تعرَّف السيادة في شكلها العام على أنها سلطة حاكمة منفردة متمتعة بالاعتراف بأنها السائدة على جميع السلطات الأخرى داخل إحدى الإدارات السياسية الإقليمية ومستقلة عن جميع السلطات الأجنبية. لهذا يعتبر مبدأ سيادة الدولة من القيم السياسية الوحيدة الأكثر أهمية في هذا الزمن والتي تتخطى أهميتها مبدأ الديموقراطية وحقوق الإنسان والبيئة. وتتلخص مكونات السيادة في تقرير المصير السياسي، والسيادة الاقتصادية، والسيطرة على الحدود، والتركيز على مبدأ الوطنية الموجد للسيادة الاقتصادية، والاكتفاء الذاتي من الغذاء والماء، والاستقلال في الطاقة، والدفاع الذاتي عن حق تقرير المصير. وفي هذا الإطار يعتبر الاستقلال الاقتصادي هدفاً لتحقيق السيادة الاقتصادية. إذ ان السيطرة الكاملة على الموارد الوطنية تعتبر الموضوع الرئيس للسيادة الاقتصادية. ومن دون السيادة لا يمكن تنفيذ خطة اقتصادية شاملة لتعبئة الإمكانات كافة المتاحة للوطن من أجل تحقيق تنميته. منذ بداية القرن الحادي والعشرين بدأت دول كثيرة العمل على تسريع عملية انفتاحها الاقتصادي على العالم، تدفعها لذلك توقعاتها بأن ربط اقتصادها الوطني بالسوق العالمية سيؤدي إلى حقن عوامل إيجابية جديدة في عملية التنمية الوطنية، ما يخلق فرصاً جديدة. ولكن انفتاح أي بلد على العالم لا يمكن أن يتحقق من دون تكاليف يأتي في مقدمها إضعاف"السيادة الاقتصادية"تجاه أنشطتها الاقتصادية وثروتها ومصادرها الطبيعية. ومن معالم الانفتاح التي بدأت في نهاية النصف الثاني من القرن الماضي زيادة عدد المنظمات الدولية في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية وتوسع مهامها، إلى جانب زيادة عدد الشركات العملاقة العابرة للقارات. كما ان تدخل كل من صندوق النقد والبنك الدوليين في شؤون الدول الاقتصادية من خلال فرضها شروطاً قاسية، تتمثل في إرغام البلدان النامية المقترضة على اعتماد سياسات اقتصادية معينة أدى إلى إضعاف سيادة تلك الدول. كذلك الحال بالنسبة الى مؤسسات دولية أخرى كمنظمة التجارة العالمية ومجموعة الثماني الدول الصناعية التي باتت هي الأخرى تنقض على السيادة الاقتصادية الوطنية للحكومات خصوصاً في البلدان النامية. يضاف إلى ذلك أن طلب بعض الدول النامية المساعدة من المنظمات الدولية والتدخل في الشؤون الاقتصادية والمالية، حرم تلك البلدان من بعض سيطرتها التقليدية. أما القوى العابرة للقارات والمتمثلة في زيادة حدة تمركز وعولمة قوة الشركات الدولية، فقد ازدادت قوة وتوسعاً على حساب اغتصاب قوة الدول في تحديد سياساتها المالية والاقتصادية واستغلال عمالها وتعريض بيئتها لمخاطر حقيقية. إن الأيديولوجية الجديدة في تحرير الاقتصاد، سيطرت على الاقتصاد العالمي. وبسبب من هذه الأيديولوجية تخضع الدول لضغط المؤسسات المالية الدولية في تخصيص الخدمات العامة كالتعليم والعناية الصحية وبعض المصادر الطبيعية الحيوية كالماء والنفط. وبحجة تحقيق الاستقرار في سعر الصرف، تقوم بعض الدول بربط عملتها الوطنية بالدولار، ما يؤدي إلى إقصاء إمكان تحقيق سياسة نقدية وطنية مستقلة وربط النشاطات الاقتصادية والعملة المحلية بسياسات خارجية تحدد وفق مصالح الآخر. وتعتبر المناطق الحرة التصديرية التي تنشئها بعض الدول على أساس كونها من الوسائل الفعالة في جذب الاستثمارات الأجنبية وتحقيق التنمية الاقتصادية، هي الأخرى مثالاً واضحاً لتنازل حكومات تلك الدول عن بعض سيادتها إلى المستثمرين الأجانب. ويأتي هذا التنازل على شكل إعفاءات ضريبية وإجرائية تمنح للشركات الأجنبية العاملة في تلك المناطق، ما يضعف شأن وكفاءة الأنظمة الوطنية ذات العلاقة. وحول هذا الموضوع هناك مدرستان: تتوقع الأولى نهاية عهد سيطرة البلدان الوطنية على المجال الاقتصادي، نظراً لأن تحرير التجارة والتوجه نحو الارتباط بالاقتصاد العالمي جعلا من مفهوم السيادة الاقتصادية مفهوماً غامضاً. أما المدرسة الثانية فتعتقد أن للدول"قوة هيكلية"تتمثل في الإنتاج وقدرتها على التكيف مع الإطار الدولي واعتماد قواعد وأنظمة وقرارات تتيح لها قدرة كبيرة في دعم وتوسيع مبدأ السيادة الاقتصادية. وتعتقد