احتدم الجدل حول قضية الديموقراطية في العراق. وكالعادة، اختار الفكر السياسي العربي خطة الهروب الى الامام والمزايدة للتنصل من المسؤولية. السؤال الرئيسي الذي فرض نفسه هو الآتي: هل ان اميركا جادة في دعواها تطبيق الديموقراطية في العراق؟ البعض عوّض خيبة امله بالبطولة الصدامية بتحويل سهام الشماتة نحو الادارة الاميركية: "لقد حذرناكم من ان اميركا لم تأت من اجل الديموقراطية بل طلباً للنفط"، وكأننا كنا محتاجين الى تحذير كهذا. وجهة نظر اخرى تقول: "الادارة الاميركية تكتشف اليوم تعقّد الوضع العراقي، وستدرك كم كانت حالمة". يتعين حينئذ ان نستنتج ان الديموقراطية مشروع مستحيل. لكن المانيا وايطاليا عندما دخلتا العهد الديموقراطي كانتا ايضاً في وضع معقد ومنقسم، بل الولاياتالمتحدة نفسها بنت الجمهورية الفيديرالية الديموقراطية في ظروف مقاومة احتلالين بريطاني واسباني وتنازع داخلي اسفر عن حرب اهلية حول مصير العبودية. وبالأمس القريب استطاعت البلدان الشيوعية سابقاً ان تغير الامور بسرعة، وكذلك بلدان اميركا اللاتينية التي لم يمنعها عداؤها للتدخل الاميركي في شؤونها من التقدم نحو انظمة حكم ديموقراطية. لماذا يكون الاستثناء العربي حاضراً حتى في هذا المجال، ويكون التعقيد حائلاً دون التغيير وكأنه خصوصية المجتمعات العربية دون غيرها؟ ولماذا لا يذهب هؤلاء الى النتيجة المنطقية المترتبة على موقفهم، وهي تفضيل الإمام الغشوم على الفتنة التي تدوم، أي التحسر على عهد الرئيس المخلوع؟ وجه الخطأ في الجدل الحالي انه يوجه الانظار الى النيات الاميركية بدل تحليل اسباب العجز من الداخل. هناك اولاً الديكتاتورية التي تحرق الارض وراءها وتمحق الفرد فلا تبقى له قدرة على التفكير والحلم وتصور عوالم جديدة. هناك ثانياً هذا الرفض المخزي لدى العرب لاعانة العراقيين، ربما لأنهم ليسوا في وضع افضل منهم، فلم يمدوا يد المساعدة لتخليص العراقيين من النظام الصدامي، ولم يمهدوا للمستقبل باحتضان الفصائل الوطنية من المعارضة العراقية كي تستعد لما بعد صدام. وهم لا يعينونهم اليوم بأن يقدموا لهم افكاراً ومقترحات للبناء الديموقراطي، ربما لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وفي المقابل ترتفع الاصوات بمطالبة الأميركيين بالرحيل فوراً وترك امر العراق لأبنائه، وهذا موقف صحيح من الناحية المبدئية، ولكن هل يمكن ان نتصور نتائجه العملية لو وقع فعلاً؟ لكن العنصر الذي يبدو أهم هو الآتي: ان العروبة السياسية تبدو اليوم المنهزم الاكبر، لكن الاصح انها انهارت منذ 1990 عندما غزا صدام الكويت. ومع ان 13 سنة تفصلنا عن ذلك الحدث، لم نتقدم كثيراً على مستوى الفكر السياسي مقارنة بما كان سائداً. قد نفهم ان البعض لم يجد مناسباً ان يرى علاقة بين سقوط الاتحاد السوفياتي ومستقبل المنطقة العربية، وانه توهم ان كل شيء كان يمكن ان يتغير في العالم سوى هذه المنطقة التي ينظر اليها دائماً على انها استثنائية، لكن حرب الخليج الثانية كانت زوبعة في داخل المنطقة ذاتها. لكن البعض رأى أن المسألة ستنتهي بمصالحة على الطريق القبلية، فيما اغتبط آخرون بسقوط الاصنام، ظناً بأنه يمكن ان نشهد سيناريوات على طريقة اوروبا الغربية: أن يخرج الناس في الشوارع مهللين يحملون الورود الى قوات التحرير. ولم يدرك هؤلاء ان لا وجود لماضٍ ديموقراطي كي يستعاد بالتحرير، وان اميركا تظل غريبة حتى لو كانت خيّرة، فما ادراك اذا كانت نياتها محل ألف سؤال. اغتبطنا بانهيار المشروع الديكتاتوري المتدثّر بالقومية وكنا نعلم انه انتهى منذ 1990، ثم ماذا صنعنا بعد ذلك؟ منذ نهاية حرب الخليج الثانية لم نشهد قيام بديل فكري لذلك المشروع. وما نعيش اليوم ليس صدمة للتيار القومي فقط لكنه صدمة للتيار الديموقراطي ايضاً، إذ نرى ان وقائع الاحداث لا تتجه نحو طريق الانبعاث الديموقراطي بقدر ما توشك ان تعيد المنطقة الى وضع قديم، وضع الانتماءات العشائرية والدينية والطائفية. واذا كان البعض يحذر اليوم من اللبننة فإن مجال المقارنة الأنسب مع الوضع الجزائري في التسعينات، عندما قامت تجربة حقيقية تحاول ارساء الديموقراطية في ظل وضع اقتصادي واستراتيجي غير ملائم، فأدى التنازع بين المشروع الكلياني العسكري والمشروع الكلياني الاسلاموي الى وأد التجربة. لكن ما انقذ الجزائر من الانهيار التام هو تحول الاستقطاب الى لون طائفي، بين العروبة والبربرية، ما انتج وضعاً لا غالب فيه ولا مغلوب، فلا الدولة فرضت مشروع التعريب، ولا الاسلاميين مشروع الاسلمة، ولا الحركة الثقافية البربرية مشروع التعددية الثقافية واللغوية. رجع المجتمع الى جموده السابق نتيجة الملل من صراعات بالغة التكلفة، على رغم ان الدولة لم تعد تتمتع بالحضور الذي كانت عليه في السبعينات، سياسياً وايديولوجياً واعلامياً ، لكنها لم تشهد ايضاً الانهيار الكامل، لانها ظلت تدير عائدات النفط التي لم تتأثر بكل ما شهدته الجزائر من تقلبات طيلة عقد صاخب. يبدو لي ان افضل براديغم لتحليل الوضع العراقي اليوم هو المقارنة بالجزائر، اذا قبلنا طبعاً ان الاسباب الرئيسة للمأزق هي داخلية، ما يعني انه يمكن موقتاً ان نضع بين قوسين الحضور الاميركي. الدولة العراقية القادمة ستكون ضعيفة تقتصر مهمتها على ادارة الريع النفطي وتسيير الخدمات العامة، وهي لهذا السبب لن تكون ديكتاتورية، لكنها لن تكون قادرة ايضاً على تحقيق الاصلاحات العميقة مثل تطوير التشريعات المتعلقة بالمرأة وترسيخ فكرة المواطنة ونشر التعليم الحديث والسماح بالحريات الفردية خارج اطار الخضوع الى الطائفة او القبيلة او من سيقوم مقام السيطرة الثقافية للدولة. ما يعني ان الديموقراطية الموعودة قد تقتصر على مجرد تعايش بين الطوائف وخضوع للقيادات المحلية. والى حد الآن لا نرى في العراق حضوراً بارزاً لفصائل المعارضة في ادارة الشؤون اليومية، بل رؤساء العشائر وائمة الطوائف الدينية هم الذين يقدمون الملاذ الذي يلجأ اليه شعب فقد نظام الدولة، اذا استثنينا الحزبين الكرديين اللذين يحظيان بشرعية قديمة وتجربة حقيقية. وحسناً تفعل الادارة الاميركية عندما تترك مجالاً واسعاً لهذا التعبير التلقائي للملمة الامور في العراق، فهذه الطريقة الوحيدة لمنح الناس بعض الثقة وادراك الواقع الميداني على حقيقته، لكن هذا الموقف لا يمكن ان يتواصل طويلاً، وبما ان السياسية الاميركية تتميز بالبرغماتية فإنها ستنتهي الى التعامل مع كل الاطراف التي تضمن مصالحها، ما قد يخيب مستقبلاً آمال الديموقراطيين، على رغم ان الدور الاميركي كان يمكن ان يكون مساعداً بصفته واقعاً لكنه يزحزح الوضع بعد ثلاث عشرة سنة من الجمود الكامل. علينا اذاً ان نفكر، اما ان نواصل الهروب