تقع رواية هدى بركات الأخيرة"سيدي وحبيبي"دار النهار - بيروت - 2005 في خانة ما يمكن تسميته برواية الحرب اللبنانية التي شكلت خلفية اجتماعية ونفسية وإنسانية للكثير من الروايات الصادرة في لبنان في العقود الثلاثة المنصرمة. فأي متتبع حقيقي لمسيرة الرواية اللبنانية لا بد من أن يلحظ الأثر البالغ للحرب في دفع هذه الرواية أشواطاً إلى الأمام. تقدم هدى بركات في رواية"سيدي وحبيبي"رؤية للحرب مختلفة عن تلك التي شهدناها في روايتها السابقة"حارث المياه"والتي حولتها الرومانسية المثخنة بالحنين إلى قصيدة في حب بيروت وإلى مناسبة نادرة لإقامة يوتوبيا أرضية متخيلة وسط ركام المباني ودخان الحرائق ونثار الأحلام. وإذا كان بطل الرواية السابقة قد حاول النجاة من التهلكة من طريق التحول الى روبنسون كروزو جديد والتحصن داخل جزيرة متخيلة تمنعه من الانزلاق إلى وهدة اليأس، فإن بطل الرواية الجديدة يعجز عن تحقيق ذلك ويفشل في العثور على معجزة ما تنقذه من الطوفان وترمي له حبل النجاة أو خشبة الخلاص، كأن السلم الهزيل والمخاتل الذي تمخضت عنه حروب اللبنانيين كان أكثر قسوة وإيلاماً من الحروب نفسها ليس فقط لأنه لم يتمخض عن أي مشروع جديد وتغييري، بل لأنه كان الوجه الآخر للحرب والتربة الملائمة لخروج شياطين الداخل من عقالها ولوصول التصدع إلى نهاياته. "سيدي وحبيبي"مكتوبة بلسان المذكر لا المؤنث حيث يروي البطل وديع فصولاً متعددة من سيرة حياته التي تبدأ بالطفولة والمراهقة وتنتهي في فترة الشباب المترافقة مع وصول الحرب اللبنانية إلى منعطفاتها الأكثر وحشية وضراوة وتحللاً من القيم، فيما تتكفل سامية، زوجة وديع المختفي في نهاية الرواية، تقديم إضافاتها على الأحداث. وإذا كان لذلك الأمر من دلالة فهي قدرة الإبداع على تجاوز ثنائية الذكورة والأنوثة الصافيتين باتجاه المناطق الإنسانية المشتركة التي تمكن الرجل من النطق بلسان المرأة والمرأة من التماهي مع الرجل في حالة الخلق، وهو ما تؤكده شواهد مختلفة في مجالي الرواية والشعر وغيرهما من المجالات. أما الدلالة الثانية التي يمكن استنباطها من الكتابة بلسان المذكر، فهي تتعلق بالمسافة التي تفصل بين المؤلف والراوي في نظام السرد حيث ان الأول فيما يتقمص الثاني يختفي تماماً ليترك له فرصة الحياة والنماء بمعزل عنه. وبمجرد أن يمسك الراوي بضمير المتكلم يصبح هو وحده المعني بشؤون حياته والممسك بزمامها ويصبح تغييب المؤلف أو محوه شرطاً أساسياً لاستقامة العمل الروائي. لكن اختيار هذه التقنية من جهة ثانية يمنع الراوي من أن يتحول إلى مشاهد"كلي القدرة"على حد"فارغاس يوسا"لأنه يصبح محكوماً بالزاوية الواحدة التي يرى الحياة من خلالها والتي تحجب عنه الكثير من الحقائق. لهذا كان لا بد لسامية، الراوي الرديف، من التدخل لكشف بعض الحقائق الخافية على وديع ولوضع لمسة الختام على الرواية بعد اختفاء هذا الأخير. تدمج بركات في روايتها بين الزمن التسلسلي للحدث وبين الزمن الاستعادي على طريقة الفلاش باك، وصولاً في النهاية إلى زمن ثالث يتولاه الراوي الآخر في غيبة الأول. فالرواية تبدأ بحديث بطل الرواية الغامض عن افتتانه برجل آخر تحول بالنسبة إليه إلى حبيب وسند وملاذ، مع ترك الهامش مفتوحاً أمام الإيحاءات الجنسية المترتبة على اعتراف كهذا أو أمام إيحاءات شبه صوفية تضع ذلك العشق في خانة المجاز والرمز:"أحببته حباً لا يوصف. ليس بسبب أني لا أحسن الوصف أو بسبب عدم قدرتي على الكلام