"ما في حدا... ما تندهي ما في حدا". عرض مي غصوب يبدأ على صوت فيروز، من هذا الفضاء الفارغ، في بيت هجره أهله على عجل، واقتحمه المسلّحون. على شاشة العمق مشهد لصورة عائليّة بالأبيض والأسود، تكثّف الشعور بالغياب، بمأساة اقتلاع، تهجير، بقصّة مضمرة عن"الهمجيّة"والعنف في زمن الحروب... نحن إذاً في مدينة نهشتها الحرب الأهليّة. في زاوية إلى يسار الخشبة، وقفت سيّدة تحمل كتاباً ضخماً، وتروي بالانكليزيّة:"إنّها ليلة رطبة تعصف فيها الريح. نوفمبر بيروت؟ أم سراييفو؟ احتلوا البناية ذات الطبقتين في آخر الشارع. لا بدّ من أن من كانوا يسكنون هذا البيت الحجري هجروه على عجل. ما زال في إمكان المرء أن يشمّ رائحتهم في الداخل، ويرى وجوههم في الصور التي ما زالت على جدار غرفة النوم وفي الأروقة". "قتلة الكتاب"عرض يقدّم هذه الأيّام في بيروت، ضمن إطار"الموسم"الطموح الذي أطلقه الثنائي مصطفى يمّوت - رولا قبيسي زيكو هاوس، في صالة سينما منسيّة قرب شارع الحمراء، أحياها لتستضيف نشاطات فنية مختلفة... الضيف المقبل على الموسم سيكون المسرحي العراقي جواد الأسدي. العمل بالانكليزيّة، يرافقه موزّعاً على المشاهدين، كتيّب عن"دار الساقي"يتضمّن الترجمة العربيّة. والعنوان الأصلي يبدو أكثر افصاحاً عن المشروع TEXTERMINATORS. فيه صدى أفلام قامت على أسلبة العنف. أما مشروع مي غصوب، وهي ناشرة ونحاتة وكاتبة مقيمة في لندن، فكناية عن مونولوج طويل، قريب من بعض تجارب بوب ويلسون. نفكّر تحديداً بعمل شهير قدّمه ويلسون عن نصّ قصير لهاينر مولر"مشهد تحت المراقبة".المونولوغ سرعان ما يتفرّع إلى أصوات، ومستويات سرديّة وبصريّة ومشهديّة شتّى... الراوي يسرد لنا حكاية اقتحام مجموعة مسلّحين لذلك البيت الآمن الذي هجره أهله على عجل، تاركين حياتهم وأعينهم معلّقة على الجدران... تاركين أزيضاً رفوفاً لا تنتهي من الكتب. الكتب نفسها التي تسكن ذاكرة مي غصوب على الأرجح. هكذا نتعرّف إلى المسلّح"المحوري"الذي تدور حوله اللعبة. إنّه"بوليت"رصاصة بالانكلزيّة الذي يبحث عن نشوته في العنف، عن الثأر من ظلم بعيد ربّما... ويعيد انتاج أشكال همجيّة قديمة، قدم التاريخ، من خلال"احراق الكتب"، للتسلية، للتدفئة، لتفريغ شحنات العنف، ل"الانتقام"لكن ممن؟، إلخ. مشروع مي غصوب، بالصوت والصورة والحركة، ينطوي على خطاب محوري واضح: إنّه صراع يمكن اختصاره ب"كابوس هولاكو"... الحضارة التي تختصرها المؤلّفة ب"الكتاب"، في مواجهة الهمجيّة التي يجسدها"بوليت"بالنيابة عن قتلة كثيرين، وربّما أكثر همجيّة منه وخطورة... إضافة إلى العنصر السردي، تظهر جوقة الممثلين - الراقصين، يشخّصون دور المقاتلين. وفي النصّ مناخات وايقاعات من المسرح الانكليزي الجديد الذي تعيش المؤلفة/ المخرجة على احتكاك دائم معه إدوارد بوند مثلاً. "بوليت"في مواجهة هذه الكتب سيتغيّر، ويعيد اكتشاف"انسانيّته"، إنما في أحد مستويات السرد الذي سرعان ما يتكسّر على صخرة الواقع. يلتقي"بطلنا"السلبي إرنست همنغواي، قبل أن تحتضن عنفه شهرزاد،"المناضلة"العربيّة التي عرفت منذ قرون بعيدة كيف تتحايل على عنف الرجال... يلتهم