عن دار"لاديفرانس"في باريس، صدر الجزء الأول من"الأعمال الشعرية"للشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي ويتضمن إضافة إلى التقديم الذي كتبه جان - لوك فوتييه، خمسة دواوين شعرية باللغة الفرنسية، من"مملكة البربرية"إلى"التمزقات كلها"، وهي دواوين في معظمها نافدة وتغطّي مرحلة زمنية تمتد من 1965 حتى 1990، وترسم جزءاً من المسار الشعري لأحد أبرز الأصوات الشعرية العربية المعاصرة. في ما يأتي حوار شامل مع اللعبي انطلاقاً من صدور الجزء الأول من أعماله الشعرية. عن دار"لاديفرانس"الباريسية، صدر الجزء الأول من مؤلفاتك الشعرية، هل هي استراحة المحارب، أم وقفة لرؤية ما تحقق من إنجازك الشعري حتى الآن؟ - إنه الفرق بين المحارب المسلح بالأسلحة المادية والمحارب المسلح بما يمكن تسميته بالأسلحة العجيبة والخارقة. وهي أيضاً خدمة أقدمها مع الناشر الى القارئ المهتم بمساري الشعري وأعمالي، لأن معظم الأعمال التي نشرت ضمن هذه المجموعة سبق أن نفدت من السوق وأنا أعيد نشرها في هذا الجزء الأول. وقد سمح لي هذا الجزء بوقفة تأمل في التجربة ككل، لأن الصيغة التي نشرت بها هذه الأعمال هي صيغة منقحة إلى حد ما، إذ عملتُ على تصحيح بعض الأخطاء بما فيها الأخطاء اللغوية، وحذفتُ بعض المقاطع التي أعتبر أنها زائدة أو تمثل نوعاً من التكرار. غير أنّ هذا التنقيح وهذه التعديلات لا تمس الجوهر، وهي مسائل من حق الكاتب أن يتصرف بها، لكن في حدود معينة. وأنا أعتبر أنّ قصائدي ومجموعاتي التي نشرت أخيراً هي الآن في صيغتها النهائية. تقول إنك حذفت بعض المقاطع، لكن هل حدث أن حذفت قصيدة بأكملها، أو بعض القصائد من هذه الطبعة الجديدة وما هي الأعمال التي حذفت منها ولماذا؟ - نعم حصل ذلك في ديوان متعلق بكتابات السجن. حذفت منه بعض القصائد لأنني أعتبرها في غير مستوى قصائد أخرى أو لربما كانت كُتبت تحت ضغط الأحداث، فلذلك فضلت أن تبقى فقط في الطبعات السابقة التي يمكن أن يرجع إليها القارئ المتتبع والناقد الأدبي المختص والمهتم. لكن كان من حقي أن أقدم الآن ما اعتبره يوافق قناعاتي الشعرية، أو بالأحرى القناعات التي توصلت إليها بعد هذا المسار الطويل. فكلما كتبنا قصيدة مثلاً نرجع لنتأمل فيها ونحذف بعض الأشياء ونرتب البعض الآخر، لأن القصيدة هي دائماً بمثابة مشروع بالنسبة الى الكاتب. ولو سنحت لي الفرصة أن أكتب الآن هذه الدواوين لكتبتها بصيغة أخرى. حتى القارئ نفسه يتغير، وبين فترة تاريخية وأخرى يقرأ بعين أخرى أعمال الأدباء والشعراء القدامى أو المعاصرين. أعتبر القصيدة كائناً حياً ينمو ويتطور، وأنا أتعامل معها على هذا الأساس. في هذه الدواوين الأولى يطالعنا أثر السجن الذي أمضيت داخله نحو تسع سنوات، كيف تبدو لكَ الآن تجربة السجن وأنت على هذه المسافة الزمنية منه؟ ما هو الانطباع الأساس الذي خرجتَ به من تجربة الأسر؟ - لي كتابات متعددة في هذا المجال... كتابات نظرية أو تحليلية أو إبداعية. وعلى العموم أحاول الآن تلافي الحديث في هذا الموضوع وكأني لا أريد أن أترك انطباعاً بأنني من قدامى المحاربين ويضحك. أعتبر أن ثمة ما هو أعمق من ذلك وأنّ المعاناة والمحن التي يمكن أن يعيشها الإنسان لا تمنحه أي امتياز على الآخرين. المحنة ليست"تجارة"، وبالتالي فأنا أحاول أن أقلل من الحديث عن هذا الموضوع، لأن التجربة الآن أصبحت في داخلي. لقد مضى ما يقارب الثلاثين سنة عشت خلالها"حيوات"عدة أخرى. ومنذ تلك الفترة، واجهت تحديات أخرى أيضاً على المستوى الفكري والسياسي والإبداعي. بإيجاز شديد أقول إن هذه التجربة كانت مؤسِّسة بالنسبة الى البنية الأخلاقية ومؤسِّسة بالنسبة الى علاقتي الخاصة مع نفسي والى قضايا الشعب المغربي وقضايا كل الشعوب التي تعاني القهر والاضطهاد. كانت كذلك مؤسِّسة بالنسبة الى حساسيتي كإنسان والى علاقتي بالآخر. سمحت لي هذه التجربة بفتح الأعين على القارة الإنسانية للنساء وما تمثله من مقاومة للنظام الهمجي. كانت بالطبع محنة صعبة، لكنها كانت أيضاً مدرسة الحرية، وإن كان في مثل هذا الكلام نوع من المفارقة، لكن الإنسان في هذه الظروف يكتشف بالفعل معنى الحرية وقيمة الحرية في شكل دقيق وأعمق. كانت كذلك فرصة تأمل في التجربة السياسية، في أخطائها، في مزاياها وفي ما مثلت من مقاومة في تلك المرحلة، وربما الشيء الأساس بالنسبة إلي هو التحرر من أي منظومة أيديولوجية والعمل على بناء منظومة أخلاقية نابعة من قناعاتي واكتشافاتي ومن قراءاتي ومن تجربتي. تجربة صعبة الحديث عن السجن يقودنا إلى طرح سؤال آخر: هل شعرت أنك خرجت فعلاً من السجن يوم أطلق سراحك؟ - لا يمكن إنساناً عاش مثل هذه التجربة أن يخرج تماماً، فحتى في كتاباتي الأخيرة وبين قصيدة وأخرى يمكن أن يكون هناك نوع من الترميز الى حالة معينة عشتها في السجن. أكيد أنني تحررت في شكل كبير من قيود هذا السجن واكتشفت في أثناء السجن وبعده أن هناك سجوناً أخرى ليست فقط السجون المادية بجدرانها وصورها، لكن هناك السجون الذهنية والمعنوية التي نحن مسجونون فيها، وهي تتشكل من اللامبالاة مثلاً، ومن انعدام روح المسؤولية، ومن عدم اختيار موقف ما والبحث عن معنى للحياة في شكل عام ومعنى للحياة الخاصة... وهي سجون معنوية تنتج عدداً من الآفات الاجتماعية التي نعرفها جيداً كالتعصب والعنصرية... هل يمكن القول إن تلك التجربة الصعبة جعلتك أقرب إلى معاناة الشعب الفلسطيني الذي يعيش داخل سجن كبير، وأنت معروف في دفاعك عن القضية الفلسطينية؟ - أظن أن ولادة الوعي عندي، سواء كان سياسياً أم أخلاقياً، الوعي الأخلاقي كانت سابقة لتجربة السجن. فقد نشرت سنة 1970، في فرنسا، أول أنطولوجيا لشعر المقاومة الفلسطينية. كان لي اهتمام مبكر بالقضية الفلسطينية واستمر إلى الآن. وأشير إلى أنني، خلال مساري النضالي والإبداعي، لم أناصر فقط القضية الفلسطينية، بل أيضاً قضايا أخرى منها ما حدث في أميركا اللاتينية من مقاومة، وإذ استأثرت باهتمامي، انطلاقاً من البعد الأممي في ما يخص الواجب والتضامن والوقوف بجانب قضايا النضال من اجل التحرر. وإذ أشدد على هذا الموضوع، فإن القضية الفلسطينية كانت بالنسبة إلي بمثابة ولادة وعيي ومنطلقي لقضايا أخرى. هل أخافك الانتصار الكاسح لپ"حماس"في الانتخابات الفلسطينية؟ - لا يحل الخوف أي مشكلة بل يشل العزيمة، فهذه صيرورة الحياة وصيرورة الواقع السياسي. إذاً فالتعامل مع هذه النتيجة يقتضي نوعاً من العقلانية وليس التذمر والغضب أو الخوف. وتعتبر هذه حلقة من حلقات المآسي التي عاشها الشعب الفلسطيني ولا يزال. ليست لدينا مفاتيح لحل المشكلة الفلسطينية ويظل السؤال الأساس: كيف يستطيع الشعب أن يبني وطنه ويخرج من الكابوس المستمر الذي يعيش فيه منذ أكثر من نصف قرن؟ أظن أن للشعب الفلسطيني خبرة كبيرة وخزاناً في هذا المسار الطويل في التحرر. أنا بصراحة لست مطمئناً كل الاطمئنان. على رغم ذلك أشعر بنوع من الثقة في الشعب الفلسطيني لتجاوز ما يواجهه اليوم، تماماً كما فعل في الماضي. هو الذي واجه الكثير من المصاعب والمحن التي استهدفت وجوده كشعب في إمكانه أيضاً في هذه المرحلة الصعبة التي يعيشها أن يستدرك الأمور ويخرج من هذا الباب المسدود لأن"حماس"لا يمكن أن تمثل حلاً لمشكلات الشعب الفلسطيني. لك إبنة اسمها"قدس"، ألا تظنّ أنك من خلال هذه التسمية حمّلتها عبئاً ثقيلاً؟ - اختيار هذا الاسم كان رمزياً لي ولأمها ولكل العائلة، فلم يكن لأي منا - ونحن عائلة صغيرة من أربعة أفراد - أن يهرب من مسؤوليته. وإطلاق هذا الاسم هو نوع من اقتسام هذا العبء. فقد ولدت ابنتي"قدس"بعد ثمانية أشهر من دخولي السجن، وهو وإن كان عبئاً فهو عبء مشترك. والذي يشرح الصدر أن هذه المرأة، وهي اليوم في الثالثة والثلاثين من العمر، تحمل هذا الاسم بشهامة وبنوع من التحدي. في كتاباتك رسالة وهاجس، تلاحم الذاتي والموضوعي... هل تشعر أنك حين تتكلم على نتاجك الشعري تتكلم لشعبك أم أنك تتكلم نيابة عنه وباسمه؟ - لا يفكر الشاعر، عندما يكتب، في جمهور محدد. وهو يكتب وكأنه يتوجه إلى الآخر، إلى البشرية جمعاء، فربما قد يكون هذا نوعاً من العجرفة. لكن في أعماق نفسي حين أكتب أتوجه إلى ما أسميه"السماء الإنسانية"، كأن الكتابة نوع من الصلاة أو من الدعاء يتوجه إلى هذه السماء. بالطبع، للشروط الموضوعية والاجتماعية والسياسية التي يعيش فيها الكاتب تأثير في نتاجه، وهناك بعض التفاصيل في القصيدة أو في الرواية قد لا يفهمها في شكل دقيق وتام إلا المغربي مثلاً، لكن على العموم فالرسالة ليست رسالة إثنية. وهذا ما يعطي قوة للإبداع. ننطلق دائماً من رقعة ضيقة محلية نحو الكوني، مما يمنح القصيدة عمقها الإنساني. ماذا نريد أن نثبت من خلال كتاباتنا؟ ان الإنسان المغربي أو الجزائري أو الإفريقي مثلاً قادر على أن يوصل رسالة شعبه الإنسانية إلى البشر جميعاً. هذا هو الرهان والتحدي الحقيقي. رواية الذاكرة صدرت لك العام الماضي رواية بعنوان"قعر الجرة"عن دار"غاليمار"في باريس، وهي رواية تستند إلى الذاكرة والسيرة، ما الذي تقوله في الرواية مما لا تستطيع قوله شعراً؟ - الرواية معمار مختلف عن معمار القصيدة، وأنا ككاتب لدي هاجس مستمر، ربما بحكم أنني كنت سجيناً في مرحلة سابقة، ولكن لا أريد أن أسجن نفسي كذلك في جنس أدبي محدد. أعتبر أن الأدب حقل شاسع تم اكتشافه من طرف السابقين والمعاصرين، ولكن من حق أي كاتب في اللحظة التي يعيش فيها أن يعيد اكتشاف هذه القارة. أنا لا أقبل بالحلول أو الأسوار الاجتماعية التي توضع ما بين الأجناس الأدبية. من ضمن هواجسي ككاتب فك الحصار على الجنس الأدبي المحدد وتأمين جسور ما بين جنسين أو ثلاثة، وهي من خصوصياتي ككاتب وأنا لست من الكتاب المنضبطين. في الثمانينات، بعد خروجك من السجن، جئت إلى فرنسا ولا تزال فيها حتى الآن، وتعود من حين إلى آخر إلى المغرب، أين أنت اليوم بين البلدين؟ وهل من مشروع للعودة إلى بلاد طفولتك؟ - أنا في ما أسميه"الپ"ما بين". هي قصة طويلة. عشت تحولات عدة تمتد من سنة خروجي من المغرب عام 1985 إلى الآن، وشيئاً فشيئاً أحسست أن المنفى ليس تلك الكارثة الحتمية. يمكن الإنسان أن يطور وضع المنفى ويحوله إلى خزان إبداعي، وأن يبني علاقة مغايرة تماماً مع الوطن. فعندما نعيش داخل البلد الأصلي تكون العلاقة الحميمية محددة، لكن عندما نعيش بعيداً من الوطن، خارجه، فالعلاقة تختلف وتبنى من جديد على أسس أكثر موضوعية. نحن كشعوب مقهورة وتعيش مشكلات متعددة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ننظر إلى أنفسنا فقط بأننا ضحايا، لكن لا نحاول أن نتبين الأسباب الأخرى لهذه المآسي، أي الأسباب الذاتية. ما هي مسؤوليتنا الخاصة في الوضع الذي نعيشه؟ هذا يتطلب غربلة الواقع بما فيه الواقع الثقافي والفكري. إذاً مع البعد يمكن الإنسان أن يبني علاقة مغايرة، علاقة موضوعية، وينظر إلى شعبه ووطنه في شكل أكثر عدالة وأكثر موضوعية. هذه مزية. والمزية الأخرى تكمن في واجب المنفى. وأظن أنه بالنسبة الى أي مبدع هنالك نوع من الواجب في مرحلة معينة من تطور عمله وصيرورته وهو أن يبتعد. ربما لا يستطيع الجميع تحقيق ذلك، لكن على المبدع أن يأخذ مسافة بينه وبين وطنه. نطرح دائماً مسألة الانتماء. لماذا لا نطرح مسألة"اللاإنتماء"كما حصل لأدباء ومفكرين آخرين. هذه الحرية، بمعنى ما، ليست رهينة واقع معين حتى ولو كانت علاقتي بهذا الواقع علاقة قوية وأخلاقية ونضالية الخ... لكن لا أقبل أن أكون حبيساً لهذا الواقع، لأن العيش في وطن كبير كهذه البسيطة هو اكتشاف لوطن أكبر. وهل من مشروع للعودة؟ - أنا لست بحاجة الى العودة، وصراحة أفضل البقاء في ال"ما بين"، لأنه يمدني بحرية أكبر، وهاجسي مرضي بالحرية، أي أن تكون إنساناً حراً في تفكيرك وإبداعك من أي سلطة تملي عليك ما تكتب. هذا شيء أساس بالنسبة الى المثقف العربي أكثر من أي مثقف آخر. عندنا، في الكثير من البلدان العربية، العلاقة مطروحة بين السلطة والمثقف، حتى كبار شعرائنا في العهد الكلاسيكي، وعلى رغم عظمتهم، كانوا إلى حد ما مرتزقة. كانوا يكتبون تحت الطلب. وهذه العلاقة في تبعية الثقافة للسياسة كانت هي القاعدة. وأنا أظن ان ليس هناك من حداثة شعرية أو فكرية إذا لم يقطع هذا الحبل السري الذي يربط المثقف بالسلطة. وهذا في اعتقادي ما يؤسس للحداثة وليس لنوع من البلاغة اللغوية الجديدة التي تعتبر لب الحداثة. وهي فكرة أشدد عليها لأننا بحاجة في أوطاننا إلى نساء ورجال أحرار فعلاً ويفكرون من تلقاء أنفسهم وليس بأمر أو بانضباط وضمن هيئة سياسية أو إيديولوجية أو فكرية. الهامش الباريسي ما الذي منحتك إياه باريس ولا تجده في أي عاصمة عربية؟ - الأكيد أنها منحتني هامشاً جميلاً للاعتكاف. ربما هي المفارقة لأن في باريس إغراءات كثيرة، لكنها منحتني شخصياً الفرصة لكي أنكب على مشروع معين، وهو ما يعطي نوعاً من الصفاء الذي لا نجده عندنا في أوطاننا الأصلية، لأن الإنسان المثقف والمعروف هناك يكون تحت الضغط، كضغط العلاقات الاجتماعية، وضغط الطلبات المتعددة الخ... بينما هنا يوجد هامش من الاعتكاف. بالطبع تمنح باريس أشياء أخرى، فعندما نعاين مثلاً أوضاع النشر في بلداننا الأصلية نجدها عائقاً لتطور العمل، لكن نجد في باريس فرصاً مختلفة واهتماماً آخر. هناك على سبيل المثال اهتمام القارئ الفرنسي بما نكتب، وهو ليس الاهتمام نفسه الموجود عندنا في المغرب أو الجزائر، ذلك أن نوعيته مختلفة. فالناس يحكمون على النص ولا يحكمون على النيات. المشكلة في أوطاننا، أننا حين نقرأ الشعراء، حتى الشعراء المعروفين والمحترمين، نقرأهم بخلفية ونصنفهم بحسب شبكة معينة من العلاقات. ولهذا وفي آخر المطاف لا نقرأ عمق النصوص، أو كيف اشتغل شاعر معين على اللغة وما هي اهتماماته الحقيقية. إنها مشكلة بالفعل. ولكن النقاش مطروح مثلاً في المغرب، وهو في رأيي إرث ناتج من الضغط الاجتماعي والاقتصادي الذي نعيشه في بلداننا. هل حدث أن عشت في باريس إحساساً بالمنفى؟ - بالطبع. في البداية كان المنفى مؤلماً. المنفى بالنسبة إلي كان اضطرارياً وليس اختيارياً. بعد خروجي من السجن لم يكن معي جواز سفر ولم أستطع أن أسترجع عملي في التدريس كما استمرت المضايقات في الهاتف والمراسلة. وحاولت مع أصدقاء إنشاء منابر ثقافية وفكرية فمنعت، فلم يكن لي خيار آخر غير الانصراف، وشيئاً فشيئاً حاولت أنسنة هذا الواقع الجديد في المنفى واكتشاف ما يمكن أن يمنحه لي من قدرات على الاستمرار في مواكبة عملي والقيام بوظيفتي كمثقف وكمبدع. المشهد الشعري هل أنت على صلة بالمشهد الشعري الفرنسي اليوم، وأين أنت منه؟ - أنا على صلة وثيقة وحميمية بهذا المشهد الأدبي الفرنسي بحيث أنتمي إلى أكاديمية مالارميه وهي لها وزن في فرنسا، ولي أصدقاء كثيرون من الشعراء بحكم وجودي في هذه الأكاديمية، وأتواصل مع معظم الإنتاج الشعري الذي يصدر خلال السنة، ولي به معرفة دقيقة. هنا أريد أن أؤكد أنني لم أشعر بالتمييز أو بالأحكام المسبقة بل المقياس الأساس هنا هو الكتابة وخصوصيتها. أذكر من الأصدقاء الشاعر الراحل غيلفيك وهو الذي استقبلني في الأكاديمية، جون روسلو الذي توفي أخيراً، ومن بين الأحياء أعرف الكثيرين ومنهم سيرج بي المعروف في الوطن العربي. نشرت العام الماضي عن دار"لاديفرانس"أيضاً أنطولوجيا للشعر المغربي أثارت جدلاً واسعاً، وسبق لك أن عرّفت القارئ الفرنسي ببعض الشعراء العرب كما ترجمت قصائد لمحمود درويش، كيف تفسر اهتمامك بهؤلاء الشعراء العرب؟ هل هو جزء من التزامك بالعالم العربي وقضاياه المحقة، أم هو نابع من إحساس جمالي فحسب؟ - هو عمل نضالي ونوع من محاربة النرجسية لدي. في عاداتنا الثقافية في العالم العربي لا أحد يهتم بأحد، وكل واحد منكب على عمله وخدمة سمعته. الشعر عطاء قبل كل شيْ، وإذا كنت شاعراً فكيف لا تمارس شعريتك مع الآخرين ومع الأقربين؟ بالإضافة إلى كل ذلك، فإن الحقل الشعري العربي المعاصر غني وغير معروف بالشكل المطلوب خارج الوطن العربي وبخاصة في فرنسا، وأنا من مجموعة قليلة ممن حاولوا تعريف القارئ الفرنسي بالشعر العربي المعاصر، خصوصاً أن الاهتمام هنا منكب منذ الثمانينات على الرواية العربية وليس على الشعر العربي. ونحن نعرف، إذا كنا موضوعيين وعندما نتأمل المشهد الأدبي العربي، أن الشعر يحتل في هذا الحقل موقعاً أساسياً، وهو الرسالة الأدبية ربما الأقوى التي يمكن أن نوجهها إلى الآخر. وطبعاً لا أريد أن أقول إن الرواية العربية لم تتطور وأن ليس هناك روايات مهمة جداً، لكن في اعتقادي المتواضع أن الشعر يبقى هو العمود الفقري للإبداعية الأدبية العربية، وبالتالي كان من الضروري أن أولي الاهتمام بالشعر المعاصر. هل من كلمة أخيرة؟ - ليس لي كلمة أخيرة. أكرر كما قلت في إحدى القصائد:je suis ˆ peine nژ ˆ la parole فبعد أكثر من ثلاثين كتاباً، أنا دائماً وليد جديد، وذلك لسبب بسيط هو أنني أعتبر أن الإنسان مشروع مستمر وليس إنجازاً. أنا متوجه دائماً نحو الأفق لأن لدي هاجس دائم في إعادة النظر في ما أنجز والاستمرار في المغامرة. لا أفق محدداً للمغامرة. إنها هدف في حد ذاته. سيرة وأعمال ولد عبداللطيف اللعبي في مدينة فاس عام 1942. حصل على الاجازة في الأدب الفرنسي عام 1964 من كلية الآداب والعلوم الانسانية في الرباط، عمل مدرساً في التعليم الثانوي في الرباط . أشرف على ادارة مجلة"أنفاس"التي أسسها عام 1966 وكذلك منشورات"أطلانط". في 1968 أسس مع ابراهام السرفاتي"جمعية البحث الثقافي". اعتقل في آذار مارس 1972 لمدة تزيد على ثماني سنوات ولم يطلق سراحه الا في 8 تموز يوليو 1980. سافر الى فرنسا. ومن جامعة بودرو حصل على شهادة الدروس المعمقة 1985. عاد الى المغرب بغية تجديد الاقامة، لكن خيبته كانت كبيرة، فرحل ثانية الى فرنسا. جمع عبداللطيف اللعبي بين أنواع أدبية مختلفة مثل: الشعر، الرواية، المسرح، الترجمة، والكتابة للأطفال. له حضوره المتميز في المشهد الثقافي المغربي