اصطدم الحوار بين اللبنانيين بعوائق لا تحصى. ليس اقلها سوء الانتماء المتبادل إلى وطن موحد. الوطن في عرف المتحاورين لم يكن مرة موحداً. ما يعتبر من البدائه عند طرف اول لا يصح على طرف آخر. اول ما يجب الانتباه له على هذا المستوى ان المتحاورين حققوا انجازاتهم الكبرى في ظل انقسام اهلي حاد، ورثه اللبنانيون من تاريخ الحرب الأهلية. هذه الإنجازات تمت وتكونت في ظل هذا الانقسام. والارجح ان اي خطة تهدف إلى بسط الدولة سلطتها على المناطق تفترض ان مثل هذه الخطة لا بد وان تأكل من صحون هذه القوى نفسها، ومن قدرتها على التحكم بالمنطقة التي اقامت فيها سلطتها وثبتت فيها سلطانها. بهذا المعنى ليس ممكناً ان يبدأ الحوار من افتراض ان ثمة بدائه مشتركة بين اللبنانيين. وان هذه البدائه يمكن ان تنتج تسوية يربح فيها الجميع معاً في ظل دولة جامعة. الغائب الأول عن طاولة الحوار كان سلطة الدولة نفسها. وفي اصل الدعوة إلى الحوار تم استثناء ممثلي سلطة الدولة عن تقرير مصير دولتهم. اجتمع المتحاورون بوصفهم اولاً، وقبل كل أمر آخر، الخارجين على سلطة الدولة والمستقويين عليها. ذلك ان سلطة الدولة التي تآكلت مديداً في ظل الحرب الأهلية، وفي امتدادها في زمن الهيمنة السورية على لبنان، لم تعد تمثل ما يفترض بها تمثيله. بل ان الانتخابات النيابية التي جرت في العام الماضي بعد خروج الجيش السوري من لبنان، كانت في عمق فحواها انقلاباً على منطق الدولة الجامعة. حيث لم تلبث ان ثبتت انقساماً اهلياً مفجعاً، جعل البلد على مستوى ممثليه في الندوة النيابية، ابعد ما يكون من احتمال ترتيب تسوية متوازنة بين اللبنانيين. ثبتت الانتخابات النيابية الاخيرة اصطفافات حاشدة، تسبق عادة نشوء الدول واقرار الدساتير والقوانين. هذه الاصطفافات المتشابكة من وجوه متعددة، جعلت التمثيل السياسي في الندوة البرلمانية قاصراً عن الإيفاء بمتطلبات سياسة عامة. فالإحتكام إلى التصويت في مثل الحال التي كان البلد منقسماً عليها، لا ينتج، طبعاً، اقراراً حاسماً من الخاسر بتولي الرابح زمام المسؤولية السياسية والتنفيذية. كان الانقسام، ولا يزال بعد عام من التجربة، انقساماً لا يمكن ان تغير فيه الانتخابات وعمليات التصويت شيئاً يذكر. لأن هذا الانقسام تغذى من رحم ما قبل دولتي. كان على الدوام وما زال يتغذى من الديموغرافيا الطوائفية، والانقسامات الحاسمة والنهائية التي تنتجها بديلاً عن الانقسامات الاجتماعية التي تذر قرنها في الأمم الحديثة عموماً. والحال، فإن خسارة اللوائح المسيحية بقيادة الجنرال عون في انتخابات الشمال وفي قضاء بعبدا من اعمال جبل لبنان، جعلت من الإجكام الخانق الذي يقبض به حزب الله وحليفه نبيه بري على عنق الطائفة الشيعية ايسر السبل للنجاح وتحقيق المرجو طائفياً ولفرض منطقهما على الآخرين، مما بدا ان الموارنة اللبنانيين قادرين على فرضه. والحق ان مشاريع الطوائف الأخرى في المقابل لم تستطع خرق الجدار الطائفي بالتدليل والسعي على مشروع مشترك بين اللبنانيين. وان كان تيار المستقبل بين هذه التيارات جميعاً هو التيار الوحيد الحاشد والذي يتصل على نحو ما بمشروع دولتي عام، بوصف هذا التيار ولأسباب تتعلق بتركيب عزوته الديموغرافي، يتضرر اشد الضرر من احتمال نشوب حرب أهلية جديدة، اكانت الحرب ساحنة ام باردة. نظراً لكون موارد الطائفة التي يمثلها تتركز في المدن اللبنانية الكبرى، وتجعل من امر الدفاع عنها، اي هذه الموارد، في حال الحرب الأهلية الباردة والساخنة، بالغة الصعوبة. اليوم يرى اهل 8 آذار في لبنان ان بعض انتصاراتهم في جولات الحوار وما نتج عنها يتصل اتصالاً وثيقاً بتطيير احتمالات النجاح في عقد مؤتمر بيروت 1، ويرون في الرفض السوري لترسيم الحدود بين البلدين معياراً لنجاحهم في فرض تطلعاتهم على الخصم السياسي. والحق ان هذين المطلبين، ورغم شدة التباسهما الطائفي، إلا انهما، يتصلان من وجوه كثيرة بمباني الدولة الجامعة. ويمكن القول ان مثل هذه المطالب، إذا ما تحققت تنبت للدولة الجامعة انياباً ومخالب هي في امس الحاجة إلى مثلها في مواجهة انياب الطوائف القاطعة والحادة. لا شك ان ثمة اختلاط والتباس يطاول طبيعة هذه الدولة، والقوى المهيمنة على مواردها في نهاية المطاف. فالطائفة السنية في لبنان، تبدو اليوم الطائفة الاقدر على التعايش مع سلطة دولة جامعة. ذلك ان موارد هذه الطائفة المتحصلة لها من توزيع ديموغرافي موروث من ايام السلطنة العثمانية، تزدهر وتقوى في ظل الدولة على حساب الطوائف الأخرى التي تبحث عن ادوار في ظل مثل هذه الدولة الجامعة فلا تجد لها منفذاً يوصلها إلى متنها. والحق ان المناقشات التي تدور على طاولة الحوار بالغة الدلالة على هذا الصعيد. فإن يكون نزع سلاح حزب الله او تنظيمه احد المواضيع الحارة على جدول اعمال طاولة الحوار، فذلك يعني ان موارد هذا الحزب وسلاحه توضع في خانة ما يتعارض مع سلطة الدولة الجامعة، بخلاف ما يبدو الأمر عليه في ما يتعلق بترسيم الحدود مع سورية او انجاح مؤتمر بيروت 1 وهذان المطلبان يبدوان، في نهاية الأمر، انجازاً سنياً بمعنى ما. على طاولة الحوار التي ستعاود الانعقاد في 28 نيسان الجاري، تختلف مواقع المتحاورين من حيث قدرتها على تحويل موارد من يمثلون موارد عامة. حزب الله مطالب بأن يثبت ان سلاحه يستطيع خدمة الدولة الجامعة، وميشال عون مطالب ان يثبت ان مصير الجمهورية اهم من عودته إلى قصر بعبدا رئيساً، اما تيار المستقبل فمطالب بأن ينجح في تأسيس الأمل بالمستقبل، اقتصادياً وسياسياً وعلى مستوى علاقات لبنان الدولية. وبين صناعة الامل بالمستقبل والاشتباه بتعطيله يكمن الفارق في القدرة والاهلية بين التطلع إلى انجاز التسوية التاريخية بين اللبنانيين، والتشبث بفدرالية المواقع والأدوار على حساب الدولة وقوة وسلامة مبانيها. * كاتب لبناني.