العملية الاستشهادية التي نفذتها حركة الجهاد الاسلامي في العمق الاسرائيلي اول من امس كشفت بجلاء الاختلاف الجذري بين الرئاسة الفلسطينية، ورئاسة الوزارة، وقدمت للفلسطنيين والعالم صورة لاخطر الاحتمالات التي قد تفضي اليها العلاقة المتوترة بين حماس والسلطة من جهة، وبين حماس والعالم من جهة اخرى. فالرئيس محمود عباس دان العملية ووصفها ب"الحقيرة"في حين ان الناطق باسم الحكومة الفلسطينية غازي حمد، رأى ان الاحتلال يتحمل مسؤولية افعاله، مذكرا بأن موقف"حماس"من المتسبب في هذه العمليات لم يتغير، وان حماس في الحكومة كما كانت في المعارضة، مؤمنة بأن سياسة البطش الاسرائيلية هي التي تتحمل نتيجة ماجرى، كما ان تصريحه لم يتضمن أي اشارة او حتى محاولة لنصح الاطراف الفلسطينية بضبط النفس، ما يعني ان اعلان حماس استمرار تمسكها بالمقاومة ليس شعاراً للاستهلاك المحلي. فلو ان لدى حماس مجرد نية لبدء عملية التنازل عن موقفها من المقاومة لكان بإمكانها استثمار هذه العملية لهذ الغرض، ولن تجد من يلومها بسبب الظروف التي يعيشها الشعب الفلسطيني بسبب المقاطعة. لكن هذا لم يحدث. فحماس لاتزال تمارس العملية السياسية بآليات المقاومة، ومن الواضح انها على استعداد للسير في هذا الاتجاه لفترة طويلة قادمة. التباين الحاد بين موقفي الرئيس محمود عباس و"حماس"من عملية تل أبيب جرى استثماره دولياً ضد حكومة إسماعيل هنية وعلى نحو لافت. فللمرة الاولى يجري التركيز على سلسلة الادانات التي انطلقت من واشنطن حتى موسكو مروراً بالامم المتحدة وعواصم الاتحاد الاوروبي. لكن هذه الحماسة لرفض العملية"الانتحارية"لم يكن هدفها التحذير من العنف والتذكير بالعملية السياسية وخريطة الطريق، وجهود اللجنة الرباعية، وبقية عناوين التدليس السياسي الذي يمارس منذ أوسلو، بقدر ماكان وسيلة لفتح عيون العالم على"خطورة"استمرار حركة"حماس"في السلطة. فالعملية الأخيرة في نظر المنددين بها هي أول عملية استشهادية تتم بمباركة فلسطينية رسمية. فللمرة الأولى منذ قيام السلطة الفلسطينية يسمع العالم موقفاً فلسطينياً رسمياً محايداً، ان لم يكن مؤيداً تجاه العمليات الاستشهادية، والأمر عينه ينطبق على المواطن الفلسطيني الذي شعر هذه المرة ان العمليات الاستشهادية ليست مرفوضة رسمياً في شكل كامل، وان الانقسام حولها لم يعد حكراً على الشارع بل امتد الى الحكومة، فضلاً عن ان العمليات الاستشهادية التي كانت مجرد خروج على القانون في نظر حكومة السلطة وأجهزتها، اصبحت اليوم ورقة سياسية داخل أروقة هذه السلطة، ووسيلة للتفاوض مع إسرائيل. وهذا تحول جذري في العلاقة الجديدة بين إسرائيل والفلسطينيين. لكن رغم خطورة هذا التحول على مستقبل العملية السلمية، الا انه سيجد من يدعمه لدى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. لا شك في ان المقاطعة الدولية لحكومة"حماس"، وخطر المجاعة الذي اصبح يهدد الشعب الفلسطيني المحاصر في الضفة والقطاع، تدخلا بقوة لحمل الشعب الفلسطيني على معاودة النظر في العمليات الاستشهادية وجدواها، بل يمكن القول ان هذه المقاطعة قد تخلق واقعاً فلسطينياً يتمسك بالمقاومة بكل اساليبها. صحيح ان نسبة كبيرة من الشعب الفلسطيني انتخبت"حماس"ليس حباً بالمقاومة والبندقية، وانما كرهاً بفساد فتح ورجالها، لكن الاجماع الدولي على رفض خيار الشعب الفلسطيني بهذه الطريقة المتناقضة وغير الانسانية ربما دفع هذا الشعب الى انخراط جماعي في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، ورفض العملية السياسية من اساسها. الاكيد ان المقاطعة الدولية الجماعية، ومنع المساعدات عن الشعب الفلسطيني جاءا في مصلحة"حماس"، تماماً كما فعلت المقاطعة بنظام صدام حسين، الذي استطاع الصمود عشر سنوات، وتمكن من استثمارها وبقي قوياً برغم معاناة الشعب العراقي، ناهيك عن ان حكومة"حماس"التي يجري التنكيل بالشعب الفلسطيني بسببها هي حكومة منتخبة بشكل ديموقراطي، وتحكم في ظل احتلال يمارس أبشع أنواع الوحشية ضد مواطنين عزل. ولهذا فإن الحصار في ظروف كهذه سيزيد من التفاف الشعب الفلسطيني حولها، وربما جعل من عملية تل ابيب وسيلة لفك حصار المقاطعة، او انهيار هذا التحالف ضد"حماس"وتفككه. وسيكتشف المجتمع الدولي ان السياسة الاميركية التي فرضت هذا التوجه على العالم تزيد من العنف وتقلل فرص الامن والسلام، لانها سياسة عنصرية ومنحازة وتتنافى مع ابسط حقوق الانسان. بقيت الاشارة الى ان استمرار العمليات الاستشهادية التي تطال مدنيين لن يكون بعد اليوم مسؤولية اسرائيل وحدها، بل ستكون واشنطن شريكة أساسية في تكريس هذا العنف لانها تفرض المجاعة وتقطع يد السارق.