يفاجأ زائر معرض الرسامة سعاد العطار"دموع المدينة القديمة"باللوحة الكبيرة ذات الأجزاء الثلاثة التي تتصدر صالة العرض داخل متحف ليتون هاوس العريق في لندن. واللوحة تمثل رجلاً مستلقياً في حالة احتراق وتشظ بما يرمز الى العراق ككل أرضاً وبشراً، إضافة الى خمس لوحات على قماش الكنفاه تتراوح أحجامها بين مترين وأربعة أمتار، تدور كلها حول العراق وناسه، ضحايا القصف والاغتيالات والتفجير، وهي منفذة بألوان زيتية توحي بالنار ومتتالياتها. وحملت اللوحات عناوين مثل المدينة المحترقة، الصرخة، بكاء بلاد الرافدين، يا بلادي، قلبي محطم، بكاء الروح... فكأنما النيران تحيط بالمتفرج نفسه في حمأة انطلاقتها وسواد نهايتها المتفحم. ما يلفت الانتباه أيضاً في المعرض دفاتر يوميات وأفكار كانت تسجلها الفنانة العطار أثناء تنفيذها اللوحات خلال ثلاث سنوات تلت الحرب على العراق، فأكملت"خطابها"بالكتابة التي ترى انها قدرها المقبل، عندما ستجمع تلك اليوميات في كتاب. الكتابة كمشروع مقبل كانت بداية حواري مع العطار بعدما حضرنا معاً أمسية في غاليري الكوفة وسط لندن لفرقة متخصصة برواية الحكايات السومرية للجمهور. لكن المفاجأة الأخرى التي زودتني بها في ذلك المقهى الصغير، أنها دونت خلف كل لوحة أهم الأحداث التي حصلت في العراق أثناء مرحلة التنفيذ، خلال ستة أشهر هي معدل الفترة الزمنية التي استغرقها تنفيذ كل عمل. لكن ما تسجله سعاد العطار في دفتر اليوميات يختلف عن تأريخ الأحداث، فهو"ملحوظات"حول العمل تتداخل مع انفعالاتها ومع ما يحدث في بلادها أثناء ذلك. وكأنما الطاقة الانفعالية أكبر من ان تختزل فقط بالتعبير البصري، ولا بد من تسريبها من خلال مسار آخر، كالكتابة."خضم كبير من المشاعر ينتابني منذ ثلاث سنوات حيال ما يحدث في العراق، لا تستوعبه فترة التخطيطات ولا فترة التلوين الزيتي". ارتباط العطار بالكلمة برز مبكراً في لوحاتها التي تضمنت أشعاراً منتقاة من التراث الشعري العربي والعراقي تحديداً السياب، نازك الملائكة، الجواهري، الشريف الرضي وآخرون."الشعر ليس مصدر إلهام للوحة كما قد يتصور البعض، انه جزء من بنيتها، يكمل ما اريد ان اقوله بالرسم واللون، الشعر وسيط آخر لتقديم ما اريد ان اقوله". في لوحاتها الجديدة، تغيب مدينة بغداد الحلم التي كانت العطار تعبر عنها برموز من الطيور والنباتات والوجوه الآشورية، وبالنجوم التي تذكرها بتلك التي كانت تلمع فوق رأسها عندما كانت تستلقي على سطح بيتها وهي صغيرة في ليالي صيف العراق الحار. بغداد المسلوبة على يد نظام دكتاتوري، كانت مدينة قابلة للاسترجاع بالحلم، فظهرت في مرحلة الثمانينات حتى أوائل التسعينات من القرن المنصرم تلك الرموز الواعدة بالازدهار مرة أخرى. لكن المدينة الآن محترقة والشخوص المفجوعون أطفالاً ونساء ورجالاً هم رموز دمارها، لذا غابت التفاصيل الصغيرة للحلم ليحل محلها ثقل كابوس الحرب، فنرى تركيزاً على ملامح الوجه لعين حزينة أو قسمات متوجعة من الألم، على أشلاء جسد، وجزء من ذراع أو قدم يبرزان من التفاصيل شبه المجردة كدليل على المجزرة. غاب الإنسان المجنح المستوحى من الفن الآشوري، ولم يبق غير جثث وأجساد وقاعة تحت تأثير الجحيم اليومي للحرب. ومع ذلك تخلصت لوحاتها من أي تفاصيل زائدة، وبات الجسد مجرداً من