الاقتصادية الإنكليزية سوزان سترينج أن القوة الهيكلية موجودة ومتداخلة في أربعة هياكل دولية رئيسة هي: الأمن والمعرفة والإنتاج والمالية وهياكل أخرى ثانوية كالتجارة. وعند الأخذ بهذا المفهوم الأخير نجد أن الحكومات ذات السيادة لم تفقد سيطرتها على السيادة في حقبة العولمة التي نعيشها الآن نظراً لأن قوة المنظمات الاقتصادية المنبثقة، كانت نتاج تحول القوة نفسها من البلدان الأعضاء في المجموعة الدولية. كما أن ظهورها كان نتاج قرارات حكومات مستقلة ارتضت تقييد الذات الوطنية في حقل الاقتصاد. وتعتقد هذه المدرسة بأن الشركات العابرة للقارات لم تفرض أية قيود أساسية على السيادة الاقتصادية للبلدان كما أنها لم تغير حقيقتها القانونية تحت دستورية الدولة، وأن أنشطتها على المستوى العالمي لم تغير حق البلدان منفردة في ممارسة سيادتها الكاملة. إن مفهوم"تآكل السيادة الاقتصادية أو نهايتها"، هو في واقع الأمر نتاج المعاملة غير العادلة للبلدان النامية من جانب البلدان المتقدمة، ولجوء هذه الأخيرة الى اعتماد المعايير المزدوجة في الشؤون الاقتصادية. ومن تلك المعايير ادعاء البلدان المتقدمة ان حقوق الإنسان وارتباط الدول بالاقتصاد العالمي لهما الأرجحية التامة على مبدأ السيادة. وتصر بلدان نامية كثيرة على رفضها أية إجراءات اقتصادية دولية، تؤدي إلى التضحية بحقوقها أو إضعافها في اتخاذ القرارات. لذا يمكن القول إن الاختلاف حول السيادة الاقتصادية هو في واقع الأمر صراع قوى مخفية يجري على الساحة الدولية، أحد أهدافه الرئيسة إضعاف السيادة الاقتصادية للبلدان النامية. ومن بين تلك القوى"الليبراليون الجدد"وعملهم الدؤوب لتمرير فلسفتهم التي تتركز حول المنافسة: المنافسة بين الدول والأقاليم والشركات والأفراد، الكفيلة بتحقيق التوزيع الأمثل للمصادر البشرية والمادية والطبيعية والمالية من خلال عملية فرز حقيقية لاختيار الأفضل. وفي هذا الإطار ركز الليبراليون على: التجارة الحرة للسلع والخدمات وحرية تدوير رأس المال والحرية في الاستثمار. إلا أن السنوات العشرين الأخيرة أثبتت عكس ذلك. فعلى سبيل المثال، أخفقت منظمة التجارة العالمية في وضع اتفاق استثمار متعدد الأطراف نظراً لإعطائها كل الحقوق للشركات العالمية الكبيرة، ووضعها كل الالتزامات على الحكومات ولا حقوق للمواطنين الأفراد. كما أن معظم الأموال التي تحمل عنوان"الاستثمار الأجنبي المباشر"لا تساهم في توفير وظائف جديدة وإنما تذهب في عمليات اندماج وتملّك، ما يؤدي غالباً إلى فقدان البعض وظائفهم. وفي هذا الشأن أشارت جريدة"هيرالد تريبيون"الى أن المستثمرين الأجانب تمكنوا من سلب الشركات والمصارف الكورية والتايلندية التي تدر أرباحاً عظيمة. ومعنى ذلك أن عمل آلاف التايلنديين والكوريين لسنوات طويلة، نقل إلى أيدي الشركات الأجنبية الكبيرة. كذلك يشير تخصيص بعض الأنشطة العامة التي انتشرت في نهاية السبعينات والثمانينات من القرن الماضي بما لا يقبل الشك، الى أن موضوع التخصيص ليس له علاقة بالكفاءة الاقتصادية أو تحسين الخدمات للمستهلك، ولكنها عبارة عن نقل الثروة من الخزانة العامة للدول إلى صالح خزائن القطاع الخاص من خلال فرض الأخيرة أسعاراً احتكارية. لذا لجأت دول أوروبية كثيرة في نهاية الثمانينات إلى إناطة بعض الأنشطة الخدمية بالمؤسسات الحكومية العامة مكاتب البريد، الاتصالات، الكهرباء، الغاز، السكك، النقل الجوي، الماء، جمع النفايات. كما وجد في شكل قاطع أن الليبرالية تزيد غنى الأغنياء وتفقر الطبقات الوسطى والفقيرة. إن تأريخ العشرين سنة الماضية يعكس كثيراً من النتائج السيئة لتطبيقات الليبرالية الجديدة، وعلينا أن ننتبه الى الأنماط التي توظف بموجبها رؤوس الأموال الأجنبية. كما أننا بحاجة إلى آليات يعاد بموجبها توزيع الدخول لمصلحة من سرق عبر السنوات العشرين الماضية. ويجب أن نعمل على ضمان أن تكون"السيادة الاقتصادية"دائما تحت سيطرة مجتمعاتنا وحكوماتنا بغية أن تتاح لنا مقاومة السياسات الغريبة علينا أو تعديلها، وفق الهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية لبلداننا. * استاذ جامعي