تعرف البشرية اليوم مرحلة عاصفة من تاريخها نظراً للازدياد الملحوظ في وسائل العنف وثقافة العنف. فعصرنا الحالي يتميز بتقدم مذهل ورخاء عند بعض الأمم من جهة وبركود علمي وضيق اقتصادي واجتماعي حاد عند امم اخرى من جهة ثانية. إنها حال خطيرة وجدّ معقدة من النمو الاقتصادي والاجتماعي اللامتكافئ اصبحت معيشة على نطاق عالمي واسع يشعر بها الجميع ويتأثر بها نظراً لانعكاساتها السلبية الفعلية على اكثر الشعوب وانعكاساتها المرتقبة على شعوب اخرى. وبالفعل فقد نجمت عن هذا الوضع حال من عدم الاستقرار لم يسبق لها مثيل تشمل عموم ساكني هذا الكوكب. وهو ما يؤذن بخطر كبير يواجه مستقبل السلام والأمن العالميين، فلا يكاد المراقب يولي وجهه صوب أية منطقة من العالم إلا ويراها تشهد انبعاث حركات متشددة ذات مرجعيات "دينية" تريد بالعنف والقسر تحقيق مآربها او القضاء على مخالفيها. فظهور النحل المختلفة Sectes في المجتمعات "المتمدنة" وانتشار انماط التدين المتعصب عند القادة السياسيين لبعض الأمم ذات الثقل والقيادة في العالم وتفاحش عدد الجماعات المتطرفة التي ظهرت على السطح على شكل نزعات ماضوية مانوية او في شكل نزاعات عرقية وقومية مزمنة والتي استفحلت اخيراً في صفوف مختلف معتنقي اليهودية والمسيحية والإسلام والهندوس في شبه القارة الهندية، كلها تمثل اليوم التعبير الأفضل عن صدام الحضارات والنموذج الأوضح لشكل تحاورها السلبي. ولقد زاد الترابط الوثيق بين سكان العالم بعضهم ببعض، وقوة تأثير وسائل الإعلام والتواصل الحديثة وسرعة نشرها للخبر وتدويله الى اقصى الحدود، هذا المشهد زخماً وتضخيماً فجعلت هذه العوامل وغيرها سكان المعمورة يشعرون بقوة بشدة وقع الأصوليات الدينية ويحسون بالفعل بفرط تأثيرها في حياتهم وأنماط سلوكهم ورؤيتهم للآخر. من اجل ذلك، اصبح الوعي بالخصوصيات الثقافية والتشبث بها ملجأ يكاد يلوذ به ابناء كل مجموعة بشرية من اجل الحفاظ على هواياتهم وذواتهم. وهكذا تتنامى هذه الظاهرة في شكل متزايد يوماً بعد يوم داخل كل ملة او نحلة لتنتظم المجتمعات البشرية في محوريات ضيقة ولتجعل من الساحة الدولية مجالاً للعنف مستديماً. يعرف علماء السياسة والاجتماع الأصولية بأنها موقف فلسفي يقوم على مبدأ الارتباط من دون قيد ولا تنازل بمجموعة من القناعات ذات الأصول الدينية او الرمزية. وينتج من هذا الموقف في الغالب سعي حثيث لاتباع ومراقبة عمل السلف والأخذ بمفهومهم وتأويلاتهم للدين دون سواها. ولئن اختلفت المقاربات في تحديد ماهية الأصولية وبواعثها في العالم فإنها قد اتفقت على مجموعة من الأسس والأسباب يمكن تلخيصها في ان الحديث عن الأصوليات هو في الحقيقة حديث عن الصور والانطباعات والأحكام التي توجد عند ابناء ثقافات معينة لما يجري في ثقافة او ثقافات اخرى مباينة لها في الدين والمسلكيات والمرجعيات وشتى صور التراث الرمزي كما اتفقت على ان من الأسباب الرئيسة لانبعاث التشدد الديني هي إفلاس غالبية الإيديولوجيات