أيعيد التاريخ نفسه؟ أيدور الزمان على نفسه كجرادل الناعورة تئنّ شاكية أو مبتهجة؟ أم يتسرب الزمان من بين أصابعنا ثانية، يتراكم ونحن ننبش الركام لنرى صورة أنفسنا متألقة ناصعة، أو شوهاء قاتمة. وتأتي الذكرى الثالثة لغزو العراق، ولا نزال نرى ابتسامات الانتصار على وجوه المحافظين يمارسون الغزو وكأنه لعبة أطفال. وإذ أوشكوا أن يندحروا نشروا جواسيسهم وعملاءهم ليغرسوا بذرة الفتنة: سنّة، شيعة، أكراد، عرب، تركمان... لعلها تنقذهم من اهتزاز ثقة شعوبهم، وشعوب العالم بهم، ومن ثقتهم بنفوسهم. يقدر عدد القتلى العراقيين ب 300 الف، بمن مات منهم تحت التعذيب ما عدا المشوهين. وعدد القتلى من الجيش الأميركي 30 ألف قتيل، وعدد المشوهين 50 ألفاً. وبلغت نفقات الغزو نحو 46 مليار دولار حتى الآن، والمبالغ المرصودة لإعمار العراق بين 50 وپ400 مليار دولار، بما فيها السجون وكلها ستحسب على العراق من البترول. ومضى مئة يوم على انتخاب البرلمان، ولم يجتمع حتى الآن ولم تُحل مشكلة الخلاف على رئيس الوزراء. والآن نلوذ بالتاريخ بالمرحلة الزمنية 532ه/ 1137م 589ه/ 1193م التي أنجبت ذاك الكردي صلاح الدين الأيوبي الذي انطلق من قلعة تكريت شمال العراق ليهزم الصليبيين في حطين، ويحرر القدس. ويستقر في التاريخ العربي القائم في الصدور وفي السطور. ونقفز الى السادس من أيار مايو 1916 مع شاعر عراقي من أبوين كرديين هو جميل صدقي الزهاوي، عندما أعدم جمال باشا السفاح والي دمشق العثماني قافلة من الشهداء السوريين واللبنانيين، الذين ناهضوا الطغيان، أولئك الذين تسلقوا أرجوحة الأبطال - كما سموها وهم يصعدون اليها - في ساحة الشهداء المرجة في دمشق، وساحة الشهداء البرج في بيروت. فكتب قصيدته الشهيرة المؤثرة النابضة بالحمية العربية. قال في مطلعها: على كل عود صاحب وخليل وفي كل بيت رنة وعويل وفي كل عين عبرةٌ مهراقة وفي كل قلب حسرة وغليل ثم نقفز الى الثورة العراقية الكبرى في العام 1920، والى شاعر من أب كردي وأم تركمانية معروف الرصافي وهو يندّد بالديموقراطية التي فرضها الانكليز: علَمٌ ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرفُ أسماء ليس لنا سوى ألفاظها أما معانيها فليست تُعرف من يقرأ الدستور يعلم أنه وفقاً لصك الانتداب مصنَّف ثم نقفز مع الرصافي الى أيام ثورة 1941 ونسمعه يقول: أيها الانكليز لن نتناسى بغيكم في مساكن الفلوجة ذاك بغيٌ لن يشفي الله - إلا بالمواضي - جريحه وشجيجه ونذكر الشاعر الشيعي أحمد الصافي النجفي وهو من أب ينتمي الى أسرة حجازية وأم لبنانية من صور، والذي تشرد نحو 45 عاماً خارج العراق بسبب مواقفه النضالية والذي اعتقله الانكليز في بيروت أربعين يوماً، فعاد الى التشرد حتى أرداه رصاص الغدر على الكورنيش في بيروت في العام 1977. ونذكر الشاعر السني الذي ولد في جيكور جنوبي العراق بدر شاكر السياب ونذكر ما قاله في قصيدته المؤثرة"أطفال العراق"التي اخترنا منها هذه الأبيات: عصافيرُ أم صبية تمرح أم الماء من صخرة ينضحُ وأقدامها العارية محارٌ يصلصل في ساقيه مصابيح ملء الدجى تلمحُ هتكنا بها مكمن الطاغية دمٌ من عروق الورى أو نثار كذرِّ الغبار لما هزت الأمهات المهود على هوة من ظلام اللحود ولا ساءل الأم طفلٌ غرير: "ألا بلدة ليس فيها سماء؟" فلا قاذفات المنايا تغير ولا من شظايا تسدّ السماء؟ والشاعر الشيعي محمد مهدي الجواهري الذي حمل العرب والعراقيين هماً يخز الضمير وراح يتألم لحالهم وقد ران فوق قلوبهم الاحتلال الغربي في سخرية مرة كلذع السياط: نامي جياعَ الشعب نامي يا درةً بين الركام تتنوري قرص الرغيف كدورة البدر التمام نامي جياع الشعب نامي حرستك آلهة الطعام نامي على زبد الوعود يُداف في عسل الكلام وساح في الدينا ثم أقام في دمشق، وهذه أبيات من قصيدته الرائعة"دمشق يا جبهة المجد": شممت تربك لا زُلفى ولا ملقا وزرت قصدك لا خِبّاً ولا مَذِقا وما وجدتُ الى لقياك منعطفاً الا اليك ولا ألفيتُ مفترقا وكان قلبي الى لقياك باصرتي حتى اتهمتُ عليك العين والحدقا دمشق عشتك ريعاناً وخافقة ولُمّةً، والعيون السود والأرقا وماذا بعد؟ هذه جذوة من أصوات عربية عراقية تنوّعت وسمت فوق الحدود، وفوق الطائفية والعرقية تنهش قلوبها أيام العرب السود. ذكرتنا بهم اليوم المقاومة العراقية التي تواجه أبشع أنواع القتل والدمار، وتصرّ ألا تتراجع حتى يندحر الغزاة بأذنابهم وأعوانهم. ذكرتنا بهم رجالات العراق - على اختلاف مذاهبهم - يتصدون لأبشع أنواع الدسائس والعمالة والجاسوسية. يلملمون الآهات، ويسمون فوق أنين الجراح. عبدالنبي حجازي - بريد إلكتروني