كان عبدالسلام العجيلي محطة أساسية في القراءة المبكرة، لا بد من التوقف عندها، مثله مثل جبران خليل جبران، وإن من موقع مختلف. فهذا الحكواتي بامتياز، لطالما شدنا بعنف إلى عوالمه وشخوصه القدرية، وفضاءاته البدوية، لكن مرحلة النضج، أو هكذا كنا نعتقد، أقصت تجربة العجيلي جانباً بصفته ممثلاً لنص سلفي، لا يليق بتوجهاتنا الماركسية الطليقة. وعلى رغم انني أنتمي إلى البيئة البدوية ذاتها، إلا أنني كنت أحلّق في فضاءات أخرى، تضع أعمال هذا الكاتب في الرفوف المنسية للمكتبة. قرأت"ساعة الملازم"في وقت مبكر، فقادتني رغماً عني إلى صحراء غامضة، ورمال تدفن أسرار العابرين، ورائحة بارود الغدر. كنت أستعيدها كما لو أنها شريط سينمائي، ينبض بأرواح بشر، دخلوا مجاهل الرمل، وبات من المستحيل، أن يرمموا حياتهم على نحو آخر. وفي"أرض السياد"، أعادني إلى ميثولوجيا البدو، وإلى شخوص، أعرفهم جيداً، من دون أن أفكر يوماً، في قابليتهم للكتابة. لست سليلاً لسرد العجيلي، لكنه اليوم يمنحني ألق الحكاية. فاللغة وبنية السرد والمجاز، تتحول هنا إلى عالم غرائبي ومعيوش في آن معاً، ومن دون حكاية، ليس في وسع الروائي والسارد عموماً، أن يقبض على أدواته، ويشكّل فضاءات مفتوحة على التخييل. في مجمل أعماله، ظل العجيلي على مسافة من نصه، مثل أي حكواتي آخر، يروي حكايات الآخرين، من دون أن ينقصها التشويق، لكن حياء شرقياً متأصلاً في شخصيته، منعه من المجازفة في كشف أسرار مطبخ الحكاية. فضمير المتكلم، ظل نائماً في اللحظات الحرجة، وهو ما أحتاج اليه كقارئ لترميم أجزاء النص. وحتى حين قرر أن يكتب مذكراته، فقد ذهب إلى الضفة الأخرى، ذكريات أيام السياسة ويوميات جيش الانقاذ، كنوع من الحفاظ على هيبته البدوية، فيما يحتاج الأدب إلى مكاشفة وتوغل في المناطق العميقة في الذات. ما يحسب للعجيلي، أنه حرث أرضاً بكراً في الكتابة، أرض الفرات المهملة، وأسرار الصحراء، ورائحة البداوة، مما أضفى بعداً سحرياً على شخوصه، هؤلاء الذين لم يتوقعوا يوماً ما، أنهم سيقفون على الخشبة، كأبطال بأصوات مسموعة. وفي قصص صاحب"المغمورون"بلاغة عربية أصيلة، تمتح من معجم التراث، في تناص صريح، بين أمثولة الأمس وأمثولة اليوم، وكأنه"ستندال"من الشرق، يلتف بعباءة القيم الأصيلة. هكذا يمنح أدب الرحلة اهتماماً لافتاً، مثلما يعرج على تقنيات"المقامة"، لتأصيل حكاية عربية، لا تلتفت إلى تقنيات وافدة، إنما تجد في"سيرة عنترة"مثلاً ملاذاً لهواجسه الحكائية. يصف العجيلي تشكلاته الأولى قائلاً:"وجدت في مكتبة قريب لأبي روايات جرجي زيدان فقرأتها كلها في طبعتها الأولى، مع العقد الفريد وكتب تراثية أخرى. كنت في طريقي بين منزل أهلي والمطحنة التي أقصدها في الصباح، أتعمد السير في الأزقة الشعبية التي لا يراني فيها أحد، حتى أقرأ الكتاب الذي بيدي وأنا أمشي، ثم أتم قراءته وأنا وراء القبان، أزن أكياس الطحين لزبائن المطحنة. من تلك القراءات كسبت ذخيرة من المعرفة وحباً للأدب ومحرضاً لخيال الصبي اليافع الذي كنته". اليوم ربما علينا أن نعيد الاعتبار إلى ذلك الرف المنسي في المكتبة، ونستعيد ألق الحكاية النائمة التي كتبها أحد الرواد البارعين، ونرمم نصنا بما ينقصه من رائحة محلية، هي في المآل الأخير مقصد الكتابة ونهرها الجاري إلى ضفاف بعيدة.