والحلول والبشرية في برامجها الإصلاحية والتنموية مما جعل استعاضتها بالأديان تطرح في الساحة في شكل جدي من اجل حل المشكلات المعقدة والمستعصية. خصوصاً ان الدين يعطي معنى لوجود الإنسان في هذا الكون ومكانته فيه وهدفه الذي سبق له ومثل هذا المعنى يبدو ان الإنسان في امس الحاجة إليه لأنه لصيق به وجزء اساسي من مكونات بعده الوجودي. فالدين شديد العلاقة بمختلف دوائر ارتباطات الإنسان وانتظاماته بدءاً بالعائلة وانتهاء بالبشرية بل بالخليقة جمعاء. وهذه الدوائر هي التي تصوغ هويات ابناء البشر لا باعتبارهم افراداً ولكن باعتبارهم كائنات اجتماعية. ويرجع غالب علماء الإناسة والاجتماع جزءاً كبيراً من بواعث الأصولية الحالية الى القلق الكبير الذي يعرفه سكان الأرض والى التشرذم المتسع الخرق الذي يعيشونه نظراً لتغير بنياتهم الاجتماعية إثر انهيار المجتمع التقليدي ومكوناته المؤسسة للهوية وبالخصوص منها الأسرة والمجموعة المحلية. ولقد حاول آلفين توفلر في كتابه "صدمة المستقبل" Le Choc du Future ان يبرز ان مشكل الانبتات الكبير في المجتمع الحديث والبلبلة التي تنجم عن كل نوع من غياب الجذور كانت السبب الرئيس وراء بروز الأصولية وتقويمها لتصبح نوعاً من الثقافة المضادة. ولرصد أكفى لوقع هذه الأصوليات في حياة البشر اليوم وفي إدارة العالم وأنماط العلاقات القائمة بين سكانه فسنتناول هنا نماذج من الأصولية نعتبرها كما هو الواقع اهمها على المستوى العالمي اثراً وتأثيراً هي الأصوليات في الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. 1- بالنسبة للأصولية اليهودية، فإن قليلاً من الناس من سمع بها او عنها شيئاً كبيراً على رغم خطورتها وشدة نفوذها في اسرائيل والولاياتالمتحدة بخلاف الأصولية الإسلامية التي طبّقت شهرتها الآفاق تلك الخطورة التي وصلت الى درجة اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين ولا شك في ان الأصولية اليهودية لا تختلف عن غيرها من الأصوليات في سماتها العقدية والاجتماعية. ففي نصوص التلمود المكتوبة بالعبرية مواقف متطرفة في عنصريتها ضد الآخرين الأغيار او الغوييم كما يسميهم اليهود. يعتقد مؤلفا كتاب "الأصولية اليهودية في اسرائيل" ان هذه الأصولية هي اكثر الاتجاهات تأثيراً وخطورة في دولة اسرائيل، فإذا ما نظرنا الى كيفية انتظام اليهود الديني نجدهم ينقسمون الى ثلاث طوائف: العلمانيون ويشكلون ما بين 25 الى 30 في المئة من اليهود، والتقليديون ويشكلون 50 في المئة، والمتدينون ويشكلون حوالى 20 في المئة من السكان. وينقسم المتدينون الى قسمين: المتطرفون الحريديم والمتدينون والقوميون ويتوزع تأييد الحريديم السياسي على حزبين رئيسيين هما حزب يهدوت هاتوراه يهودية التوراة وهو حزب الحريديم الاشكناز القادمين من اوروبا الشرقية. وحزب السفارديم الشهير باسم شاس وهو حزب الحريديم الشرقيين. اما المتدينون القوميون فينتظمهم في شكل اساسي الحزب الديني القومي المفدال