أي عنصر لا معنى له في هذه الخلفية، ويكاد يتداخل مع ألسنة اللهب والفضاء المحترق من خلفه. أما لوحة"المدينة المحترقة"زيت على الكنفاة بحجم 180 - 300 سم، فتكاد تكون نموذجاً لقدرة الفنانة العطار على استخدام اللون بتقنية عالية للتعبير عن الحرائق في مدينة بالكاد يطل منها تفصيل صغير في اللوحة يدل عليها وسط تلك النيران. وتشكل هذه اللوحة واللوحات الأخرى جداريات مثالية للحرب في العراق. يختلف هذا المعرض تماماً عن معرضها السابق قبل سنوات والذي عرض في المكان نفسه تحت عنوان"ثنائيات"وحفل بأشخاص اليفين وبأجساد حميمة."تلك المرحلة جاءت بعد شغلي مع بلدية كنزينغتون على تنفيذ كتيب مرافق لموسم الأوبرا. دراسة الاوبرا جعلتني اركز كثيراً على ملامح الوجه الناقلة للانفعالات، فموضوعات هذا الفن حافلة بالانفعال الحاد، بالخيانة والغيرة والحب بين الرجل والمرأة". مرت سعاد العطار بمراحل مختلفة في مسيرتها الفنية التي بدأت مبكراً عندما أقامت أول معرض شخصي وهي في السادسة عشرة. ولم تأت الموهبة من فراغ فهي ابنة والدين يعشقان الفنون، فالام خريجة بيروت في هذا المجال، والأب كان يحمل لها وهي طفلة بطاقات وكتباً تتضمن لوحات لكبار الفنانين العالميين من القرون الوسطى، فكانت تنقل تلك الأعمال الى الورق ما ساهم في تدريب يد الفتاة الصغيرة وخيالها، على الرسم."نشأت ولوحات أمي أمامي. أمي لم تقم أي معرض لأعمالها ولكنها علقت لوحاتها على جدران البيت. وكانت هناك علاقة مع لوحة محددة تركت تأثيرها عليّ، انها اللوحة المعنونة باسم"البركان"والتي أرى الآن أنها أوحت لي من دون ان ادري لوحة"المدينة المحروقة"المعروضة في المعرض الراهن". مرت العطار في مراحل واضحة طبعت تجربتها، مرحلة المدينة، الشجرة، الإنسان. لوحتها المعنونة باسم"الشجرة"عرضت في أوائل السبعينات في مهرجان الواسطي الأول في بغداد وأثارت ضجة في حينها وكتب عنها النقاد، ومن بينهم جبرا ابراهيم جبرا،"كل فنان في المنطقة يعرف لوحة"الشجرة"التي استخدمت فيها أسلوباً جديداً باستعمال اللون الواحد للتعبيرعن الفكرة، وهو ما لم أتطرق له من قبل". أين هي تلك اللوحة الآن، وهل يملكها مقتن محدد؟ أجابتني بغصة وصوت مجروح."كانت في متحف الفنون الجميلة في بغداد، ويعلم الله أين هي الآن، بعدما سلب المتحف اثر سقوط بغداد". غير ان لوحة"الشجرة"ليست الخسارة الوحيدة للفنانة ان كانت قد فقدت، فهي خسرت شقيقتها في قصف جوي أميركي على منطقة العامرية عام 1993 وكانت تقيم في بيتها بعد ان دمر البيت. وحاولت سعاد قبل سنوات ان تشتري شقة صغيرة تكون ركيزة لها في بغداد، قرب بيت والدتها المريضة. لكن الوالدة توفيت قبل ان تتمكن العطار من زيارتها بسبب الحرب، وخسرت الشقة التي وضع أحدهم يده عليها مزوّراً أوراق الملكية. ومع ذلك، بقي لها بيت واحد لا تزال تحن اليه كأجمل البيوت التي حلت فيها، انه بيت العائلة الذي احتواها طفلة وربما لم يعد قائماً إلا في خيالها. كنا نتحرك للخروج من المقهى الصغير عندما سألتها ان كانت تحلم ان ينتقل المعرض الأخير الى العراق"أي عراق أي عراق!"، قالتها بحسرة من يستبعد إمكان وجود فرصة للجمال وسط القبح، وبالغصة ذاتها أكملت قائلة."لو قدر للمعرض ان يجول في مدن عدة في العالم، لربما أخبَر شيئاً عن مأساة العراق الآن".