لم تستطع الحكومات في المنطقة أن تقف مكتوفة الأيدي وهي تشاهد مؤشرات أسواقها المالية تتهاوى، ومدخرات كثير من صغار مواطنيها تتلاشى، والثقة في الأسواق تتراجع. وعلى أثر هذه التطورات، اتخذت خطوات وإجراءات كثيرة تهدف إلى تعزيز الثقة في هذه الأسواق، للحفاظ على قوتها وصدقيتها، إضافة إلى محاولة وقف مسلسل الخسائر والتراجعات وتأثيراتها السلبية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. يرى بعض المحللين أن الأحرى بهذه الحكومات كان التدخل عندما سيطر المضاربون على هذه الأسواق، وتوسعت قاعدتهم، وتراكمت أرباحهم، بحيث ارتفعت أسعار أسهم معظم الشركات المدرجة في كثير من الأسواق الخليجية والعربية إلى مستويات خطرة ومبالغ فيها لا تتناسب مع مستوى أدائها أو القيمة الحقيقية لأصولها. ويرى البعض الآخر، ومن زاوية مختلفة، أنه لا يمكن تحميل صغار المستثمرين عواقب هذه الكارثة بحجة أن ثقافتهم الاستثمارية منخفضة، أو أنهم لا يحسبون جيداً نسبة المخاطر المرتقبة، ومؤشر مضاعف الأسعار سعر السهم في السوق مقسوماً على ربحيته - وهو من أكثر المؤشرات شعبية في التعبير عن واقعية الأسعار - الذي وصل إلى مستويات غير منطقية في بعض هذه الأسواق عاكساً واقع مضاربة قوية، ونشوة غير عقلانية، بحيث لاحظنا رفع المضاربين أسعار أسهم شركات خاسرة عدة أو متواضعة الأداء ذات إدارة فاشلة. وهذا بالطبع أجهض عملية رقابة الأسواق المالية لأداء الشركات، من حيث رفع أسعار أسهم الشركات ذات الأداء المتميز وخفض أسعار أسهم الشركات ذات الأداء الضعيف، بحيث تتناسب الأسعار مع مستويات الأداء. وانتقلت صناعة القرار الاستثماري من العقل والمنطق إلى العاطفة والمشاعر، والاعتماد على الإشاعات، والسير خلف القطيع، في ظل محدودية الوعي الاستثماري وتواضع الاستثمار المؤسسي والذي يفترض أن يلعب دوراً حيوياً في استقرار الأسواق المالية والحفاظ على كفاءتها ومصداقيتها وواقعيتها، مقابل طغيان الاستثمار الفردي. كما يرى بعضهم من جهة أن هناك فرقاً بين دور الدولة في الدول المتقدمة، والتي وصلت فيها الأسواق إلى مراحل متقدمة من النضج واكتملت البنية التحتية للاقتصاد، وحيث يقوم القطاع الخاص بدوره في إدارة الاقتصاد، وبالتالي إعفاء الحكومة من التدخل لمعالجة أي خلل في السوق والاكتفاء بسن الأنظمة والتشريعات والقوانين الضرورية لعمل السوق، وبين البنية الهيكلية للاقتصاد في الدول النامية، ومنها العربية، التي مازالت تعاني من خلل هيكلي. ويحتم ذلك على الحكومة التدخل لمعالجة الخلل، والتعامل بطريقة مختلفة مع القطاع الخاص الضعيف البنية. ويضيف أصحاب هذا الرأي أن الدولة في الأقطار النامية مازالت اللاعب الأساس في الاقتصاد، وحارسة مصالح مواطنيها، وتعمل على رفع مستوى معيشتهم من خلال سن القوانين والأنظمة والمساهمة في إنشاء قطاع آمن يسهم في رفع كفاءة الاقتصاد. وتساعد القوانين أفراد المجتمع على استثمار مدخراتهم في بيئة استثمارية كفوءة تحقق لهم تنمية مدخراتهم بمخاطر معقولة. وتوافر العوامل التي تساعد على تحقيق الكفاءة في سوق الأسهم، من الأولويات التي تحرص الهيئات المالية، والتي تمثل الدولة، على توافرها في السوق. والأسواق في الدول الناشئة تفتقر إلى بعض الآليات أو المقومات التي تساعد على عملها بكفاءة وتوجيه المستثمرين، ما يحتم دوراً أكبر للدولة في السوق حتى تكتمل بنيتها. من ثم، من الخطأ مقارنة سوق ناشئة، مثل الأسواق الخليجية والعربية التي لم تتحقق لها شروط الكفاءة الاقتصادية الكاملة، بالأسواق المتقدمة التي اكتملت فيها بنية السوق الهيكلية ما يساعدها على علاج المشاكل التي تواجهها من دون تدخل الدولة. إذ يتوافر في الأسواق العالمية ما يسمى بصناع السوق، وغيابهم يساهم في تهميش آليات السوق وانخفاض كفاءته. فلا يمكن في ظل وجود صناع للسوق أن تتدفق عروض بيع من دون أن يقابلها طلبات شراء، أو وجود طلبات شراء من دون أن يقابلها طلبات بيع. وبالتالي تحتفظ الأسواق دائما بحالة من التوازن بين العرض والطلب، وتضييق الفرق بين سعري البيع والشراء، ويتحقق فيها أهم وظائفها، وهي القدرة على تسييل الأوراق المالية بسرعة وسهولة، وإيجاد توازن مستمر بين العرض