وهو الحزب الناشط في مجال الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية. ولقد نجم عن النجاح السياسي الكبير للحريديم في انتخابات عام 1988 ظهوره كقوة سياسية يحسب لها حسابها. ولا شك في ان هذه القوة قد تأكدت وترسخت في التسعينات إثر نجاحاتهم المتواصلة في الانتخابات. ويرجع نجاح هؤلاء الحريديم الى سيطرتهم في شكل مباشر او غير مباشر على شبكات تعليمية كبرى في اسرائيل مما مكنهم من الانتقال من الهامش السياسي الى قلب الحلبة. ولقد زاد التهميش والإهمال اليهود الشرقيين على انشاء مدارس دينية خاصة بهم شكلت في ما بعد قاعدة لحزب شاس الذي حصل على دعم مالي كبير استخدم في بناء المدارس وتمويل المنقطعين للدراسات الدينية وبناء مجموعات كبيرة من المؤيدين والمتطوعين في العمل السياسي لمصلحة الحزب. واستطاع شاس ان يكون الحزب الشرقي الوحيد في الوقت الذي فشلت فيه محاولات العلمانيين الشرقيين في الحصول على تأييد الاسرائيليين. ويُعبر عن اليهود القوميين الاشكناز الحزب الديني القومي وجماعة غوش ايمونيم الاستيطانية التي حصلت على دعم كبير من وزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيريز حين كان يشغل منصب وزير الدفاع في حكومة اسحاق رابين وتحولت الجماعة الى قوة استيطانية كبيرة ومؤثرة. وتقوم فكرة الحزب على تعاليم القبالاة الصوفية اليهودية التي تبلورت بين اليهود الاشكناز في القرن السابع عشر الميلادي والتي تتضمن افكاراً مبالغاً في عنصريتها تجاه غير اليهود. ومن امثلة تلك التعاليم ما كتبه الحاخام غينسبرغ في الصحيفة التي تصدر في نيويورك باللغة الانكليزية فقد كتب ذلك الحاخام يقول: "اذا كان هناك يهودي يحتاج الى كبد فهل يمكنك ان تأخذ كبد شخص غير يهودي بريء يمر بالصدفة من اجل انقاذه؟ ان التوراة تجيز ذلك، فالحياة اليهودية لا تقدر بثمن ان هناك شيئاً اكثر قداسة وتفرداً في شأن الحياة اليهودية اكثر من الحياة غير اليهودية". ويقول الحاخام افنيري احد منظري القوميين المتدينين في كتابه "ردود الانتفاضة" الذي نشر بالعبرية عام 1990 "ان قتل الطفل غير اليهودي الذي يلقي الحجارة على سيارة لليهود هو امر ضروري لانقاذ حياة يهودية". ويقول في مكان آخر من كتابه: "ان انزال عقوبة الموت بالعرب الذين يلقون الحجارة ليس جائزاً فقط ولكنه واجب". وعلى عكس جماعات اليهود الشرقيين المتديينين فإن الحزب القومي الديني وراعه الاستيطاني غوش ايمونيم يشجعون على الانخراط في الجيش من اجل إحكام السيطرة على القرار السياسي وكان ضباطهم وجنودهم الاكثر تميزاً في القتال. وتعتبر المستوطنات في الفكر الاصولي قلاعاً للإيديولجية اليهودية ويمكن ان تكون نواة للمجتمع الاسرائيلي الذي يرغب القادة الاصوليون في بنائه في الضفة الغربية وتؤيد الغالبية العظمى من اعضاء الكنيست الاحتفاظ بالمستوطنات، ففي عام 1999 صوّت 100 عضو من بين 120 عضواً في الكنيست، بمن فيهم اعضاء حزب العمل للاحتفاظ بالمستوطنات. فإذا ما استثني