أكثر ما يزعج كبرياء الولاياتالمتحدة تقرب الصين من أميركا اللاتينية. فقد بدأت بكين تستثمر في أميركا اللاتينية مع بداية هذا القرن، وتشمل استثماراتها قطاعات متنوعة مثل البنى التحتية والطاقة والمعادن والصناعة، وتمتد على منطقة شاسعة من الريو غراندي في المكسيك إلى أرض النار في أسفل الأرجنتين. وإذا توخينا الدقة، من"الماكيادوراس"maquiladoras، أي هذه المعامل على حدود المكسيكوالولاياتالمتحدة المعفية من الضرائب، والتي تعمل في قطاع النسيج حتى امتيازات التنقيب في القاعدة القارية الأرجنتينية مروراً بفنزويلا وكوبا وكولومبيا والبيرو والتشيلي والبرازيل. ومجموع هذه الاستثمارات ارتفع إلى 4.6 بليون دولار حتى عام 2003 ثم 8.3 بليون عام 2004، وقد تخطى من دون شك العشرة بلايين منذ العام الماضي. هذه الأرقام تبقى متواضعة بالتأكيد إذا قورنت بال 300 بليون دولار التي تستثمرها الولاياتالمتحدة في القارة. لكن في زيارته أميركا الجنوبية أواخر عام 2004، وعد الرئيس الصيني باستثمار أكثر من 100 بليون من الدولارات خلال السنوات العشر القادمة، خصوصاً في المرافئ وشبكات أنابيب نقل الطاقة وفي الطرق السريعة. هذا المنحى يأخذ أبعاداً أوسع إذا قارناه باستثمارات الدول الغنية في الدول اللاتينية التي تراجعت من 75 بليون دولار عام 1999، إلى أقل من 55 بليوناً عام 2005، وصارت أقل من استثماراتها في الصين نفسها التي ارتفعت السنة الماضية إلى 60 بليون دولار. غياب الايديولوجيا تقدم النفوذ الصيني في القارة ليس له معان إيديولوجية. ففي كل أميركا اللاتينية، رجال أعمال لا يمتون بصلة لا إلى الأفكار القومية المتجددة ولا إلى المبادئ الاشتراكية، وتجدهم يتعلمون لغة"الماندرين"في سان باولو أو بوينس آيرس أو حتى بوغوتا لا فرق. لكن على رغم أنه لا توجد معانٍ إيديولوجية لهذا التقارب الاقتصادي، إلا أن النائب الجمهوري دان برتون، رئيس لجنة مجلس النواب الأميركي لشؤون أميركا اللاتينية، عندما سأله مراسل الپ"بي بي سي"همفري هاوكسلي عن التواصل بين الصين"الشيوعية"ومنظمات اليسار في أميركا اللاتينية، وعن الحاجة لمراقبة مبيعات الأسلحة والتجهيزات العسكرية بينهما، وإقرار آلية تدخل"إذا تخطت الأمور حدّاً معيناً". نقل المسألة إلى المستوى الإستراتيجي، اجاب قائلاً:"علينا دائماً مقاربة أميركا اللاتينية من وجهة نظر"عقيدة مونرو"، وهي"ألا نترك عدواً محتملاً يتحول إلى قوة طاغية في هذه المنطقة من العالم". اللافت في الأمر أن النائب الأميركي أضاف كلمة"شيوعي"عند التعليق على دور الصين الاقتصادي في القارة، معطياً بعداً أيديولوجياً للأمر. وعلى كل حال، فإن استعمال"عقيدة مونرو"في النقاش معناها هنا"أميركا للأميركيين". قد لا يكون للتقارب معنى إيديولوجي كالذي يخشاه النائب الجمهوري، ولكن له أثر سياسي، وهو سالك في الاتجاهين: من جهة، التطورات"الوطنية"إذا جاز التعبير التي تحصل في عدد من الدول اللاتينو ? أميركية، تفيد الشركات الصينية على حساب الشركات المتعددة الجنسيات الغربية وتفتح الطريق لعقد اتفاقات تعاون عسكري وتكنولوجي. فالرئيس هوغو تشافيز في فنزويلا يفتح حقول النفط للصينيين، وإيفو موراليس في بوليفيا يدعوهم للاستثمار في الغاز والمعادن والنفط. وأول خطوة اتخذتها الإكوادور بعد تأميم شركة"أوكسي"الأميركية كانت إرسال وزير خارجيتها إلى الصين. الجديد الحقيقي في أميركا اللاتينية أن الولاياتالمتحدة لم تعد قادرة على اعتبار هيمنتها تحصيلاً حاصلاً. في هذا الإطار أوفدت في نيسان أبريل الماضي، مساعد سكرتير الدولة لشؤون أميركا اللاتينية توماس شانون إلى بكين. وبحسب ما نقلت الصحافة الأميركية، طلب توضيحات وأكد على ضرورة اعتماد الصين مبدأ التحفظ لدى القيام بخطوات في المنطقة، ما أثار تعليقاً في صحيفة"النيويورك تايمز"يقول عن هذا التصرف إنه يذكّر بپ"إنذارات فصيل مافيوي عندما ينذر فصيلاً آخر بالابتعاد عن منطقة نفوذه". وبحسب الرواية نفسها، أكدت الحكومة الصينية أنها"مهتمة بالاستثمار