محمود شريف هو المصري الوحيد في الأدب العربي المهجري في فرعيه الأميركي الشمالي الأشهر هم أعضاء"الرابطة القلمية"في نيويورك: جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة والأميركي الجنوبي الأشهر هم أعضاء"العصبة الأندلسية"في ساو باولو: ميشال معلوف وحبيب مسعود وشكر الله الجر وشفيق المعلوف والشاعر القروي رشيد سليم الخوري ونعمة قازان والياس فرحات وتوفيق قربان. ولا يمكن اعتبار المصري أحمد زكي أبو شادي الذي أقام في الولاياتالمتحدة الأميركية في خمسينات القرن العشرين شاعراً مهجرياً إذ اقتصر إبداعه هناك على قصائد قليلة، وكانت شخصيته الأدبية اكتملت مع إصداره مجلة"ابولو"في القاهرة في ثلاثينات القرن العشرين، ومع ما كان لهذه المجلة من تأثير في تحديث الشعر العربي. ويعرف متابعو الأدب العربي الحديث التأثير النهضوي للأدب المهجري، خصوصاً في مجالي الشعر والنقد، إذ كان هذا الأدب مؤسساً للحداثة الشعرية في مشرق العالم العربي ومغربه، وذلك عبر حركة إبداعية حيوية ومجددة، أبرزها أعمال جبران خليل جبران المنظومة والمنثورة، والقصائد المنثورة التي كتبها أمين الريحاني أقام في نيويورك في أوائل القرن العشرين متابعاً دراسته الجامعية وكاتباً، قبل أن يقوم بجولات في عدد من البلاد العربية كتب خلالها مشاهدات وشهادات ذات قيمة أدبية واجتماعية وتاريخية، وعبر كتابات ميخائيل نعيمة النقدية التي حاول فيها تكريس ذائقة جديدة لشعر جديد كتابه الأشهر نقدياً هو"الغربال". لكن انقسام الأدب المهجري العربي إلى أميركي شمالي وأميركي جنوبي، تعدى المجال الجغرافي إلى الشكل الفني والمضمون، فالغالب على أدب مدرسة نيويورك تخطي الكلاسيكية نحو حيوية الألفاظ وشفافية المعاني وتفاعلها مع آداب الغرب وفنونه المعاصرة، بما يشكل الخطوة الأولى للحداثة العربية، ويغلب عليه أيضاً التركيز على أعماق النفس الإنسانية وصولاً إلى مجالات روحية لامس بعضها وحدة الوجود والأفكار الحلولية كما عند نعيمة وفي أحيان كثيرة عند جبران. أما أدباء المهجر الأميركي الجنوبي فغلب عليهم الأسلوب الكلاسيكي في الشعر ومواكبة الأحداث الكبرى في الوطن الأم عبر تغنيهم بالنضال من أجل الاستقلال والوحدة الوطنية بين الأديان والطوائف. لكن السمتين الغالبتين على كل من المهجريين الشماليين والجنوبيين لا تمنعان وجود استثناءات، من بينها قصائد إيليا أبو ماضي المقيم في نيويورك ذات الطابع الكلاسيكي الذي يلامس الرومانسية، وقصائد فوزي المعلوف المقيم في ساو باولو ذات النزعة التأملية في أعماق النفس الإنسانية ومصيرها. ومن ضمن الاستثناءات في أدب المهجر الأميركي الجنوبي"معلقة الأرز"لنعمة قازان التي اتخذها محمود شريف مادة لكتابه النقدي ومنطلقاً لأفكاره وتجربته كمصري كاتب وفنان في بيئة أدباء وفنانين مهاجرين من لبنان وسورية، وهذه البيئة أصدرت في الفترة بين العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الخامس من القرن العشرين حوالى 150 صحيفة ومجلة، غالبيتها في دول أميركا الوسطى والجنوبية، وكان أكثرها قصير العمر وأقلها طويله كانت المطبوعات تصدر بحرية عدا الفترة