استيقظ فجأة من سبات طويل، يجمع من الظلام الدامس بعض ضوء خافت كان ينبعث من جهاز معلق بقربه، ترامت الى بصره أشباح متدلية من أعلى السقف، شحذ بصره نحوها فعرف أنها محاليل معلقة فوق رأسه. بدأ يستجمع وعيه محاولاً تذكر ما حدث. انهالت عليه جموع الأسئلة تقارع جسده المصفد. شعر بأجهزة التنفس كجنازير تلتف حول أنفه وفمه، وأحس بشيء خفي يتراقص في أوصال جسده المشلول، وبدأ الخاطر يتحدث من جوفه بدلاً من لسانه الذي كان مسلوب الإرادة. يداعب ذاكرته بأحرف متلعثمة: ما الذي حدث؟ كيف وصلت الى هنا؟ كنت أمارس غواية القمع، فهل انقلب السحر على الساحر وابتلعتني الأمواج، تراجع الخاطر أمام أصوات أجهزة التنفس وأنابيبها التي كانت تفرض على شرايينه مزيداً من الحصار. تقرع على أذنيه قرع الطبول، راح خاطره يتساءل في غضب: ما الذي يضعون في هذه الخراطيم التي تقضم أنفي وفمي كسمكة قرش؟ هل هو أوكسجين أم غاز مسيل للدموع؟ جفل فزعاً من جملته الأخيرة، أحس بصدره يعلو ويهبط كأفعى كوبرا تتلوى على ايقاع الطبول القادم من الأجهزة، فصاح: كفى... كفى لا أريد أن أموت، أين أنتم أيها الأطباء الملاعين! أين أنتم يا معشر الأشكناز؟ ألم نشرب سوية نخب يهوه؟ لأجلكم أفقدتهم هدأة السبات في هجيع الليل، وبنيت لكم حوائط من أشلائهم. أنا الآن ها هنا مسجىّ مهمل مشلول لا يسمعني منكم أحد! توقف خاطره فزعاً على قيء يندفع من أمعائه، يجتاز فمه وأنفه نحو الكمامة الموصودة على فمه بمزلاجها كباب زنزانة، تداخل خاطره مع قيئه في امتزاج موحل يشبه أرض الزنازين الانفرادية، كان اندفاع القيء كافياً لاقتحام باب الزنزانة في سيل جارف يجتاز مساحة الخد المتجعد في وديان تندفع نحو أذنه وتخترق الطبلة. بعض القيء عاد مرة أخرى الى بلعومه فلامس لسانه مرارة العصارات، وانهالت دموعه تمارس الغواية مع القيء تحمله الى عالم الهذيان. أحس بالاختناق يفحم جسده، وانبرى خاطره يلهث بحثاً عن طوق نجاة. زاغت عيناه وتعلقت بسقف الحجرة، فرأى جموعاً غفيرة من الأشباح تتراقص أمامه في ابتهاج. ازدادت مساحة الاختناق في جسده، التفت جموع الأشباح حوله تراقصه"التانغو"، تدنو منه وتبتعد مطلقة صيحاتها. كان الاختناق قد بلغ أوجه فراح خاطره يبتهل بتضرع للحشود:"كفوا عني سأرحل، صدقوني انها المرة الأولى التي لا أكذب فيها، سأعود الى بولونيا، أعلم أنني لن أكفّر عن ذنوبي التي تخطت الآلاف، لم أشأ يوماً بناء"هيكل الرب"بقدر ما أردت هدم كبريائهم، كانوا في مملكتي ذباباً متوحشاً، جنادب تتطاير من حولي، كابوساً فاسداً يجب تجريفه، عدوى أخشى أن تنتقل الى جيراني فيزداد كمّ الذباب من حولي، نفثت السموم في أوردة جيراني فأغلقت عليهم باب الأرض وسقف السماء". اقترب الراقصون منه وبدأوا يمسكون جسده ويدغدغون رأسه، يترنحون بأجسامهم مطبقين على صدره، صرخ خاطره في فزع وراح يفتش عن مكان آمن داخل قلبه. طاردته الجموع الى داخل جسده، بدأ الخاطر يفر من شريان الى وريد، اقتحم جدار المعدة، وأحدث فجوات داخل أمعائه، والراقصون يعبرون الطرقات يدوسون بأقدامهم أحشاءه، يسبحون في برك الدماء يغبون منها ويثملون، والخاطر يفر منهم جزعاً، حتى وصل الى القلب لجأ الى البطين الأيمن والراقصون يطاردونه، يضيقون عليه الحصار، يلتهمون المضغة بِشَرَهٍ. يترنح الخاطر بين أفواههم، الأجهزة المعلقة تصرخ، حشود الأطباء والممرضات تملأ المكان تحاول إنعاش القلب، لتتسع مساحة الرقص من الداخل والخارج، وهو يصيح... يستجدي بلا كلمات، بلا لسان، بلا خاطر، بلا قلب. لا أحد يسمع الأنين في حلبة رقص مجنونة، والكل يلهث لإحياء ميت! إيمان حامد الوزير - بريد الكتروني