يمكن للفنان ان يشيد مدينة خيالية خاصة يملأها بالعناصر والاشخاص، ويشق فيها طرقاً ويبني بيوتاً… ذلك ما قامت به الرسّامة سعاد العطّار منذ معرضها الشخصي الاول في بغداد العام 1964: امرأة من الهام وتواصل. غير ان تلك المدينة تتحول في معرضها الجديد الى مواقع للذكرى والحنين، الى الوان غامضة ومكتومة. لقد وجدت في المعرض راحة وانتعاشاً، ربما لانه مصمم بطريقة تتيح التجول بسهولة في مدينة وشوارع خيال الفنانة. اللوحات الموضوعة عند المدخل تصوّر بيوتاً تكتنفها الظلال: الالوان بنية كالتربة، والنوافذ مغلقة. ولا ضرورة للتشبيه بمحبس لأن السماء حاضرة في كل لوحة. وهي ليست مجرد تجميل لوني ومساحة تتيح للفنانة ابراز براعة ما في التلوين. انها فضاء للانطلاق والعفوية. ولا تستطيع ان تتحرك فيها من دون مراقبة. وسرعان ما تتحول البيوت والقباب الى ذكريات: لعلك رأيتها في مكان ما، انها تفرض وجوداً من نوع آخر من التداعي وما شابه، اي مقارنة قد تخطر في الذهن. كانت سعاد تقتبس من الطبيعة ما يكفي رموزاً لبناء صورتها: اوراق نبات، اشجار وتلال… المرأة تتجول بين تلك المناظر، غالباً ما تكون وحيدة، واحياناً مع رفيق للمواساة والخطيئة. وقد تخلت الفنانة في اعمالها الحديثة عن هذا النموذج، وحل مكانه التراث والتاريخ. ومع ان هذا الاسلوب استمر حاضراً في اعمالها في صور من الحضارة السومرية والبابلية، فقد ظل شيئاً محيراً عند هذه الفنانة: فهل كانت المرأة النموذج، التي تحولت من الطبيعة العارمة وصارت ثوراً مجنحاً، ترمز الى الحرية من القيود في الاسلوب، ام كانت مجرد زينة اجبارية تحلّ مكان الفراغ على اعتبار ان حمل الريشة افضل من الصمت والظلام؟ التغير الذي حدث في الاسلوب يستحق الاهتمام فقد جلب معه تطوراً وايضاً معركة. ان الصراع هنا اجبر الفنانة على حلّ وسط في النهاية، وقد تجلى في الجمع بين عنصر الشكل وحركة التلوين: وهي دائماً تتجه نحو الخلفية لتجعل منها تكويناً يضيف لمعاناً للشكل احياناً، ويعوّض عنه في حين آخر. ويتكرر هذا في عدد من اللوحات لدرجة ان الصراع يصير ممتعاً، وسرعان ما يتحول الى لعبة، فاذا بالمشاهد يرى بيوت المدينة ظاهرة في لوحة ثم تختفي شيئاً فشيئاً في لوحات تالية. يتضح بعد هذا اننا امام عتمة ذاكرة او العكس. المرأة التي تضيع العمر في الحسرة، وتنتظر حبيباً في الخيال، وتستعد لمقاومة الضعف والنسيان. العتمة تستمر والوضوح يقلّ ومنه يزداد عمل المخيلة في رومانسية. المؤثر ايضاً اننا لا نحمل في اذهاننا رموز هذه اللوحات عندما نترك المعرض. اننا نظل داخل المدينة اللونية الغريبة، محاطين بأشكال شبيهة بصور الرسام شاغال. يجب ان لا ننسى ان هناك حزناً في هذه اللوحات، لا يوحي به اللون الداكن بقدر ما هو موجود في العواطف التي انشأتها منذ البداية، وعلى رغم ان المدينة سرية وخاصة، فاننا نستطيع الاندماج في أجوائها. وليس معنى هذا اننا نصاب بالحزن، فليس ذلك هدف الفنانة طبعاً، ولكنه يدل على مقدرة في التبليغ والمشاركة، ناهيك عن تقنية رفيعة لها جذور في الانطباعية الاميركية. عنصر الرقي يأتي من التركيز على بقع صغيرة في اللوحة، والانشغال بها الى درجة الهوس لتركيب مسحة اللون المطلوبة في تعبير ما. الهدف من المعرض ليس اللوحات التي يتجاوز عددها الخمسين. انه تلك الرغبة الاصيلة عند كل فنان: وهي كيف يجعل الآخر يشاركه الظنون، ويشاركه الرؤيا وحتى الغداء؟ الفنان في بحث مستمر عن ذلك المشاهد يطعمه الواناً في انتظار ان يروي له قصته. نحن امام فنانة تروي لنا قصة مدينتها السرية تحاول ان تزيل عنها الحرام، ويا لها من محاولة في ترجمة انفعالات من خلال رموز معينة. تلك الاحاسيس قد لا تكون واضحة حتى بالنسبة الى الفنان او الفنانة. فاذا بدور اللوحة يتقلص الى نوع من التفسير. وهنا تأتي حركة الشكل، هل تتجه نحو المعنوي او المادي الخالص؟ بعض لوحات المعرض يبرز الاتجاهين… ونحن اقرب الى مزيج منهما في اللوحات الكبرى التي تصوّر اغلبها امرأة بين سحب الالوان وكأنها تصارع حقاً في الوجود. لا يخفى ان كل لوحة في هذا المعرض تمثّل جملة في القصة التي ترويها الفنانة: انها تشكو من البعد والعزلة، وقد حاولت ان تخلق مدينة من احلام تؤمها شخصيات كأنها اشباح تلطف بها حياة البعد والجفاف. ولكن المواساة لا تأتي الا من عملية الرسم وحدها. وهكذا فان الرسامة لا تترك اللوحة الا وقد اعدتها بصبر وتأنٍ ومقدرة رفيعة على وضع الالوان في طبقات تضفي على الشكل حيوية وغناء، فاذا بالنظرة الجائعة تضيع في وليمة دسمة متنوعة الاطباق. اللوحة الآن غذاء روحي ايضاً، بغضّ النظر عن الرموز والمنشآت التي يمكن ان تكون صحيحة او غيرها. فاذا التزمنا هذا الخط المعتمد على الرؤية وحدها فاننا نجد بُعداً ثالثاً بين اللوحة وما ترمز اليه في لغة تعبير الفنانة: يتعلق بالتنفيذ و"اخراج" الشكل حسب المساحة المخصصة له. هناك المنطقة المحيطة بالصورة مباشرة تتلوها الخلفية، ثم زاوية النظر التي يتجه اليها الشكل عموماً، وبعد ذلك نخلص الى الالوان وطريقة توزيعها حيث ينبث الشكل جذاباً غامضاً وشفافاً... في المعرض صراع بين الظل والضوء، بين التفكير والتدبير والعفوية، وحتى بين الاحجام التي يجب ان تأخذها الاشكال. لا راحة هنا على رغم المناخ الشاعري للمعرض. وعلينا ان ننتظر استقرار الغبار بعد الانفجار الكبير في اسلوب هذه الفنانة. SAUD AL-ATTAR ALBEMARLE GALLERY 49 ALBEMARE STREET LONDON W1