على المدنيين. في أعقاب 45 عاماً 1945 - 1989 من الحروب والثوارت والثوارت المضادة وانهيار الامبراطوريات الاستعمارية الظالمة وحروب التحرير والانتفاضات التي ولدت انظمة استبداد جديدة، خسر ثلثا البشرية المعايير التي يستدلون بها على طريقهم في الحياة. وفي جهات العالم الأربع، تحتضن المجتمعات مقاتلين يافعين او شباناً يريدون، من غير إبطاء وبأي ثمن، امتلاك المنازل والرتب والنساء والثروات. ولا يتورعون، في هذا السبيل، عن تأطير الأرياف والضواحي العظيمة بالبنادق الرشاشة الآلية والهواوين والسيارات المفخخة والانتحاريين. ولا تتردد دول يحدوها الطمع والطموح عن الغرف من معين جماعات القتل هذه، وإعمالها في أغراضها وسياساتها، وأولها ارتقاء مراتب القوة من طريق الإرهاب. فهل على الأميركيين وحلفائهم الجلاء عن الصومال؟ لا يبدو ان اكثر الحكومات عداء للولايات المتحدة يرغبون في هذا الجلاء الذي يستتبع إخلاء البلاد لقاطعي الرؤوس، ولعل الكفاح في سبيل تفادي"صوملة"الكوكب لا يزال في مرحلته الأولى. وهو كفاح قد يدوم طوال القرن الحادي والعشرين. فإذا لم تغلب الأميركيين ميولهم الانكفائية والانعزالية، وسعهم التعلم من أخطائهم. وإما ان تنهض اوروبا الى مساعدتهم، او تترك أمرها وعصمتها الى القيصر النفطي بوتين، داعية إرهاب الإرهاب. والحق ان تحدي المقاتلين المتحررين من الحدود لا يترك متسعاً من الوقت للتردد والحيرة، فإما الصوملة العامة وإما بعث حلف ديموقراطي، عسكري ونقدي أوروبي - أطلسي. عن اندريه غلوكسمان،"لو فيغارو"الفرنسية 15/6/2006