النواب العرب من العشرين عضواً المعارضين في الكنيست فإن عدداً ضئيلاً جداً من النواب الاسرائيليين يعارض المستوطنات ويعطي المستوطنون في غالبيتهم اصواتهم في الانتخابات للأحزاب الدينية الاصولية. ويعتبر الاصوليون اليهود ان اتفاق اوسلو وقيام السلطة الفلسطينية كارثة حلت باسرائيل جعلت لزاماً عليهم ان يحاربوا بلا رحمة الكيان الكنعاني الفلسطيني الجديد ولذا تحولت معركتهم مع العلمانيين اليهود من صراع سافر الى عمل صامت هادئ من اجل اختراق المؤسسات العسكرية والقضائية والتعليمية واعادة صياغة الدولة وتوجيهها. ويمثل باروخ غولدشتاين نموذجاً للتفكير والسلوك الاصولي اليهودي. فهذا اليهودي القادم من الولاياتالمتحدة الاميركية اقتحم المسجد الابراهيمي في الخليل عام 1994 وقتل 29 شخصاً من بينهم اطفال اثناء اداتهم صلاة الفجر. وبعد موته بعد الحادث بقلل رتبت جنازته بعناية فائقة وغطيت جدران كثير من الاحياء بالملصقات التي تمجده وتأسف انه لم يقتل المزيد من العرب. وارتدى الاطفال اقمصة كتب عليها "غولدشتاين شفى اوجاع اسرائيل وتحول الكثير من الحفلات الدينية والمناسبات الاخرى الى تظاهرة لتحيته وأعلن الكثير من المستوطنين والاعضاء في الحركات الاصولية تأييدهم لما فعله وأثنوا عليه كشهيد ورجل قديس وقام الجيش بتوفير حرس شرف لقبره وأصبح القبر مكاناً يحج اليه الاسرائيليون من كل مكان. 2- اما بالنسبة الى الأصولية المسيحية فإن القرن العشرين يعد قرن زحف المسيحية الاصولية بامتياز، بخاصة في الولاياتالمتحدة. وهنالك ترابط وثق بين هذه الاصولية والاصولية اليهودية فيرى القس جيري فالويل مؤسس "الاغلبية الاخلاقية" ان من يؤمن بالكتاب المقدس حقاً يرى المسيحية ودولة اسرائيل الحديثة مترابطتين على نحو لا ينفصم وهكذا فإن اعادة انشاء اسرائيل عام 1948 هي في نظر كل مسيحي مؤمن بالكتاب المقدس تحقيق لنبوءات العهدين القديم والجديد. ولقد ترجم قساوسة الاصوليين المسيحيين بعض فقرات العهدين القديم والجديد ترجمة سياسية مباشرة صبت بقوة في دعم الدولة الصهيونية كما فسروا الاحداث السياسية باعتبارها علامات تسبق المجيء الثاني للمسيح ومن بينها تجمع اليهود في فلسطين وانشاء دولة اسرائيل ولم يبق الا ظهور المسيح الدجال وحدوث موجة من الصراعات تتوج بمعركة "هرمجدون" كما ذكر سفر الرؤيا. حيث تشارك أمم كبيرة في معركة بين الحق والباطل. وتعتقد الحركة التدبيرية - وهي احد فروع المسيحية الأصولية التي ينتمي اليها ثلاثة ارباع الأصوليين المسيحيين - ان الله وضع في الكتاب المقدس نبوءات واضحة حول كيفية تدبيره لشؤون الكون ونهايته ورتبها كما يلي: قيام اسرائيل وهجوم اعداء الله على اسرائيل ووقوع معركة هرمجدون النووية وانتشار الخراب والدمار ومقتل الملايين ثم ظهور المسيح المخلص وتخليصه لأتباعه من المحرقة وايمان من بقي من اليهود بالمسيح ثم انتشار السلام في مملكة المسيح لمدة ألف عام. لهذا فإن أقوى دعم سياسي حصل عليه رئيس الوزراء