شُبهت حال الاقتصاد السوري بمريض في حالة حرجة في سيارة إسعاف، إذا أسرعت فسوف يتعرض لمضاعفات خطرة، واذا ابطئت فلن يصل المستشفى. ولا يزال المسؤولون يصفون الاقتصاد السوري بأنه في حالة انتقالية. لقد دفع التفاؤل الاقتصادي ونزوح آلاف العراقيين، إلى الاستثمار في تجارة العقارات، التي تدر عوائد مجزية لعدم وجود أقنية استثمارية، وإلى ارتفاع معدل التضخم الذي انعكس على ذوي الدخل المحدود، أو من يعتبرون تحت خطر الفقر والمقدرون ب 26.6 في المئة من مجموع السكان. ويتلازم وصول متوسط نسبة البطالة الى ما يزيد على 20 في المئة، ونحو 40 في المئة بين سن 18-30، مع وجود نحو 54 في المئة من مجموع السكان تحت سن العشرين، ما يعني دخول 245 ألف شاب إلى سوق العمالة سنوياً. لم يزد النمو الاقتصادي البطيء على 1.5 في المئة سنويا خلال الأعوام السابقة، وهو يحاول اللحاق بالنمو السكاني. فعدم مواكبة الأجور زيادة التضخم وتراجع الدخل القومي على مدى السنوات السابقة بالأسعار الثابتة، عمق حدة التباين الطبقي. إن فكرة الإصلاح الاقتصادي تعود إلى العقد الماضي، وكانت في معظمها وعوداً. لكن الإصلاح أخذ منحى جدياً منذ اعتلاء بشار الأسد سدة الرئاسة، حيث بادر إلى إلغاء تجميد الرواتب والأجور. وصدرت تشريعات اقتصادية مهمة، بتأسيس شركات تأمين خاصة وشركات صيرفة، وقيام جامعات خاصة وقانون للإيجار وافتتاح مصارف خاصة سورية، ناهيك عن القوانين قيد الأعداد. ومع أن تفاؤلاً ما مشوباً بالحذر ظهر مع تكليف ناجي العطري رئاسة الوزراء ووضع الإصلاح الاقتصادي على سكة التنفيذ، إلا أن تعدد اللجان وانعدام التنسيق والعمل المجزأ للوزارات وتباين المصالح أنتجت قرارات متعارضة. وفي حزيران يونيو عام 2005 اقر المؤتمر القطري لحزب البعث قرارات للإصلاح الاقتصادي. ومع إن الدستور يعلن سورية دولة اشتراكية، فقد اعتمد مفهوم الاقتصاد الحر الاجتماعي، الذي يزاوج بين شقين أيديلوجيين متباينين: رأسمالي، تلعب فيه عوامل السوق من العرض والطلب دوراً في تحديد الأسعار، وشق اجتماعي، يهتم بحماية الطبقات المسحوقة في المجتمع، ويشبه الانظمة الرأسمالية في أوروبا الغربية، حيث تسيطر الدولة على المرافق العامة مع قطاع خاص يهيمن على الاقتصاد. ولكن نظام السوق الاجتماعي الحر السوري لا يرتقي الى مستوى نظام الضمان الاجتماعي في أوروبا الغربية، فليس هناك تعويض للبطالة أو ضمان للشيخوخة والصحة. الإصلاح الاقتصادي خطوة إدارية يبدو الإصلاح الاقتصادي كخطة عمل أدارية. فلم يتطرق البرنامج إلى السياسة المالية أو النقدية. ولم يحدد دور الموازنة العامة في نمو الاقتصاد، وهل ستكون عاجزة أم متوازنة؟ فهو لا يتعدى كونه مشروع إعادة هيكلة إدارية، كما انه لم يتطرق إلى تناقض القوانين الاقتصادية النافذة. واتصف بالعموميات في بعض أجزائه، وأهمل التفصيل ومراعاة الوقائع الاقتصادية في أجزاء أخرى. فعلى سبيل المثال، لا يزال الاقتصاد السوري يعاني خللاً في آلية التسعير. فأسعار بعض المنتجات لا تعادل الكلفة الحقيقية، بل أن القيمة المضافة لبعض المنتجات السورية تعتبر خاسرة مقارنة بأسعارها الدولية، وأسعار بعض المنتجات تفوق الكلفة الحقيقية. غياب الإجماع على استراتيجية في الحقيقة، ليس هناك إجماع على استراتيجية اقتصادية. ولم تكتمل معالم النموذج الاقتصادي السوري بصورة واضحة. فالبعض يعجبهم النموذج الصيني الاقتصادي، بينما يطالب آخرون بانفتاح اقتصادي أكثر مرونة على النمط الإماراتي، مع إن الفارق كبير بين سورية وتلك الدول. كما تخشى السلطة انفلاتاً اقتصادياً على نمط روسيا في أوائل التسعينات. فلا بد من وضع ضوابط اقتصادية، لئلا يتحول الانفتاح الاقتصادي وسيلة من الفاسدين للانقضاض على الثروات الوطنية، وبالتالي لا يمكن إطلاق أحكام مسبقة. ولا بد من تفريق نتائج الانفتاح الاقتصادي بين روسيا وبين دول أوروبا الشرقية الشيوعية التي تميزت بازدهار اقتصادي لا بأس به، مثل تشيخيا وألمانيا وهنغاريا ولتوانيا، وأخرى لم يصل تقدمها الى هذا المستوى لكنها لم تتخلف عن الركب الاقتصادي العالمي كبلغاريا وسلوفاكيا، وانهيار بعضها اقتصادياً كرومانيا ويوغسلافيا لأسباب داخلية تتعلق بفساد النظام السياسي الذي كان قائماً واستمراره بعد سقوط أنظمتها الشيوعية. من ثم، لا يمكن مقارنة سورية، التي تعتبر دولة هامشية اقتصادياً، مع دولة عظمى كروسيا عانت من مشاكل اقتصادية أدت الى انهيار الحكم الشيوعي. فالإصلاح لا يدور فقط حول الصيغة الأيديولوجية للاقتصاد السوري، بل حول آلياته، كطريقة إدارة القطاع الصناعي العام، والتي لا تعتمد مبدأ الإدارة الاقتصادية التي تتضمن الربح والخسارة، وسرعة التجاوب مع متغيرات السوق كارتفاع أسعار العملات الأجنبية وانخفاضها. إلا أن ضرورة إبقاء المؤسسات الحيوية تحت سيطرة الدولة، لا يمنع تخصيص المؤسسات الخاسرة، أو تحويل العمال إلى مؤسسات رابحة لتفادي الآثار الاجتماعية السلبية للبطالة. ومع قرب ظهور سوق الأوراق المالية، فلا بد أن تنسجم أوضاع الشركات السورية معه. فمعظمها تعود ملكيته للقطاع العام. أما الشركات الخاصة المساهمة، فإن بنيتها الرأسمالية لا تسمح بتداول أسهمها في سوق للأوراق المالية. فبعضها لم تنشر تقاريرها السنوية بصورة علنية، والبعض الآخر لا يعتد بأرباحه، إن وجدت. دور المصارف ولا تزال المصارف السورية تخضع لإجراءات إدارية ومالية تفقدها بعضاً من خصائصها المصرفية وتتحول إلى شبه مؤسسات حكومية تمويلية مقيدة الصلاحيات. إذ يكفي للمؤسسات الحكومية إظهار الوثائق الروتينية المصرفية لتحصل على ما تريد. والسؤال هل يستطيع المصرف التجاري السوري الصمود أمام المصارف الخاصة، إذا منحت له حرية العمل في ظل العقوبات الأميركية؟ فتعاملاته المصرفية لا تزال تعود إلى القرن الماضي، ويفتقر إلى الكوادر المؤهلة. ومع أن مصارف خاصة بدأت العمل، إلا أن عملياتها المصرفية لا تتعدى كونها صناديق ادخار محلية. فقدرتها في مجال الإقراض محدودة. ولا تمنح قروضاً شخصية. ولا يسمح لها تحويل الأموال الى الخارج. ولم تمنح حق التعامل بسندات خزينة أو شهادات إيداع لدى المصرف المركزي تعطيها القدرة على منح قروض استثمارية. ولا يزال التقدم نحو توحيد سعر الصرف بطيئاً. فالمستوردون يحتاجون الى ترخيص لاستعمال حسابات بالعملات الأجنبية في الخارج. فالسياسة المالية منصبة على ثبات سعر صرف الليرة السورية بتكاليف باهظة للاقتصاد السوري، من دون الاهتمام بعوامل تحدد قيمة الليرة كنسبة التضخم والفائدة والمديونية. فالفائدة الثابتة المرتفعة، مقارنة بانخفاض عوائد بعض الفعاليات الاقتصادية، دفعت البعض الى العزوف عن القيام بمبادرات اقتصادية. الإصلاح الإقتصادي والسياسي هل هناك ترابط بين الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي؟ أشار الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم، الى ضرورة تفعيل الحياة السياسية على أن تاخذ مجراها الطبيعي الزمني. فالقوانين الاستثنائية لم تسمح بحوار سياسي وطني، ما أدى الى تقوقع سياسي وانكفاء حزبي أعطى أهمية للانتماء الحزبي والولاء السياسي عوضاً عن الكفاءة في أجواء مشحونة بالتوتر السياسي. إذ بدا واضحاً أن الإصلاح الاقتصادي لن يستمر مع وجود آليات سياسية تريد المحافظة على مصالحها في ظل قوانين استثنائية قد تطاول المستثمر من دون مبرر. أن إصدار قوانين اقتصادية تشجع الاستثمار يستوجب إزالة المخاوف لدى المستثمر. فالاستثمار ليس قوانين جامدة. والبيئة التشريعية قد ترمم أو تصلح. فكيف يمكن استقطاب المستثمر الأجنبي في ظل قوانين في ظروف سياسية معادية لسورية، وقضاء يخضع للسلطة التنفيذية، حيث طغت تفسيرات اللوائح التنفيذية على القوانين لتجردها من مضمونها. فالاستثمار في الأردن أكثر جاذبية للمستثمر الأجنبي الأوروبي والأميركي نظراً الى اتفاق السلام الإسرائيلي ? الأردني. وللأردن علاقة مميزة مع الولاياتالمتحدة من خلال اتفاق التجارة الحرة تتيح له امتيازات تجارية مع إسرائيل. ولماذا لا يستثمر الأجنبي في أوروبا الشرقية كهنغاريا وتركيا وسلوفاكيا وتشيخيا حيث يمارس المواطن حريته كاملة. فهل ما زالت الحكومة مستعدة لنقلة نوعية لتتعامل مع التحديث؟ فالبيئة الاقتصادية شبه مفقودة. والبيروقراطية التسلطية ما زالت مهيمنة على أجهزة الدولة. إن مشاكل الاقتصاد السوري هي محصلة عوامل عدة، بعضها جوهري يعود لطبيعة تطور الاقتصاد السوري والسياسات الاقتصادية الخاطئة في الماضي، وسياسة الحكومة الراهنة التي تتصف بأنها إدارة أزمات. فسورية تعاني من مشاكل عدة تعود جذورها إلى الإهمال الإداري وتكاليف الدفاع والتكاثر السكاني، والإسراف الحكومي غير المبرر، ومشاكل نقص الكفاءات الإدارية، ونسبة الاستيراد العالية، وعدم قابلية الليرة السورية للتحويل، ومشاكل الطاقة والمياه والتشريعات الاقتصادية المتناقضة، سواء الناتجة من الانفتاح