الى المتحاورين وسواهم، تنطوي التعددية، في جميع أصقاع العالم، على صيت حسن. وهي كلمة مطابقة للدُّرجة الموضة. والكلمات المطابقة للدُّرجة كثيراً ما يكتنفها الغموض. فنحن نعني بكلمة"تعددية"أحياناً ما سُميَ تسامحاً، ونعني بها أحياناً أخرى وفاقاً أو توافقاً وهي كلمة مطابقة للدرجة أيضاً. المشكلة الحقيقية التي تطرحها التعددية هي مشكلة التوفيق بين تطلعات مختلفة. المشكلة، بالنسبة الى زوجين يعيشان في انسجام، هي مشكلة يومية تُحل يومياً. وهي تُطرح في صعوبة أكبر في الجماعات الأوسع، حتى اذا ساد فيها تفاهم ما. فكل فرد يتمسك بوجهة نظره ولا يرغب في الرجوع عنها، وغالباً ما يكون ذلك بدافع حب الذات، لا الاقتناع. ومن هنا تنبثق"المونولوغات"التي يطيب للبشر أن يطلقوا عليها تسمية"محاورات". لو رضي كل فرد أن يقرَّ بحق الآخرين في تعبيرهم عن آرائهم الخاصة، لكنا حققنا تقدماً ملموساً في علاقاتنا الانسانية. ولكن الأمر من الصعوبة بمكان ما دام كل فرد يظن، بصدقٍ كلّي، أنه يمتلك الحقيقة المطلقة. والحال أن لا حقيقة مطلقةً في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليس هناك سوى حقائق نسبية تتغير تبعاً للأحداث المختلفة. والذين يظنون انهم يمتلكون الحقيقة المطلقة يرفضون اعطاء خصومهم حقَّ الوقوع في الخطأ. وهذا ما يحدث في الأنظمة"الكلّيانية". وما يترتب الاقرار به هو تعدد التأصلات. الانسان يعيش من الجذور التي يمنحها نفسه وليس ضرورةً من الجذور التي يتلقاها أو تُملى عليه!. والرغبة في التأصل، واختيار التأصل، هما أساس كل فكر فردي. ومن الشرعية بمكان احترام تلك الرغبة وذلك الاختيار. والتأصل عمل ذو نفس طويل يتطلب مرةً معرفة مذهب ما، ومرة تعود محيط عمل محدد، ومرةً اختبار نمط حياة معين، ومرةً كل ذلك في آنٍ واحد. ان وجهات السير على اختلاف دائم. لذا، تختلف أيضاً نقاط الوصول. وهذا أمر طبيعي. التأصل يوحّد الاتجاه: قل لي ما هو تأصلك أقل لك من أنت. من الواضح أن مواطني بلدان مختلفة، ولو شقيقة أو متجاورة، لا يُعقل أن يكون لديهم التأصل نفسه. لذا، من العدل والصحة احترام الأفكار التي هي ثمرة تأصل كل فرد. لم تعد المسألة مسألة رفض الخطأ، بل السعي الى إدراك مسيرة الآخر انطلاقاً من التأصل الذي اختاره هو والذي يمنحه فعلاً حريته، علماً أن الحرية الفردية لا يحدّها سوى حرية الآخر. ان مقولتنا القديمة المتجددة أبداً في عرفنا، القائلة بأن كل ما يرتقي يلتقي ولو بعد حين، ينبغي الأخذ بها والسعي الى تحقيقها، لأن مصدرها ليس فقط قوانين الشأن العام والمصلحة العامة، بل شرائع السماء أيضاً، وهذه الشرائع وتلك القوانين يترتب على كل متحاور مسؤول أن يجسّدها فعلاً وليس عبر التراشق بپ"المسؤوليات"والاستخفاف بالعقول. الدكتور جهاد نعمان - لبنان