ما بين عامي 1941 و 1947 تقريباً، وفي البرازيل تحديداً، حيث أصدر رئيس الجمهورية قراراً يحظر فيه نشر أي مطبوعة في غير لغة البلاد الرسمية. ولم يبق من هذه المطبوعات ما يستحق الذكر، بعدما توفي الجيل الأول من المهاجرين وقسم من الجيل الثاني وندر متقنو العربية لدى الجيل الثالث لن نتحدث عن المهاجرين الجدد بعد حرب 1967 العربية - الإسرائيلية وحروب لبنان الأهلية، فهؤلاء يرتبطون بأخبار وطنهم الأم عبر الفضائيات وعبر القليل من المطبوعات الإخبارية الصادرة باللغتين العربية والمحلية والتي تستقطب إعلانات مؤسسات الجاليات العربية. ويرجع ازدهار الصحافة ومعها الأدب والفن إلى المستوى الثقافي المرتفع للمهاجرين الآتين قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها من لبنان وسورية وفلسطين، وإلى الحراك الاجتماعي لأبناء الجالية - القراء ليحفظوا ثقافتهم وانتماءهم ويؤدوا ولو من بعيد دوراً لمصلحة أوطانهم الأصلية التي كانت تعج بحركات التحرر من السيطرة العثمانية ثم من سيطرة الانتدابين الفرنسي والبريطاني، وبأزمات تشكل الدولة الحديثة في مجتمعات متعددة الأديان والأعراق. من هو محمود شريف وكيف ومتى وصل من مصر إلى البرازيل وكيف عاش وكتب هناك، ولماذا غادر هو المثقف والفنان بلده مصر التي كانت في ثلاثينات القرن العشرين، فترة مغادرته، تعج بالحركات الثقافية والسياسية وبالمنابر الصحافية المتنوعة، وتتيح للمثقف المصري فرص العيش الكريم في وظائف الدولة وفي القطاع الخاص؟ ليس من جواب شاف عن هذه الأسئلة سوى ما يمكن استنتاجه من كتاب"ثورة قازان في معلقة الأرز"، فلم نستطع الحصول على معلومات أخرى عن محمود شريف تغطي فترة نشوئه وعمله الأول في القاهرة، بل إن أول معرفتنا بهذا الكاتب هو خبر عن كتابه"ثورة قازان...."ورد في عدد شباط فبراير 1947 من المجلة الشهرية"الكتاب"التي كانت تصدر عن دار المعارف في مصر ويرأس تحريرها عادل الغضبان الأديب الشاعر الحلبي الأصل والمولود في مرسين - تركيا، ومراجعة نقدية لهذا الكتاب نشرت في عدد حزيران يونيو 1947 من المجلة نفسها بقلم الكاتب الأردني لاحقاً عيسى إبراهيم التاعوري أرسلها من القدس، وأعاد الناعوري نشر هذه المراجعة في سياق كتابه"أدب المهجر"الذي طبع مرات عدة في سلسلة"مكتبة الدراسات الأدبية"عن دار المعارف بمصر. يفيد محمود شريف أن أباه كان من الوجهاء المتأدبين يملك في بيته مكتبة عامرة، وپ"كان للمرحوم أحمد شوقي بك في مكانة الأخ. وكان المرحوم حافظ بك إبراهيم شقيقاً لأبي لا صديقاً وكان له وإياه في مجلس المرحوم الإمام محمد عبده يمين ولاء وإخلاص شهدها الإمام". بدأ محمود شريف حياته الأدبية في المهجر البرازيلي شاعراً"ثوروياً"، على المنابر لكنه ما لبث أن تخلى عن هذا النهج ليكتب شعراً لصيقاً بنفسه، واعتبر أنه"للنار تلك الناريات. للنار أصنام الجمهور. للنار ذلك الشعر الذي يوقظ أمة نائمة على صليل السيوف ولون الدماء وأنين الجرحى وحشرجة الشهداء". عمل لفترة مذيعاً في إحدى الإذاعات المحلية في ساو باولو باللغة العربية، كما عمل مدرساً للعربية والإنكليزية في إحدى مدارس المهاجرين