المقاتل الشرس كتاب همنغواي"الرجل العجوز والبحر"ويدمن كتبه الأخرى... ولا يعود لديه وقت لممارسة العنف، إذ يوغل في رحلات داخليّة، في خياله، عبر الأزمنة والقارات والحضارات. وفجأة، تنكسر اللعبة! تحتجّ المؤلفة من الصالة بهستيريّة:"أوقفوا العرض، لقد حوّرتم نصّي، هذا ليس نصّي!". وبعد ارتباك قصير، تعود اللعبة إلى مجاريها الطبيعية. يعتذر الراوي عن انجرافه في ما يتمنّاه ويتخيّله. لكن قصّة المقاتلين في الواقع تنتهي بأشكال أخرى. وتستمرّ المواجهة بين الحضارة والهمجيّة، بين الكتاب و"قتلته"، عبر حركة سرد متواصلة، تستعرض كلّ الكتب المحروقة سرفانتس، موليير، بانيول، داروين، شفايك، البيان الشيوعي، عوليس، ألف ليلة وليلة... وتتطرّق الى كلّ محارق الكتب الأخرى. تتعاقب المشاهد الفردية والجماعيّة، مشاهد قائمة على التعبير الجسدي والاداء الراقص. كما تتعاقب على الشاشة صور عائليّة حميمة. وقد فتحت مي غصوب ألبوماتها العائليّة لهذا الغرض، معتمدة تقنيّة سائدة في الفنون المعاصرة، هي اقحام"الأنا"والقصص الذاتيّة، في سياق روائي متخيّل، يدور حول حبكة أو قضيّة موضوعيّة أو مسألة عامة. كما تلعب على شفافيّة الشاشة، فنرى عبرها احدى منحوتات غصوب المعدنيّة،"القارئ"بالأسلوب الذي درجت عليه، إذ تتماهى فيها الكرسي مع الجالس عليها والكتاب. وتلجأ مي غصوب إلى تقنيّات التغريب بأشكال عدّة، تاركة للنصّ"المقروء"، أحياناً عبر تسجيل بلاي باك، موقع الصدارة في العرض. نسمع مقتطفات من إيتالو كالفينو، ومن شهرزاد... هكذا تضيع الحدود الفاصلة بين"الخشبة"و"الكتاب". من تقنيات التغريب تلك، مشهد"بوليت"وهو يرقص على كلمات شهرزاد المأخوذة من ألف ليلة وليلة... والطريقة التي تكسر بها المؤلفة اللعبة المسرحيّة، لتعيد نصّها الى المستوى السردي الأوّل، الى مجراه الواقعي الفج، بعيداً من الامنيات والنيات الطيبة. ولا بدّ من الاشارة إلى شخصيّة"البروفسورة"التي تأتي بين حين وآخر، بنظارتيها القاسيتين، لتقرأ علينا نتائج ابحاث علميّة واحصاءات، كلّها تؤكّد قابليّة الرجل للعنف والقتال والقتل، بنسبة أعلى من المرأة بأضعاف... وهذا الخطاب - ارتباط العنف بالذكورة - له معادله الاخراجي الواضح على الخشبة: كلّ المشاركين في المسرحيّة نساء، من الراوي الراوية؟، إلى المقاتل"بوليت"وصحبه... وفي ذلك الخيار محاولة لعب على الشيء ونقيضه، وقلب المعادلة، وتحوير الافكار الجاهزة. إنها لعبة تغيير الجنس العزيزة على المسرحي جان جينيه، وكثيرين غيره. المرأة - جوقة نساء بقيادة مي غصوب - هي التي تشخّص لعبة العنف، المرتبطة بالذكورة، في ضوء التجربة والتحليل النظري. ولا بدّ أيضاً من التوقّف عند حضور الراقصة ناتاشا ديفاليا في مشروع"قتلة الكتاب". في نهاية العرض، تؤدّي ناتاشا التي يعرفها الجمهور اللبناني جيداً، مشهداً هندياً راقصاً، على طريقة"الكاتاكالي"رقصة الالهة ساراسواتي، احتفالاً بالكلمات، بحسب الكتيّب الموزّع مع العرض. فيما يخلص الراوي إلى النهاية الآتية"الكلمات لم تقتل أحداً في يوم من الأيّام"، فتردد وراءها الجوقة:"الكلمات لا تقتل... البشر هم الذين يقتلون"...