والعربي، الى جانب حضوره على المستوى الفرنسي الدولي. يكتب عبداللطيف اللعبي باللغة الفرنسية. من أعماله الشعرية: سلالة 1974، أزهرت شجرة الحديد 1974، عهد البربرية 1980، قصة مصلوبي الأمل السبعة 1980، خطاب فوق الهضبة العربية 1985، جميع التمزقات 1990، الشمس تحتضر 1992، احتضان العالم 1993، شجون الدار البيضاء 1996، مقاطع من تكوين منسي 1998. ترجم الى الفرنسية عدداً من الأعمال الشعرية والروائية المغربية والعربية اضافة الى اعداده انطولوجيات شعرية، منها أنطولوجيا المقاومة الفلسطينية، ومن الشعراء والكتّاب الذين ترجم لهم: محمود درويش، عبدالوهاب البياتي، حنا مينة، سميح القاسم، حسن حمدان، غسان كنفاني، محمود الماغوط. ومن أعماله الروائية: العين والليل 1969، طريق المحاكمات 1982، تجاعيد الأسد 1989. ومن مسرحياته: قاضي الظل 1994، تمارين على التسامح 1993. قصائد مختصر الأبدية سأشعل في الطوف شمعة عسلية وابتدع صلاتي وسأدع للموجة الملهمة همّ تشييد هيكلها وسكسو بمشلحي السمكة الأولى التي ستفرك جسمها بمجذافيَّ هكذا أمضي عبر الليل والبحر بلا قوت ولا نوارس مع قطعة شمع عسليّ وذرّة صلاة هكذا أمضي بوجهي منوّراً وسأقول لنفسي يا نصف انسان، ابتهج ستحيا، إن لم تكن حييت، مختصر الأبدية. لغة أمي لم أر أمي منذ عشرين سنة تركت نفسها تموت جوعاً يروى أنها كانت تخلع منديلها كلّ صباح وتضرب به الأرض سبع مرات داعية على السماء والطاغية كنت في الكهف هناك حيث المحكوم بالأشغال الشاقة يقرأ في الظلال ويرسم على الجدران كتاب الحيوان ساعتان في القطار خلال ساعتين في القطار أعيد شريط حياتي دقيقتين في السنة كمعدّل وسط نصف ساعة للطفولة نصف ساعة للسجن الحب، الكتب والتشرد تتقاسم البقية يد رفيقتي تذوب بهدوء في يدي رأسها على كتفي بخفة يمامة عند وصولنا أصبح في الخمسين ويبقى لي لأعيش قرابة ساعة. عبثاً أهاجر أهاجر عبثاً في كل مدينة أرى المقهى نفسه وانقاد للوجه الكالح للنادل ضحكات الجالسين قربي تثقب موسيقى المساء تعبر امرأة للمرة الأخيرة. عبثاً أهاجر وأتأكد من بعادي في كل سماء أجد هلالاً والصمت المعاند للنجوم أحكي نائماً مزيجاً من لغات وصرخات حيوانات مع الغرفة التي ولدت فيها. أهاجر عبثاً يفوتني سرّ العصافير كما سرّ هذا المحبّ الذي يتولّه بحقيبتي في كلّ مرحلة. أشياء صغيرة مقاطع رجل من الجنوب تزعجه شمس الشمال. * * شبعنا من المقارنة بين المدن والنساء * * النظرة تميت وتحيي. * * شاهَدَتِ الأرضُ بلداناً كثيرة إنها تسافر فينا من دون جواز سفر * * أي نصيحة يمكن أن يقدم الليل العاري من أي حكمة؟ * * تاه القطار كان يقلّ شاعراً * * تنام الكتب بعضها على بعض حالمة بزمن الغابات * * من اليمين الى اليسار تُكتب من اليسار الى اليمين اللغة المهاجرة تسمّى * * أجل إننا نتعب في أحيان حتى من شهواتنا * * البشر جميعاً يهوون ما يفاجئ لكنّ المشكلة انهم يعملون على تنظيمه * * الصمت ينحت الكلمات انه ذو ميل انتحاري.