الاسرائيلي المتطرف آرييل شارون - بحسب ما تقوله الكاتبة هيلينا كوبان - في أميركا لم يأت من مؤسسات اللوبي الصهيوني القوية والمنظمة ولكن من الجمعيات المتنفذة لليمين المسيحي. إن هذه القناعة جعلت المؤمنين بنهاية العالم من الأصوليين المسيحيين يعتقدون ان الحرب على العراق هي الحرب ذاتها التي جرى التنبؤ بها في الكتاب المقدس على "فاسقة بابل" ويعتقد هؤلاء الانجيليون ان المسيح لن يعود الى الارض قبل ان يرجع جميع اليهود الى فلسطين وان اسرائيل قوية أمر ضروري لتحقق خطط الرب في العالم. ومن ثم فعلى الولاياتالمتحدة ان تجعل من اسرائيل قوة عسكرية بالدرجة الأولى حتى يأتي يوم الحساب، واي تقصير في ذلك يعتبر مخالفة لأوامر الله. ويلاحظ المراقبون ان اعداد المسيحيين الأصوليين المؤيدين لاسرائيل على اساس ديني اخد في الارتفاع في شكل مذهل. وتتراوح تقديراتهم بين 50 و70 مليون شخص. وهذه الجماعات الاصولية تنظم نفسها باحكام ويذهب اعضاؤها الى صناديق الاقتراع ويدلون بأصواتهم بانتظام وفقاً لما يطلبه منهم قادتهم. وتلخص الكاتبة الاميركية غريس هالسل في كتابها "النبوءة والسياسة" المستوى الذي وصلت اليه العلاقة بين الولاياتالمتحدة واسرائيل قائلة: "إن التحالف بين الدولتين اصبح حلفاً دينياً عقيدياً أقوى من اي معاهدة". ويتفق الاصوليون المسيحيون واليهود على وجوب سيطرة الاخيرين على فلسطين كاملة واتخاذ القدس عاصمة لدولتهم وإقامة الهيكل مكان المسجد الاقصى، وبحسب الاصوليين الانجيليين فإن هذه الامور ما لم تأخذ مجراها على أرض الواقع فانها ستعطل مجيء المسيح المخلص. ربما ان مجيء المسيح سيكون مسبوقاً بحرب مدمرة فإن أميركا تجد نفسها ملزمة عقائدياً بتسليح اسرائيل ما أمكنها ذلك وبدعم كل مخططاتها داخل فلسطين وخارجها استعداداً لوقوع هذه الحرب لضمان انتصار اسرائيل وحلفائها ضد اعداء الله المسلمين وفي هذا السياق يدخل اعفاء اسرائيل من الانصياع للقوانين والمواثيق الدولية، فشريعة الله وحدها التوراة هي التي يجب ان تطبق على اليهود في فلسطين. ولقد ساد انطباع خاطئ بأن الحركة الاصولية المسيحية قد تراجعت وانطفأت جذوتها بخروج الرئيس السابق رونالد ريغان من البيت الأبيض نهاية الثمانينات الذي نشطت فيه الأصولية المسيحية في أروقة الدولة ووسائل الاعلام ومراكز القرار غير انه بحلول عام 1992 تمكن المسيحيون المحافظون من احراز مكانة متميزة داخل الحزب الجمهوري وسيطروا على مندوبيات ولايات عدة. ويشير المراقبون الى ان 40 في المئة من الاصوات التي ذهبت الى بوش الاكبر أوان انتخابه جاءت من الاصوليين الانجيليين لذا بدأ زحف الاصوليين يستنفر المنابر الاعلامية ويلفت انتباه المجتمع، فقد تساءلت يومية سان فرانسيسكو يونيو 1995 قائلة: "هل اصبح الحزب الجمهوري حزب الله"؟ 