اللبنانيين في ساو باولو مدرسة القديس ميخائيل، وصحافياً في جرائد ومجلات اغترابية، ويبدو أنه عمل لاحقاً لدى الشاعر نعمة قازان الذي كان رجل أعمال، ومن بين أملاكه مصنع كبير للأحذية في ساو باولو. ويروي شريف بدايات وصوله إلى ريو دي جانيرو عاصمة البرازيل سابقاً وتقلبه في مهن عدة، ومشكلات تكيفه في البيئة الجديدة: "خمسة صناديق جلدية حقائب مليئة بالثياب الثمينة وعدد من الأوراق المالية جدير بالاحترام وشباب لا عيب فيه وثقافة لا بأس بها. كان هذا رأس مال الداعي يوم أن بصقه الإطلنطيق على شاطئ البرازيل، وقد كنت على يقين من أن الحكومة البرازيلية ستبعث بمن ينتظرني عند الباخرة ويحمل عني أثقالي ويقودني إلى فندق شيِّد خصيصاً للمهاجرين، وبعد أسبوعين على الأقل يُنظر في أمري ويعهد إِليَّ في العمل الذي اختاره وأرضاه. هذا ما قاله لي الرفاق في مصر يوم أن أتيت على الثروة التي ورثتها عن المرحوم والد محمود شريف وصممت على الهجرة إلى البرازيل ثم إلى الولاياتالمتحدة الشمالية حيث"هولي ود"هوليوود مدينة السينما، حيث مستقبلي. لا شيء من هذا. كلام فارغ. أنا في الريو دي جانيرو عاصمة البرازيل سابقاً وحيد غريب لا أفهم لسان القوم ولا أحد يفهمني ولم أكن لأعلم عن البرازيل شيئاً مذكوراً.... قيل لي ان مواطنيك في الريو دي جانيرو أكثر من أن يعدّوا، فكان أن توغلت في المدينة على غير هدى حتى انتهيت إلى شارع أطول من عمر سيدنا نوح وأضيق من أخلاق حديث النعمة. وليت القائلين بجامعة اللغة العربية يزورون ذلك الشارع. ليتهم يسمعون القوم هناك وكل واحد له لهجة ولا قاموس لتلك اللهجات، بل ليتهم يدعون القديم يأكل بعضه بعضاً ويهتمون بدرس اللهجات والتوفيق بينها جميعاً بحيث تصبح لغة الكتابة في متناول الكل. لا أكثر عليك القول. لم أرَ خيراً من الرحيل إلى سان باولو حيث جماعة من المصريين علّقت أملي بهم. وهناك وبين أيدي تلك الجماعة عرفت أنّ لا أحد لأحدٍ في البرازيل، وما حكّ جلدك مثل ظفرك. أنا يا ناس فلان بن فلان لم أقرب العمل في حياتي ولا وزر لي إِلا الكتابة والتمثيل، فماذا أفعل؟ ... وفي سنتين تقلّبت في المهن الآتية: خادم في مطعم - بواب فندق - عامل في مذبح - بائع جوارب - عامل في السكة الحديد - ممثل مسرحي - كاتب في جمعية سياسية - مدرّب للبوكس في كلوب رياضي منزلي - مدرّس للغة الإنكليزية - صحافي يكتب ويحمل الحروف إلى المطبعة... وفي ولاية بارانا قضيت سنة ونصف سنة اشتغل بزراعة القهوة لأحصل على القوت الضروري، وكانت تسليتي الليلية لا أكثر من استخراج الحافور من أصابع قدميّ اللتين صارتا وقتئذٍ كدسكرة النحل... ثم ولاية ماطو غروسو حيث اشتغلت في مناجم الماس". ما هي الظروف التي دفعت محمود شريف إلى الهجرة؟ يقول انه بعد وفاة أبيه أقنع أخاه الكبير بضرورة التحاقه بالمدرسة الثانوية في القاهرة، وساعده عمه في إقناع الأخ فكان له ذلك. هذا يعني أن العائلة كانت تقيم في مدينة أو بلدة مصرية ما خارج القاهرة. يقول شريف:"هذا هو عمي يزين لي القاهرة ويراودني على توكيله في أملاكي ويضع في يدي بدرة من المال لم أكن أحلم بها ... وهاجرت بعد أن أتيت بمساعدة عمي على الثروة الضخمة التي تركها لي أبي، وكانت البرازيل حظي دون بلاد الله الواسعة". ويركز شريف على قراءاته المبكرة لأشعار عربية جنسية كبعض قصائد أبي نؤاس وبعض أبيات"القصيدة اليتيمة"، ولما اكتشف أبوه ذلك ضربه وحذره من هذه القراءات وأمر الخادم ألا يدعه يقترب من مكتبة البيت، لكن شريف عاد إلى سيرته الأولى بعد موت الأب:"لبى الوالد دعوة ربه، وأستحي من نفسي إذ أقول لك انني عدت من المقبرة إلى البيت واقتحمت باب المكتبة اقتحاماً تاركاً خلفي الباكين والباكيات وطفقت أفتش فيها عن الدرر اليتيمة وغير اليتيمة...". من هذا المدخل الشخصي للأدب وللشعر خصوصاً، يصل محمود شريف إلى معيار أخلاقي، وتوصله توبته إلى محاكمة الشعر العربي قديمه وحديثه وفق هذا المعيار، ويعتبر شعر نعمة قازان، خصوصاً قصيدته الطويلة"معلقة الأرز"، نموذجاً يحتذى للشعر الأخلاقي الإنساني. وفي كتابه"ثورة قازان"جولات من المحاكمة النقدية الشرسة للشعر أو للأدب المهجري العربي، خصوصاً معاصريه في أميركا الجنوبية. ونعمة قازان الذي يعلن محمود شريف باسمه أو من خلال شعره ثورة في نقد الشعر ذات طابع أخلاقي، هو لبناني من مواليد جديتا - منطقة البقاع عام 1908، كتب الشعر بالفصحى وبالعامية، ونشر بتوقيع"بدوي البقاع"وپ"فرخ النسر"قبل أن يوقع قصيدته الطويلة"معلقة الأرز"صدرت في البرازيل عام 1938 ومجموعته الشعرية"المحراث"صدرت في البرازيل عام 1964. ويركز قازان على رسالة للشعر قائمة على الفضيلة وتمجيد الله والإنسان، ويرى، كما يرى معه محمود شريف، أن أدب ميخائيل نعيمة هو الدرة الوحيدة في الأدب العربي، قديمه وحديثه، كما أن جبران وصل إلى منتصف الدرب ولم يكمل رسالة الشعر التي وحده نعمة قازان أكملها في"معلقة الأرز". هذه الطهرانية المتعالية على"ماديات"الشعر المهجري في أميركا الجنوبية هي هدف شعر قازان ونقد شريف، وهي، في خلفيتها الوجدانية والاجتماعية، محاولة للخلاص من التباسات الهوية والانتماء والصراع الديني والأيديولوجي في بلاد الشام التي حملها المهاجرون إلى البرازيل وسائر أميركا الوسطى والجنوبية، يقول شريف:"لبنان اليوم منقسم على نفسه وإصلاح نعمة قازان جاء في الصميم. يعني أنه تناول الأدب الذي هو منبر الأمة. تناول الأدب المنقسم على نفسه ليوحّد به الأمة المنقسمة على نفسها". الفضيلة والجامع الإيماني بين الأديان هما معيار محمود شريف النقدي، وباسم هذا المعيار يحصد رؤوساً شعرية وأدبية قديمة وحديثة، مركزاً على معاصريه من أدباء المهجر، بحماسة صاحب الرسالة الذي لا يرعوي عن تدمير الخصوم والمحايدين باسم رسالة يعطيها صفة القداسة. وبين هؤلاء الخصوم والمحايدين أسماء قديمة وحديثة، من المتنبي إلى أحمد شوقي، ومن إلياس أبو شبكة إلى الشاعر القروي رشيد سليم الخوري وغيرهم كثير. أسماء يحطمها محمود شريف كما يحطم الأصنام، مستجيباً"تعاليم"نموذجه نعمة قازان في زرع الفضيلة الموجودة في الكتب الدينية المقدسة"في نفوسنا ونفوس الناس بأبسط حالة وبألطف عبارة". إنه نقد خاص ليس كمثله نقد، نستعيد معه سجالات أدباء مهجريين في أميركا الجنوبية لم يبق منهم سوى قبس شحيح وذكرى.