بالطاقة وبالمواد الأولية وبالأعمال وليس بمغامرات سياسية أم عسكرية". وتتناغم هذه الزيارة مع توجيهات الرئيس بوش لمدير ال"سي آي ايه"الجديد الجنرال مايكل هايدن بإعادة تطويع عملاء على النموذج القديم والتعاقد مع مخبرين جدد في مناطق عدة وخصوصاً في أميركا اللاتينية وأيضاً في أفريقيا. إنه نوع من الاعتراف المتأخر بأن كل الأقمار الاصطناعية والمراقبات، الهاتفية منها والإلكترونية، أظهرت عجزها عن مواكبة الاتجاهات الجديدة الحادثة في"دول الضواحي"وخصوصاً عن فهمها. المنافسة المعولمة الأرجح أن الولاياتالمتحدة تفهم تماماً طبيعة التحدي الصيني، ولكن ليس لديها جواب بديهي على هذه المعضلة. فالصين لا تدخل هذه المناطق من البوابة الإيديولوجية وتتجاهل السباق التسلحي ? بعكس ما كان يفعله الاتحاد السوفياتي تصرف الصين نسبة من ناتجها القومي أدنى من تلك التي تصرفها الولاياتالمتحدة وهي 4 في المئة، فيما كان الاتحاد السوفياتي يرصد أضعاف النسبة الأميركية في محاولة مجاراتها. وهذان العنصران جعلا المنافسة الصينية أكثر فاعلية من سابقاتها، ولعبا دوراً حاسماً في جعل الصين بأهمية الولاياتالمتحدة في دعم نمو الاقتصاد المعولم وفي ربحية الشركات الأميركية المتعددة الجنسيات وحتى في قيمة الدولار الأميركي. ويرى الباحث أنطونيو لويز كوستا ان"وجود الصين، استقرارها وبحبوحتها أصبحت أموراً حيوية لضمان استمرارية الولاياتالمتحدة ولربحية مؤسساتها الاقتصادية"."إنها ميزة كبيرة أن تُصبح خصماً ضرورياً، ولا يستطيع خصمك الاستغناء عنك". صارت الصين أول مشتر عالمي للحبوب واللحوم والفحم والفولاذ، وأول سوق لأجهزة التلفزيون والبرادات والهواتف الخليوية، وعام 2008 ستتخطى أيضاً الولاياتالمتحدة بعدد مستعملي الإنترنت. كما أن لديها الآن عدد مهندسي الولاياتالمتحدة نفسه وثلاثة أضعاف ونصف أعداد كوادرها الجامعية. صحيح أن استهلاكها النفطي ما زال أقل من ثلث استهلاك الولاياتالمتحدة، لكنه ينمو بوتيرة أسرع بكثير، و40 في المئة من زيادة الطلب العالمي تنسب إليه. وباستثناء تأرجحات ظرفية، يعتبر عدد من المحللين الكبار أن الطلب الصيني هو العنصر الأساسي في تحديد أسعار المواد الأولية منذ حوالى 6 أو 7 سنوات، ومن ضمنهم سعر البترول وسعر المعادن الكريمة. فكيف تنظر دول أميركا اللاتينية إلى الصين الآن؟ من جهة - هي حال الاقتصادات الكبيرة مثل المكسيكوالبرازيل كمنافس مزعج، ولكن أيضاً كسوق الأحلام وتحديداً لمصدري المواد الأولية. في الواقع، إنها أكثر من ذلك: فعندما تقدم الصين استثمارات وأسواقاً وتكنولوجيا، توفر أوكسجيناً لتلك الحكومات التي تريد أن تبقى على مسافة من الولاياتالمتحدة والوصفات النيو ليبرالية، من دون أن يعني ذلك أنها تريد تقليد النموذج الصيني. وبفضل الصين وغيرها، لم يعد الخيار محصوراً بين التجارة الحرة مع الولاياتالمتحدة أو انهيار التصديرات، بين الخضوع للشركات المتعددة الجنسية أو غياب الاستثمارات الأجنبية، وبين الانصياع لصندوق النقد العالمي أو العزلة. تجارة الصين مع أميركا اللاتينية بلغت نحو 50.4 بليون دولار عام 2004 ومنها 14.8 بليون دولار مع البرازيل ستتضاعف حتى عام 2010. يعني ذلك أنه إذا كانت الصين منذ اليوم تساعد في توسيع هامش استقلالية فنزويلاوبوليفيا والإكوادور وفي التحسن الملفت للوضع الاقتصادي الكوبي، يرجح أن تكون قادرة على مدى عقدين بأن توازن اقتصادياً أحادية الهيمنة الأميركية، تماماً كما فعل الاتحاد السوفياتي في عهود سابقة على الصعيد السياسي. يضاف الى ذلك أن النمو الاقتصادي الملفت للصين ? على رغم كونه رأسمالياً - يطرح على هذه الدول التي تعيش تحت خيمة توافق واشنطن أسئلة لا يمكن تجاهلها. عندما يسأل الصحافي الإنكليزي شارلز تانغ، رئيس غرفة التجارة البرازيلية - الصينية عن رأيه في التقارب بين الصين وبلده البرازيل، يجيبه الأخير بذكاء:"الصين هي النموذج للبرازيل، ونجاحها في إخراج 400 مليون نسمة من الفقر هو الانتصار الحقيقي لحقوق الإنسان".