3- اما الاصولية الاسلامية فهي ظاهرة برزت على السطح في عهد ما بعد الحرب الباردة في عموم البلاد الاسلامية وجاءت في جزء منها كبير نتيجة للتعسف الذي يعامل به الغرب واسرائيل العرب والمسلمين. وهكذا في اجزاء كبيرة من آسيا وافريقيا اصبحت الأصولية الاسلامية تمثل النقطة المركزية في النشاط السياسي في عالم أحادي القطب. ولا شك في ان من الاسباب الرئيسة لانتعاش الاصولية الاسلامية الفراغ السياسي الهائل الذي نجم عن انهيار القطب الثاني وسياق الشح الاقتصادي والتأزم الاجتماعي الحاد والبطالة والفاقة وعجرفة واستعلاء القادة الديكتاتوريين في العالمين العربي والاسلامي وهذا ما أجج نار الكراهية والغضب، فأدى الى التطرف في الموقف واعطاء ذلك التطرف لبوساً دينية لاكسابه شرعيته اللازمة. ولقد استعملت الاصولية عجز الأنظمة عن توفير الصحة والقوت والتعليم للتمدد والاكتتاب في صفوف المجتمعات الاسلامية والمهمشين خاصة. وهكذا انخرط الكثير من الشباب المحروم والمحبط في صفوف الاصولية بالطريقة نفسها التي دفعت بالكثير منهم لتعاطي المخدرات. ويستمد التيار الاساسي للأصولية الاسلامية أهم تعاليمه من الحركات الاسلامية السياسية التي عرفها العالم الاسلامي منذ قرون. وإن كانت مبادئ حركة الاخوان المسلمين التي تأسست سنة 1928 في مصر مع حسن البنا 1906 -1949 والجماعة الاسلامية التي تأسست 1941 في الهند البريطانية مع أبي العلاء المودودي 1903-1978 ظلت الأبرز في هذه التعاليم. ولا شك في ان الاسلام - كما ذكر فوكوياما - هو الحضارة الوحيدة التي ما زالت متمنعة على الاحتواء الغربي الذي اطلق عليه الكاتب تجوزا مصطلح "الحداثة". فالعالم الاسلامي لم ينجر تماماً في التيار على رغم رياح الاجتياح والتغريب العاتية. وهذا ما جعل الدارسين الغربيين يعتبرونه مصدر الاصولية ومنتجها الاوحد في عالم اليوم وان كان الاصوليون الاسلاميون على العكس من هذا التصور يمثلون جزءاً محدوداً في الساحة الاسلامية ولا يشكلون غالبية بأي حال من الاحوال. بل ما زالت الاصولية الاسلامية خارج دائرة القرار السياسي وهي مطاردة والحكام المسلمون يبذلون ما في وسعهم للقضاء عليها لتثبيت عروشهم وارضاء الغرب. ان أوضاع العالم العربي والاسلامي هي التي سمحت بظهور مثل تلك الجماعات وسلطت عليها الاضواء اثناء تطويقها وتصفيتها بينما حجبت تيارات الاعتدال التي تدعو الى التغيير السلمي. فقد حظيت جماعات التطرف بتغطية اعلامية واسعة في الاعلام العالمي حتى اصبحت صورتها الشبح المخوف المهيمن على الخيال الغربي فبدا وكأنهم وحدهم الناشطون في الساحة الاسلامية. ومن الواضح ان هذا التصور يرجع الى فهم خاطئ لما يدور في الساحة الاسلامية من ان المشكلة تكمن في الاساس في اصرار الباحثين الغربيين على اعتبار التغريب المعيار الاوحد للحداثة ورفضهم الاعتراف بشرعية اي نموذج حضاري يحاول ان يبني نفسه على نحو مستقل يتأبى على استنساخ النموذج الغربي وإن لم يرفض القيم الايجابية الجديرة بالتقدير الموجودة في التجربة الغربية. فجوهر المشكلة مع الغرب هو رفض التبعية - كما يقول الباحث فهمي هويدي - وليس رفض الحداثة. * كاتب من موريتانيا.