إذا كان عالم المسلمين اليوم يشهد - مثل بقية أنحاء العالم - تغييرات اجتماعية واقتصادية ومعرفية هائلة لا نظير لها في ما سلف من مجمل التاريخ الإنساني فإنه ما زال يشهدها من واقع التبعية للمركز المتقدم حضارياً. نتيجة لهذا فإن نزعة مقاومة واقع الهيمنة دفعت بقوى عدة في عالم المسلمين أن تتبنى موقفاً دفاعياً من الآخر المختلف متخذة في ذلك التراث العربي الإسلامي نقطة ارتكاز لذلك الدفاع. من هذا الاتجاه برز توجه إحيائي يعتبر أن لذلك التراث من القدرة على مواجهة واقع الهيمنة الحضارية الحديثة التي تفرضها حالة: الجذب/ الطرد التي يمارسها المركز على الأطراف المتخلّفة بحيث يمكن به مطاولة المركز وتجاوزه. استفاد هذا التوجه العام الذي يعتمد قراءة تراثية للتراث من حالة ثقافية سائدة في عموم البلاد الإسلامية جعلت"الإنسان"في تلك المجتمعات كائناً متديِّناً حتى وإن عبّر عن تنكّره الصارخ لتعاليم الشريعة أو شعائرها. لقد استمر متديّناً لأكثر من سبب، لكنه استمر على تلك المفارقة لأنه ظل اجتماعياً من دون تأسيس وعي مدنيّ يمكن أن يقطع مع منظومة القيم الدينية وتصورها المركزي كما حصل في التجربة الغربية بما يمكن أن يعيد بناء القيم وتنسيقها على قواعد جديدة. لذلك بقي ذلك الإنسان يترجم في عقله الاجتماعي عن الصورة التي يحملها عن العالَم ومعناه وعن نفسه وإرادته ومآله وعن طبيعة"الحضور المتعالي"في كل ذلك. من هذا السياق الثقافي - الاجتماعي استمدّ التوجه الإحيائي الرافض للمعاصرة جانباً من قوّته الذاتية. يضاف إليه جانب خارجي متمثل في ما يراكمه يومياً السياقُ الكوارثي في الأراضي المحتلة بفلسطين والعراق إضافة إلى البؤس المادي والنفسي للمجتمعات المقموعة والمُحبَطة نتيجة فشل مشاريع التنمية والتحديث. هكذا تفشَّتْ مقولة إنكار تحوّل الذات ومعها تأكد الإعراض عن فهم الآخر على اعتبار أن المكونات الخاصة كافية لطرح مشروع حضاري بديل. يحصل هذا في وقت تواجه العولمة كل المجتمعات الإنسانية بتحديها الذي تطرحه من دون أن تقدّم لها ما يساعد على الجواب. إن الجميع مطالبون بمعالجة قضية التعددية الثقافية والدينية ذلك أن الواقع الجديد فرض سؤالاً للعصر هو:"كيف يمكن أن نعيش معاً ومختلفين؟". على هذا أصبحت معضلةُ العصر هي انخراط العالَم في دورة صدام الراديكاليات: الإحيائية - الجهادية والإمبريالية العسكرية - الاقتصادية الغربية. لذا تأكد الاهتمام بكيفية التحرر من أَسْر راديكاليتين متماثلتين ومتدابرتين؟ ولزمت الإجابة عن سؤال: كيف يتاح للمثقف أن ينعتق من الأمر الظرفي وأن لا يقصر همَّه على حاجيات أمته الإسلامية فحسب؟ ذلك هو الرهان الكبير في زمن الرهائن. إذا عدنا إلى قضية العصر وبؤرة تساؤله فكيف يمكن تقديم تمثّل فكري لمسألة التعددية الدينية والثقافية ضمن سياق إنساني؟ صوغ المسألة من زاوية المعاصرة الإسلامية تتجه إلى تنزيلها ضمن جدلية الوحي والتاريخ أي أنها إشكالية تتناول بالبحث علاقة المقدّس بالإنساني أو الطريقة التي يمكن للمسلم أن يصوغ بها إيمانه سلوكاً وفكراً صوغاً مرتبطاً بظروف التجربة الإنسانية. كيف يمكن بناء فكر ديني يكون ممثلاً للخطاب التأسيسي من جهة ويكون مقبولاً من أجيال من المسلمين وغير المسلمين الذين تمثلوا بدرجة من الدرجات التطورات الفكرية والحضارية الحديثة؟ بتعبير آخر كيف يمكن للمؤمن أن يعيد اكتشاف معاني القرآن وفق شروط الوعي المعاصر؟ ما نقدّمه من قراءة للخطاب القرآني ونزعته الإنسانية يتنزّل في هذا المسعى ويرتبط بصيغ فكرية وروحية لإيمان هو في حاجة دائمة للتحيين والراهنية. تختلف هذه القراءة التجديدية عن القراءة التراثية منهجاً وتصوراً وغاية فهي تعمل من بين ما تعمل فيه على إعادة النظر في جملة من المفاهيم التأسيسية الإسلامية يكون على رأسها مفاهيم الدّين والوحي والعلم والنبوّة والشريعة والعالمية والإنسان. إذا أردنا أن نحدّد موقع الإنسان في الخطاب القرآني فلا بد من أن ندرك أن الوحي لم يتجاهل الشروط الموضوعية للسياق التاريخي التي واكبته مما جعل النص متعلقاً في جانب منه بالأداء الحضاري للإنسان في القرن السابع ضمن البيئة العربية الشمالية. هذا الإقرار جزء ممّا يسميه المفكر الإيراني مجتهد شبستري"علم النص"وهو علم يربط بين المتن وبين الواقعيات المحايثة له. كيف يتبدّى لنا الإنسان في النص أولاً وفي الخطاب القرآني ثانياً؟ ذُكر لفظ الإنسان في النص القرآني مرات قليلة لا تتجاوز ال65 مرة فهو من هذه الناحية لا يُعتبر من أهم الألفاظ القرآنية مقارنة بلفظة الله التي تعدّ أشد الألفاظ تواتراً. من جهة ثانية فإن السياق الدلالي الذي ترد فيه كلمة الإنسان يتوزعه محوران: محور الإدانة فهو ضعيف - يؤوس - خصيم مبين - عجول، هذا شأنه في أكثر من نصف الآيات التي تذكر الإنسان. إضافة إلى هذا نجد محوراً يتحدث عن خلقه وما أودعه الله فيه من استعدادات متباينة: فهو من حمأ مسنون - من علق -... إلى جانب ذلك فالله علمه البيان وعلمه ما لم يعلم. كيف يمكن أن نعالج هذا الجانب من النص والحال أن عموم الخطاب القرآني يتجه في خصوص الإنسان وجهة أخرى إذ يجعله يحظى بمكانة متميزة فهو خليفة الله وهو مخاطَب بالوحي؟ لا بد من العود هنا إلى ما أشرنا إليه من"علم النص"الذي ينطلق من الوعي بخصوصية الوحي وطبيعة الخطاب الإلهي للناس. يتأسس هذا العلم على مبدأ أن الله الذي تجلّى للعالم قد تجلّى للإنسان فخاطبه بالرسالة وجعل نصها الديني غير منفصل عن تاريخه في الوقت الذي تكون وظيفة الوحي تعالياً وتحرراً من ذلك التاريخ. بعبارة أخرى علم النص يعتبر أن الوحي الإلهي حين يتجسد نصّاً لا يستقلّ تماماً عن التجربة الإنسانية وإن كانت غايتُه مجاوزتَها. حين ينصّ القرآن مثلاً على أن الإنسان"لا يسأم من دعاء الخير"وأنه إذا أنعم الله عليه"أعرض ونأى بجانبه"، حين يقع هذا فلا بد من أن نذكر أوّلاً أن لفظة الإنسان في اللغة القرآنية قريبة العهد بالاستعمال اللغوي العربي القديم الذي يتداول هذا اللفظ في سياق استهجاني لأن الإنسان قرين الضآلة والانقطاع والخروج عن الجماعة. يساعدنا على التحقق من هذا لسان العرب الذي نجد فيه أنّ:"الإنسان له خمسة معان أحدها الأُنُملة... وثانيها ظل الإنسان وثالثها رأس الجبل ورابعها الأرض التي لم تُزرع وخامسها المثال الذي يرى في سواد العين ويقال له إنسان العين". ما ورد من الآيات عن الإنسان"الكنود"أو الذي"يفجُرُ أمامه"وثيق الصلة بالنسق المعتمد في الثقافة العربية السائدة وهو نسق يعتبر التفردَ مهلكةً وخسراناً بينما يُعلي من شأن الانطواء في العشيرة والسعي المتواصل لجمع شتاتها. هذا الترسّب التاريخي المستهجِن لنزعة التفرد قائم في النص القرآني على رغم أن خطاب الوحي يريد باستعماله إياه أن يزحزحه ويدفع به خارج هذا الحقل فيذكر أن الإنسان هو أيضاً مصغٍ إلى النصح وقابل للتوجيه"وصينا الإنسان بوالديه"أو"أنه على نفسه بصيرة". هذه المواكبة التي يكشفها لنا بحث الإنسان في النص والخطاب تجعلنا ندرك أن النص يتفاعل مع الشروط الموضوعية التاريخية ولكنه لا يقف عندها. من ثم كان لا بدّ من التمييز بين نص القرآن كمتن وخطاب القرآن الذي هو أوسع مجالاً لأنه مرتبط بعالم ذلك المتن وعالم النبي صلى الله عليه وسلّم الذي استوعب الوحي. صورة الإنسان في المتن إذاً مختلفة عنها في الخطاب القرآني وهذا يتأكد خصوصاً عندما نستحضر ثانياً أن الخطاب القرآني يعتمد لتحقيق هذه الزحزحة الدلالية على ألفاظ أخرى يركّز بها هذا المعنى الذي يدفع إليه الوحي دفعاً من خلال قوالب فكرية وتعبيرية لها ملابساتها الخاصة. من ذلك ما نجده في لفظة"نفس"ذات الاطراد الأكبر وذات التوجه المعبر عن الاستعدادات الكبرى التي يتمتع بها الإنسان لتحمّل المسؤولية في الرسالة التوحيد والاستخلاف. هي النفس الواحدة الجامعة"هو الذي أنشأكم من نفس واحدة"وهي النفس المكلَّفة"ولا تكلف نفس إلا وسعها"وهي المسؤولة"يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها". * كاتب تونسي