يسعى لبنان الى فتح أبواب الحلول لمشاكله، خصوصاً في القضايا المتصلة بعلاقته مع سورية لكن دمشق تعود فتقفلها. يجري ذلك بالتزامن مع مرور الذكرى الأولى للانسحاب العسكري السوري من لبنان في 26 نيسان ابريل من العام الماضي، ومع استئناف الحوار الوطني بين الأقطاب ال14 الذين سعوا الى تأمين حد أدنى من الاجماع حول القضايا الرئيسية بما فيها العلاقة مع دمشق. وإذا كان رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة استند الى قرارات مؤتمر الحوار من أجل السعي الى فتح الأبواب، سواء عبر طلبه زيارة دمشق لبحث هذه العلاقات مع الرئيس بشار الأسد أو من أجل السعي لانسحاب اسرائيل من مزارع شبعا اثناء زيارته الى واشنطن ونيويورك بعد تثبيت لبنانيتها عبر اتفاق رسمي مع دمشق، فإن الأخيرة تستمر في صد هذه المحاولات وترفضها. وإذا كانت قوى 14 آذار التي تقف وراء السنيورة وتشكل أكثرية الحكومة ترى في فصلها التحقيق في جريمة اغتيال رئيس الحكومة السابق الشهيد رفيق الحريري عن العلاقات الثنائية وقضاياها الشائكة، ثمناً كافياً لدمشق كي تقبل بتطبيع العلاقات، فإن القيادة السورية لا تبدو في هذا الوارد، بل ان الحكم في سورية لم يغادر تاريخ 25 نيسان وما سبقه وما زال يعتقد أن من حقه أن يعاود رسم سياسات الحكم اللبناني، في السلطة وتوازناتها، وأن يكون حاضراً في صلب قراراتها. وليس تمسكه ببقاء رئيس الجمهورية اميل لحود الممدد له بالقوة في منصبه، إلا واحداً من مظاهر الرغبة السورية الجامحة في إدارة لبنان بالتحكم عن بعد. ومع التسليم اللبناني الاجماعي بأن لسورية نفوذاً في لبنان في كل الأحوال، وأن لها حضوراً في سياسته الداخلية كائناً من كان الحاكم فيه، فإن ما يمارسه الجانب السوري الآن يفوق هذه القاعدة التاريخية. فالقيادة السورية سبق أن أبلغت القوى الضاغطة عليها كي تنسحب من البلد الجار في نهاية العام 2004، أنها لن تترك لبنان حتى لو انسحب عسكرها منه. لقد كانت سورية حاضرة في محاولة صوغ تسوية بين اللبنانيين من خلال مؤتمر الحوار الوطني. فالمؤتمر لا يرمز إلا إلى هذا الدور السوري في لبنان بوجهه"المقبول"و"المتعارف عليه"بين اللبنانيين، بمن فيهم خصومها القدامى والجدد. إلا أن الجانب السوري أخذ ينقض التسويات التي توصل اليها المؤتمرون حول العلاقات الثنائية والوجود الفلسطيني ومزارع شبعا، بهذه الطريقة أو تلك. وهو أخذ ينقضه لأن ما اتفق عليه يرمز الى صوغ معادلة جديدة للنفوذ السوري في لبنان مختلفة عن تلك التي مارستها دمشق على مدى العقود الثلاثة الماضية، فتحديد الحدود في مزارع شبعا، يرمز الى تحديد حدود التدخل السوري في لبنان، لأن المزارع هي حجة قوية و"قومية"و"وطنية"لهذا التدخل... ونقض تسويات مؤتمر الحوار لا يتم فقط بتأخير دمشق استقبالها للسنيورة، وبرفضها تحديد الحدود في المزارع، وربطها اقامة العلاقات الديبلوماسية بتوقيت لاحق، وبرهن إزالة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات بإعطاء الحقوق المدنية للاجئين كما يقول حلفاؤها الفلسطينيون، بل يتم ايضاً عن طريق الفريق اللبناني الحليف لها في مؤتمر الحوار أي"حزب الله"الذي يعطي تفسيرات للقرارات التي لا معنى لها سوى العودة عن التسوية التي انتجتها. في اختصار يشهد الوضع اللبناني مجدداً هجوماً مضاداً، هدفه اجهاض محاولة السنيورة وزعيم تيار"المستقبل"النائب سعد الحريري ورئيس"اللقاء النيابي الديموقراطي"وليد جنبلاط فك الحصار عن الحكومة اللبنانية، الذي نجحت دمشق في فرضه نتيجة الأخطاء التي ارتكبها هؤلاء في علاقتهم مع المساعي العربية. وحين بدا ان هؤلاء استعادوا بعض النفس عربياً، وجد حلفاء سورية أنه لا بد من تقويض امكان قيام التسوية التي أحيا الآمال بها، مؤتمر الحوار، على رغم تواضع هذه الآمال. وهذا يعني ان الوضع اللبناني دخل مرحلة تحتاج الى حماية من امكان العودة به الى الوراء عن طريق اقتناع حلفاء دمشق انهم يستطيعون استعادة المزيد من المبادرة. ولا مجال لهذه الحماية إلا بموقف عربي ودولي على ما يبدو. فالمجتمع الدولي والفريق العربي الفاعل، هما اللذان طلبا من اللبنانيين التفاهم والتوافق. وأمام المجتمع الدولي والفريق العربي الفاعل تحدي العمل على حماية ما اتفق اللبنانيون عليه مقابل الدور السوري الفعال في تقويضه. مرة أخرى يستدرج التدخل السوري تدخلاً دولياً متزايداً.