مساء اليوم تشهد الجامعة الأميركيّة في بيروت حدثاً استثنائياً على المستويين الأكاديمي والسياسي، إذ تستقبل في حرمها زائراً من نوع خاص، هو المفكّر والباحث المعروف نعوم تشومسكي. "تشومسكي في بيروت"عبارة كتبت على شكل شعارات الجدران، وملأت شوارع المدينة اعلاناً عن احدى المحاضرات التي سيلقيها، بين العاصمة والجنوب اللبناني، أستاذ اللسانيات في جامعة مساتشوستس. تشومسكي، الابن الرهيب للمؤسسة الرسميّة الأميركيّة أخيراً في بيروت التي أوصدت أبوابها في وجهه، بطريقة عبثيّة العام 1998، حين دعاه"مسرح بيروت"للمشاركة في تظاهرة لإحياء الذكرى الخمسين لنكبة فلسطين. يومها حركت أصابع خفيّة حملة ضدّه، بحجّة أنّه"يهودي". والمفارقة أن تشومسكي الذي بدا لبعضهم في تسعينات القرن الماضي ضيفاً"مشبوهاً"، يستقبله لبنان لإلقاء محاضرتين في الجامعة الأميركيّة الأولى سياسيّة والثانيّة في مجال اللسانيات ثمّ ثالثة في"مسرح المدينة"ورابعة في مركز"المجلس الثقافي للبنان الجنوبي"في النبطيّة. تركّز اهتمام العرب بتشومسكي، خلال العقد الأخير، خصوصاً بعد 11 أيلول سبتمبر 2001، على نشاطاته السياسيّة المباشرة وكتاباته السجاليّة التي قامت على تفكيك آليات"الهيمنة الأميركيّة". كما تتجلّى في مؤلفات مثل"عن الحرب سياسةً خارجيّة للولايات المتحدة"أو"تصنيع الاجماع"مع إدوارد هيرمان، حيث يكشف دور اللوبي الصهيوني في تحديد مسار السياسة الأميركيّة أو أيضاً"الهيمنة أم البقاء؟ السعي الأميركي للسيطرة على العالم"،"القوّة والارهاب، جذورهما في عمق الثقافة الأميركيّة"،"الدول المارقة حكم القوّة في الشؤون الدوليّة"... وغيرها من العناوين بعضها مترجم إلى العربيّة بين القاهرة ودمشق وبيروت التي من شأنها أن تجعل تشومسكي"عدوّ أميركا الرقم واحد"... على الأقلّ في عيون المحافظين الجدد! ويتولّى تشومسكي أيضاً تعرية وسائل الاعلام في العالم الحرّ، إذ تدّعي الموضوعيّة فيما هي تشكّل آلة جبّارة لقولبة الوعي و"تصنيع"الرأي العام. وأفرام نعوم تشومسكي المولود العام 1928 في بنسلفانيا، في شبه"غيتو يهودي"موزعاً على ثقافتي اليديش والعبريّة، اختبر"الطوباوية"الصهيونيّة شاباً، إذ عاش في"كيبوتز"في اسرائيل قبل أن يعود أدراجه ويصبح أحد أشرس نقاد السياسة الاسرائيلية. وبدأت مواقفه الراديكاليّة تتبلور أيّام حرب فيتنام حين ناضل في صفوف حركة"ريزيست"قاوم، ووضع كتابه الشهير"مسؤولية المثقفين". وفي السنوات الأخيرة توقف ملياً عند مفهوم أميركا للارهاب، وخلفيّات اختيارها"الدول المارقة"، فيما تشكّل بجبروتها ومطامعها"القوّة الارهابيّة الأكثر خطراً على الكوكب". لكنّ تشومسكي هو أوّلاً وأساساً أحد أهمّ المساهمين في"علم اللغويّات"المعاصر، وريث المدرسة البنيويّة الأميركيّة وتلميذ زيليغ هارس، تعتبر نظريّاته في مجال"النحو التوليدي"أو التحويلي كما تبلورت في مؤلفه المرجعي"البناء السياقي"1959، مفترق طرق حاسماً في مسار علم اللسانيات، والتجاوز الأساسي للمدرسة البنيويّة. اعتبرته"نيويورك تايمز"أحد أكثر المثقفين تأثيراً في العالم. وكشف موقع علمي أميركي هو"فهرس الاستشهادات في الفنون والعلوم الانسانيّة"أنّ كتاباته هي بين المصادر الجامعيّة الأكثر اعتماداً في العالم. وتركت بحوثه بصماتها على مجالات علميّة، من علم النفس السلوكي إلى المعلوماتيّة التي اعتمدت على"هرميّة تشومسكي"لفهم تباين"النظم اللغويّة الشكليّة"، مروراً بالطبّ... إذ استُعمل نموذجه التوليدي من قبل نيلز كاج جيرن نوبل الطبّ، 1984 لشرح جهاز المناعة البشري. محاضرته الأولى في بيروت هذا المساء ستكون سياسيّة، عنوانها"جبروت السلطة". وتأتي الثانية غداً الاربعاء أكثر أكاديميّة، مرتبطة باختصاصه الأوّل في علم اللسانيات. ويقدّم تشومسكي محاضرة ثالثة، مساء الجمعة، في"مسرح المدينة"بعنوان"أزمات داهمة: مخاطر وفرص". وسيجول تشومسكي على المخيّمات الفلسطينيّة، كما يزور معتقل الخيام وبلدة قانا في الجنوب اللبناني السبت، ويلقي محاضرة أخيرة في النبطيّة.