الذين تابعوا الحركة النسوية، في ايطاليا خصوصاً في سبعينات القرن العشرين يتذكرون بالتأكيد الحملة العنيفة التي شنتها مناضلات بعض التنظيمات اليسارية ضد أفكار الفيلسوف الألماني هيغل، لمجرد انهن عثرن في كتاباته على ما يمس كينونة المرأة ويكشف عن بعض تمييز ضدها. والغريب طبعاً في هذا الأمر هو أن تلك المناضلات رأين سطوراً لدى هيغل وفاتهن ان يرين، لتغذية غضبهن، أعمالاً كاملة عند شكسبير، تعادي المرأة وتقلل من أهميتها... فاتهن ان يرين، على وجه التحديد، المشهد الأخير، مثلاً، في واحدة من أشهر مسرحيات سيد المسرح الانكليزي والعالمي."ترويض الشرسة"حين تجتمع شخصيات المسرحية ويتبارون، رجالاً ونساء، في الحديث عن ضرورة طاعة المرأة للرجل، طاعة عمياء، ويفتخر كل رجل من الحضور بأن زوجته هي الأكثر طاعة أمام الزوجات اللواتي يوافقن على ذلك ويبدين من الاذعان الطوعي ما يدهش. في الحقيقة ان هذا المشهد وحده، بحواراته الساذجة، كان من شأنه ان يكفي لاستثارة عداء كل نساء العالم ضد شكسبير... لكن الذي حدث هو ان اسم هيغل كان يحمل رنة نخبوية وبعداً ثقافياً مفاجئاً، في مقابل شكسبير الشعبي الجماهيري. ومن هنا كان النضال يحلو بمهاجمة الكبار النخبويين، أكثر مما يحلو بمهاجمة كاتب شهير كشكسبير، كما يبدو. المهم ان هذا لا يبدل من الأمور شيئاً: شكسبير هو، بالتأكيد، وفي الكثير من مسرحياته، الوريث الشرعي لكل ما كانت العصور الوسطى تحله من استصغار لشأن المرأة، والنظر اليها كمطية للرجل وخادمة له... له أن يأمرها وعليها أن تطيعه. ومهما حاول دارسون ان يقولوا لاحقاً أن شكسبير انما كتب بعض أعماله ليسخر من ذلك الواقع، وان للمرأة في بعض أعماله الكبيرة - الأكثر جدية - حضوراً مرموقاً وتكاد تكون أحياناً، ضحية بريئة لعسف الذكور وحماقتهم فإن هذا القول لا يخفف من تلك المواقف"المعادية للمرأة"التي تملأ أعمالاً كثيرة لصاحب"هاملت"وپ"ماكبث". وفي هذا الاطار تبقى مسرحية"ترويض الشرسة"المثل الصارخ. ومع هذا، لم يكن شكسبير المؤلف الوحيد لهذه المسرحية. إذ ان دراسات المتخصصين تفيدنا دائماً بأن شكسبير إنما استعان في اقتباسها، عن آريوستو، من ناحية، وعن مسرحية شعبية متحدرة من الهزليات الإيطالية، من ناحية أخرى، بمعاون له بقي حتى الآن مجهول الهوية يرجح البعض انه روبرت غرين، والبعض الآخر انه توماس لودج، فيما يقول البعض انه لا يمكن ان يكون سوى جورج تشابمان. ونعرف ان هؤلاء الثلاثة تعاونوا مع المعلم في لحظة أو في أخرى... ومنهم من شاركه كتابة بعض أعماله. وفي الاحوال كافة ينسب الى شكسبير، القسم الافتتاحي، ثم بعض الفصول وأجزاء الفصول الأخرى فقط، طالما ان ثمة - بالتأكيد - تفاوتاً كبيراً في القيمة الفنية بين موقف وموقف وفصل وفصل... حتى من دون ان يفرض هذا تفاوتاً في النظرة العامة - الموحدة - الى المرأة ومكانتها الثانوية في المجتمع وفي حياة الرجل. القسم الافتتاحي- الذي ينسب في مجمله الى شكسبير لأنه، موقفاً ولغة، يحمل بصماته الأكيدة، لا علاقة له على الاطلاق بسياق المسرحية. فهو يحدثنا عن نبيل عثر، حين كان عائداً من رحلة صيد، على رجل ثمل نائم مرمي قرب نزل، فيلتقطه، على سبيل التفكه وينقله الى قصره حيث يأمر بوضعه في غرفة فخمة وخصّه بأغلى الثياب والطعام والرفاهية. ولاحقاً حين يستيقظ هذا الرجل - ويدعى كريستوفر سلاي - من نومه وسكره، سيقال له انه رجل نبيل حقيقي أفاق لتوه من مرض نفسي ألم به وقاسى منه طويلاً... وها هو استعاد الآن وعيه ليجد نفسه محاطاً بالخدم والحشم وبزوجة حسناء هي في الحقيقة وصيف للرجل النبيل الحقيقي، تزيا بزي النساء لاستكمال اللعبة المسلية. واحتفالاً بعودة سلاي الى وضعه الطبيعي، يقام في القصر حفل يتخلله عرض مسرحية"ترويض الشرسة". وهكذا ندخل الآن، بعد تلك المقدمة الشكسبيرية، في لعبة المسرح داخل المسرح، وننسى تماماً شخصيات المقدمة التي تختفي أصلاً عن الخشبة ما إن يبدأ تقديم المسرحية الجديدة. فعمّ تتحدث هذه المسرحية؟ تدور أحداث"ترويض الشرسة"الداخلية حول ثري من بادوفا يدعى باتيستا لديه ابنتان يريد تزويجهما، بيانكا الطيبة الوديعة، وكاترينا الشرسة التي تشاكس الجميع وتثير من المشكلات ما يجعل أحداً لا يتقدم الى خطبتها. ومع هذا يصر الأب: لن يقبل أي عريس لبيانكا إلا بعد تزويج كاترينا. ولكن من يرضى بهذه الشرسة زوجة له؟ لا أحد... ومع هذا يجتمع الخُطاب الطامعون بالزواج من بيانكا، وهم من التجار وأبناء عليّة القوم ويبدأون سعيهم لإقناع أحد ما بالتقدم للشرسة. وفي النهاية ينجح سعيهم، إذ يرضى بالمغامرة صديق لهم هو بتروكيو الذي يعلن انه مستعد للقبول بالزواج بأية فتاة شرط أن يكون مهرها كبيراً. وهكذا يدخل بتروكيو اللعبة، فيما تقبل كاترينا التحدي. وهكذا تصبح المسرحية منذ تلك اللحظة"صراعاً"بين الاثنين. فبتروكيو، ومنذ ليلة العرس يبدأ سلسلة من الممارسات القمعية والصارمة ضد عروسه... وهو يهدف - بالطبع - من تلك الممارسات فرض ارادته عليها وكسر شوكة مشاكستها وارادتها القوية. والحال ان بتروكيو يوفق في مسعاه بالتدريج، وبخاصة حين يمنع الطعام عن زوجته بحجة انه لا يلائمها، ثم يمنعها من النوم، بحجة ان السرير لا يصلح. ويمنعها من ارتداء الملابس الفاخرة، إذ يطرد مصمم أزيائها وخياطها، معيداً معهما مجموعة الثياب التي كانا قد حملاها اليها. لقد قرر بتروكيو ألا يدع كاترينا تعيش على هواها، بل قرر ان عيشها لن يهنأ قبل ان تصبح خاتماً في يده، تسير وفق ارادته وتطيعه كلياً كما يطيع العبد سيده. والغريب ان كاترينا، تتجاوب مع ارادته هذه، وتبدأ بتكييف نفسها تماماً وفق ارادته: هل لأن شخصيته قوية طاغية أصلاً؟ هل باسم الحب الذي راحت تستشعره تجاهه؟ هل لأن مشاكستها لم تكن أصلاً إلا قناعاً تخفي به ضعفها؟ أم يا ترى لأنها، إذ استشارت عقلها قررت ان تسير على الطريق المستقيم الذي يحث المرأة على ان تكون ملحقة بالرجل، وقد أدركت ان الاستعلاء على الرجال أمر يقف خارج الطبيعة البشرية؟ ان في الجواب المنطقي نتفاً من كل هذا، غير ان السياق الأساس للمسرحية يرجح، في مطلق الأحوال، الفرضية الرابعة: ان مهمة المرأة في هذا الوجود طاعة الرجل. ويبدو واضحاً ان شكسبير يؤيد هذا، كما كانت القرون الوسطى تؤيده. وهذا ما يلوح كالمسلّمة في المشهد الأخير، حيث يجتمع بتروكيو وزوجته المطواعة، بالاصدقاء الذين تزوج أحدهم بيانكا، والثاني أرملة غنية، وراحوا يتبارون لمعرفة أية زوجة من هاته الزوجات هي الأكثر اذعاناً وانقياداً لزوجها... فتفوز كاترينا باللقب عن جدارة!! كتب ويليام شكسبير 1564 - 1616 هذه المسرحية بين العامين 1593 و1594، وكانت سابع مسرحية يكتبها في اطار مساره، والثانية في مجال كتابته الأعمال الكوميدية الاجتماعية بعد"كوميديا الاخطاء". ولقد بنى شكسبير ومعاونه - غير المحدد الهوية حتى الآن -"ترويض الشرسة"انطلاقاً مباشرة من مسرحية سابقة عليها تحمل عنواناً مطابقاً تقريباً هو"ترويض شرسة"واللافت ان الفارق بين العنوانين هو ألف لام التعميم، ما يدفع الى التساؤل أكثر وأكثر حول كل هذا القدر من العداء الشكسبيري للمرأة... أو على الأقل من الرغبة الحاسمة في اخضاعها عبر"ترويضها". ولا بد من أن نذكر هنا، في هذا السياق، أن"ترويض الشرسة"هي من اكثر هزليات شكسبير حضوراً على المسارح اليوم، كما ان كثراً اقتبسوها، مسرحياً - وأحياناً في معارضة نقدية لها - وسينمائياً كذلك، حين قدمت - حتى في السينما المصرية - غير مرة، منها واحدة بعنوان"المتوحشة"من بطولة سعاد حسني. أما في السينما العالمية فإن الاقتباس الأشهر يظل الفيلم الذي حققه الايطالي فرانكو زيفريللي من بطولة اليزابيث تايلور في دور الشرسة.