الى الامام، بتحميل اسرائيل واميركا كل مصائبنا ومظاهر عجزنا، ومنها اليوم المأزق الديموقراطي في العراق، او ان ننظر الى الوضع الحالي على انه تحد حقيقي لا للعراقيين وحدهم بل لكل من ينادي بالديموقراطية من بين ابناء المنطقة، امامنا موقفان لا ثالث لهما. يتمثل الاول في البحث جدياً عن مقترحات وبدائل ومشروع ديموقراطي حقيقي ينطلق من الحقائق الميدانية وليس من التنظير المجرد او تلخيص كلاسيكيات الفكر السياسي الحديث، ويتمثل الثاني في المزايدة الخطابية والهروب من المسؤولية واستعادة نظرية المؤامرة الخارجية وصورة الضحية التي لا تتحمل أي مسؤولية. في ما يتعلق بالعراق تحديداً ينبغي ان نتذكر انه كان يقال بالأمس ان العائق امام تنامي الحركة الديموقراطية هو القمع الاستثنائي الذي كان يمارسه نظام البعث في العراق، ثم اصبح بعد ذلك الحصار الاقتصادي الذي يجوع الناس فلا يترك امامهم فرصة للتفكير، ثم يصبح اليوم التواجد الاميركي على ارض العراق الذي يهين الكرامة. ان الكثير من التحاليل اليوم تهدف الى اقناعنا ان الادارة الاميركية لا تحمل في جعبتها مشروعاً ديموقراطياً للمنطقة، واظن ان هذا في ذاته صحيح، لكن لماذا نريد من الاميركيين ان يأتوا بهكذا مشروع؟ ان التحدي الحقيقي لا تتحمله اميركا، ولا حتى العراقيين وحدهم، بل كل ابناء المنطقة، فلا يكفي ابداء الغبطة لسقوط صدام، خصوصاً ان البعض لم يعبر عن هذا الموقف الا بعد نهاية الحرب، في العراق وفي خارج العراق، لكن ينبغي رفع التحدي بتفادي ان تنتهي كل هذه المعاناة بمجرد الانتقال من خطاب الهوية المنطلقة الى خطاب الهوية الطائفية، فشعور الافراد بالعجز امام الأحداث تتجاوزهم وتهددهم، او هكذا يبدو الامر في مخيلاتهم، سيدفعهم الى استبدال الاستكانة الى الدولة ولو كانت جائرة بالتحصن بالطائفة والعشيرة، فإذا لم يتحدد مشروع ديموقراطي يعمل على صياغته ابناء العراق وكل ابناء المنطقة وكل العرب، وهم القابعون جميعاً في آخر الركب الديموقراطي في العالم، فإن مآل الدعوة الديموقراطية في العقود المقبلة يكون نفس مآل الدعوة القومية في العقود السابقة، أي ان تستعمل شعاراً لتبرير مصالح فئوية وللتمويه عن السيطرة المقنعة التي تفرضها اقلية متماسكة على غالبية مفككة، او هكذا اريد لها ان تكون. يتعين حينئذ التأكيد ان طريق التوقي من الدمار الكامل للذات ليس التحصن بالهوية في زمن الاحتلال بل البحث عن البديل الديموقراطي الذي يحرر الافراد من الهيمنة على أي شكل كانت. الديموقراطية اولاً، لتسلم الهوية، وليس العكس. والا كان التمسك بالهوية صورة لاستبطان العجز، وقام مقام الديكتاتور وتمثاله الضخم مجموعة من المستبدين الصغار الذين يعيدون اداء دور الاب بعد ان قتلوه. آنذاك تجد اميركا وغيرها الفرصة سانحة لتمرير مصالحها كما تريد وترغب. على ان الادارة الاميركية حتى لو كانت كل غاياتها ان تقيم قواعد عسكرية في العراق وتتحكم في مدخراته من النفط والغاز فإنها لا تقدر ان تمنع مشروعاً ديموقراطياً اذا ما بان مطلباً جماهيرياً واضحاً، فالمطلوب استغلال هذا الضعف الاميركي اذا كان ضعفاً، او هذه الرغبة الاميركية اذا كانت رغبة، حتى تتحول المأساة العراقية الدائرة منذ 24 سنة الى بداية امل، او على الاقل لا يعود العراقيون الى وضع جمود بعد كل المعاناة التي اصابتهم. * كاتب تونسي.