والطلب، ما يحد من تقلبات الأسعار صعوداً أو هبوطاً، ويؤدي إلى استقرارها واقترابها من الثمن العادل، فضلاً عن ضمانة استمرارية السوق في القيام بمهماتها وتحقيق أهدافها. وإضافة إلى وجود صناع السوق، تتوافر في الأسواق العالمية مكاتب متخصصة تتولى تقييم أسعار الأسهم لكل شركة، من خلال تحليل قوائمها المالية ومؤشرات أدائها، وتعطي توصية للمستثمرين للبيع والشراء على أسس مالية واستثمارية تتاح للمتعاملين في السوق مجاناً في المراحل الأولى. ويساهم توافر هذه الأبحاث من ترشيد قرارات المستثمرين، كما يسهل عليهم اتخاذ قرارات استثمارية صائبة، بعيداً من الإشاعات ومواقع شبكات الانترنت التي أسهمت في استغلال صغار المستثمرين من قبل كبار المضاربين. وتتولى بعض المكاتب المتخصصة تحليل أخبار الشركات وانعكاسها على أسعار الأسهم بحيث لا يُكتفى بالمعلومة وإتاحتها للمستثمرين، إذ أن الأخيرين في حاجة إلى من يحلل المعلومات ويعكسها في توصية حول سعر السهم. وجمع المعلومات وتحليلها من قبل المكاتب المتخصصة قد يكون مجدياً اقتصادياً، بينما على المستوى الفردي فإن التكلفة والوقت الذي يستغرقهما هذا العمل، قد لا يكونان مجديين لصغار المستثمرين، ما يساهم في سيرهم خلف القطيع أو لجوئهم الى توصيات المنتديات أو الاعتماد على الإشاعات. ويرى بعض المحللين أن إنشاء المكاتب المتخصصة في تقويم الأسهم في المنطقة، يحتاج إلى دعم مادي في مراحله الأولى من هيئة الأوراق المالية وحتى كسب ثقة المستثمرين في الأسواق المالية، بحيث يُعتمد عليها في اتخاذ قرارات الشراء والبيع. يُشار الى أن تداول الأسهم يقوم على مبدأ أساس وهو تقاطع التوقعات. فالذي يريد أن يبيع يكون توقعه انخفاض الأسعار، والذي يريد أن يشتري يكون توقعه ارتفاع الأسعار. وهذا التقاطع في التوقعات يؤدي إلى التداول. ولا يجوز للحكومة ممثلة بهيئة الأوراق المالية أن تكون طرفاً في التوقعات، لأنها بذلك تكون قد انحازت لبعض قوى السوق كما لا يتفق ذلك مع عدالة التعامل مع الجميع. ووجود أكثر من مكتب متخصص ومحايد بتقويم أسعار أسهم الشركات المدرجة، يمنع احتكار المعلومات واستغلالها، ما يسهم في رفع كفاءة الأسواق وتحسين البيئة الاستثمارية في المدى الطويل. وعلى رغم أن الدولة لا تستطيع أن تمنع مستثمراً من بيع أسهمه في أي شركة أو شراء أسهم شركات أخرى، كما لا تتدخل في الأسعار، باعتبار أن الأسعار مهمتها تحريك الموارد، وحركة الأسعار للأعلى أو للأسفل هي التي تعطي الإشارات الحمراء والخضراء لقوى السوق وتجعلها تتحرك. وقد يؤدي تدخل هيئة الأوراق المالية، وهي السلطة الرقابية والممثلة للحكومة، في تحريك الأسعار أو التأثير فيها إلى تشويه الإشارات التي ترسلها حركة الأسعار. إلا أن هيئة الأوراق المالية السعودية وبعد ملاحظتها المبالغة في أسعار أسهم كثير من الشركات نتيجة قوة المضاربين وارتفاع حجم السيولة، وبالتالي ارتفاع المخاطرة في السوق أعطت إشارات واضحة عن هذه المبالغات وخفضت نسبة التأرجح في الأسعار بهدف هبوط آمن للسوق. كما قررت الحكومة السعودية وبعد أن لاحظت تراجع مستوى الثقة ومستوى السيولة ومستوى الطلب ومستوى التداول، السماح للمقيمين على أرضها ومن مختلف الجنسيات بتملك حصة من رؤوس أموال الشركات المساهمة العامة المدرجة في السوق، بهدف توسيع قاعدة المستثمرين وتعزيز حجم الطلب وضخ سيولة في السوق، إضافة إلى قرار بتجزئة أسهم الشركات المدرجة من خلال خفض القيمة الاسمية للسهم من 50 درهماً إلى عشرة دراهم لزيادة عمق السوق وزيادة عدد المتداولين. وفي الإمارات، اتخذت الحكومة كثيراً من القرارات بهدف وقف مسلسل التصحيح، ومنها السماح للشركات بشراء أسهمها وتعليق الإصدارات الجديدة ووقف زيادة رؤوس أموال الشركات المساهمة. يلاحظ من تجربة الأسابيع الماضية أن التصحيحات التي تعرضت لها الأسواق المالية الخليجية والعربية والتي تفاوتت قوتها وعمقها من سوق إلى أخرى، أسهمت في عودة أسعار أسهم معظم الشركات المدرجة إلى مستويات منطقية وجاذبة للاستثمار، وفي اعتماد عدد كبير من المستثمرين على المؤشرات المالية والاستثمارية في اتخاذ قراراتهم الاستثمارية. * مستشار بنك أبو ظبي الوطني للأوراق المالية.