الاقتصادي أو التي تقيد المبادرة الفردية، كقوانين العملة الأجنبية وتحويلها، وعدم وجود سوق للأسهم المالية، وسوء إدارة الحوافز، وسوء إدارة القطاع العام، وتمركز الاستثمارات في التجارة والصناعة الاستهلاكية، وعدم تمويلها الاستثمارات التصديرية المحلية. أما الأسباب المباشرة للمشاكل الاقتصادية فيمكن أن تعزى إلى عوامل عدة. لقد أدى تحرير الاقتصاد إلى حدوث انتعاش اقتصادي موقت، إلا أن تقلص دعم المعونات المالية العربية كشف الخلل في بنية الاقتصاد السوري، فظهرت تشوهات لهيكلية في القطاعين الخاص والعام. وبدلاً من تفعيل الاقتصاد، اهتمت وزارة المال بجباية الضرائب لتخفيض نسبة العجز في موازنة الدولة، ما أدى إلى مزيد من تقليص معدل النمو. لسورية خيارات محدودة، وقد وصل تحديث النظام الاقتصادي إلى نفق مغلق. إن رغبة الرئيس بشار الأسد تتعدى تحسين أداء الاقتصاد إلى رفع مستدام لمعدل النمو الاقتصادي. ورغبة سورية دخول منظمة التجارة العالمية، والالتزام بالشراكة الأوروبية، يتطلب سرعة في الإجراءات الاقتصادية. فكيف سيصمد الاقتصاد السوري أمام التبادل الحر؟ إن معظم الصناعات السورية تحويلية ذات قيمة مضافة قليلة، أنشئت لسد حاجة السوق المحلية، فليس لها قدرة تنافسية في السوق الدولية. وقدمت سورية تنازلات اقتصادية للاتحاد الأوروبي قبل أن تكون مؤهلة لدخول اتفاق الشراكة الأوروبية، ما قد يرتب عليها زيادة العجز التجاري في مقابل تسويف أوروبي على التوقيع بحجج واهية، كأسلحة الدمار الشامل ومكافحة الإرهاب. فما يريده الأوروبيون هو فتح الأسواق السورية وضبط الهجرة. إن الإصلاح الإداري خطوة مهمة، ولكن وضعه موضع التنفيذ يطلب تحسين الأداء والكفاءة والشفافية والخضوع لحكم القانون. وبالتالي، فإن الإصلاح الاقتصادي لم يعد خياراً بل مفروض على سورية، وليس له من بدائل سوى مزيد من المعاناة الاقتصادية المزمنة. إن أي إصلاح اقتصادي سوري يجب أن يعتمد على منح فرص اقتصادية متكافئة، حيث منحت الإعفاءات الضريبية والتسهيلات المصرفية لأصحاب الثروات ومن خلفهم، ولا تطاول صغار المستثمرين وتؤدي مركزة رؤوس الأموال إلى سياسة الهبش الاحتكارية حيث ينعدم التنافس والكفاءة وتحل محلها سياسة اقتناص اقتصادية تدر عمولات كبيرة. لا شك في ان الاقتصاد السوري يعاني من سوء إدارة الموارد والنهب المنظم لثروات القطر، من فعاليات اقتصادية تشجع على طمس عمليات الفساد الاقتصادية في الدولة. لقد قدمت الحكومة تحليلاً مستفيضاً للوضع الاقتصادي واعتمدت خططاً خمسية تستغرق مدداً طويلة لا يستطيع الاقتصاد السوري تحملها. فهي ليست خطة بديلة لمعالجة ضعف القطاعات الاقتصادية غير النفطية مع تدني الموارد المالية للنفط تدريجاً. ولا بد من رؤية مستقبلية بإعلان استراتيجية اقتصادية واضحة المعالم، حيث تحرر سورية تجارتها الخارجية قبل الانتهاء من الإصلاحات الاقتصادية. فالتوقعات بنتائج ملموسة ستأخذ سنوات عدة. باحث سوري