والاستفاضة فيه حين يتعلق الأمر بي، بداخلي ومشاعري، بل لأن ذلك الحب يبقى غامضاً، لم أسمع أحداً يتحدث بمثله". سيكون على القارئ بالطبع أن ينتظر صفحات طويلة لكي يكتشف أن ذلك الرجل المقصود بالحب ليس سوى المدير الجديد للشركة التي يعمل فيها وديع في قبرص بعد هربه من حرب لبنان الضروس وبعد أن توفي المدير السابق الذي كان يبعث في قلب وديع الهلع والرعب. يعود الراوي وديع فجأة إلى زمن البدايات حيث نتعرف إلى الفتى المراهق والخجول الذي كان يجلس في مقدم الصف كما يفعل التلامذة الأسوياء والمهذبون تاركاً المقاعد الخلفية للتلامذة المشاكسين والفوضويين، نتعرف أيضاً إلى أيوب زميل وديع الفقير والموزع بين تهذيب وديع ومشاكسة التلامذة الآخرين. وإلى والد وديع الذي يعمل طباخاً لدى أحد الأثرياء ويحضر لزوجته المريضة وابنه الوحيد فتات الطعام الذي يتركه أسياده على مائدتهم. غير أن أحداثاً طارئة تدفع بوديع إلى الانتقال من موقع إلى موقع والبحث عن دور له خارج المدرسة والبيت ونظام القيم. فحين تقضي الأم نحبها بسبب الفقر وتحكّم الميليشيات التي تجعل من غسيل الكلى علاجاً مقتصراً على الأثرياء ودافعي الخوة، وحين يرى وديع بأم عينه الطريقة التي يعامل بها أبوه من جانب أسياده والقائمة على الاستعلاء والرغبة بالإذلال، وحين يتحول بعض تلامذة المدرسة إلى عصابة خطيرة تعمد إلى ملاحقته والتنكيل به، لا يجد البطل المراهق بداً من اعتماد الخيار الذي يرد عنه المهانة ويعيد إليه الإحساس بالكرامة ولو اقتضى الأمر ترك الدراسة والانضمام إلى عصابة من الشبان الأشقياء لا يلبث أن يترأسها بفعل طموحه وذكائه ورغبته في الانتقام لنفسه ولعائلته. شبان مراهقون يخلعون أسماءهم الأصلية ليتسمّوا بأسماء جديدة مثل روديو وهبك وشاكوش، ويلدون أنفسهم من موت الآخرين. لم ينخرط وديع وعصابته في الأحزاب والميليشيات المتناحرة، ولكن ما فعله لم يكن اقل دموية وشراسة حين اعتمد القتل والنهب والاتجار بالسلاح والمخدرات طريقاً للوصول إلى غايته. وهو في خضم الارتماء في ذلك العالم السوريالي لم يتردد في قتل خال زوجته، الذي حسبه عثرة في طريق طموحه، أو في الإيعاز بقتل رفيقه أيوب بعد أن شك في إخلاصه له. هذا الانقياد الأعمى لشهوتي السلطة والمال وللرغبة في الانتقام من الطفولة المبتورة وعقد النقص يوصل أسلوب الرواية إلى ذروته ويحوله إلى استبطان عميق وتقص نفسي لأحوال بطل الرواية وتداعياته وهو يهبط إلى قيعان الهلوسة... حين يختفي وديع عن مسرح الرواية ينقطع في الوقت ذاته عن مهمة السرد الذي تتولاه سامية هذه المرة متكفلة سد الفجوات غير المفهومة من الخاتمة. فسامية هي التي تخبرنا عن انقطاع حبل النجاة الذي توهمه وديع عبر شخصية المدير الجديد حين يرى بأم عينه مثالب من رأى فيه"سيده وحبيبه"وضعفه أمام صاحب الشركة، وسامية أيضاً هي التي تخبرنا عن خيانتها لوديع مع المدير الذي منحه زوجها كل ثقته وحبه وعن عملها الليلي في أحد البارات من أجل الإنفاق على بيتها الزوجي المتآكل. وهي إذ تتحدث عن اختفاء وديع تمتنع عن إعطاء سبب ثابت وأكيد لذلك الاختفاء واضعة إياه في مهب احتمالات كثيرة من بينها ذهابه للتسكع في باريس أو التواطؤ السري مع مديره"الشاذ"أو التحاقه بأيوب الذي نجا بأعجوبة من الموت، ولعل هذه النهاية المأسوية الملفعة بغموضها المحير تحيل قارئ"سيدي وحبيبي"إلى عدد من الروايات المماثلة التي تنتهي باختفاء البطل كحيلة رمزية ملائمة لاستنفار مخيلة القارئ ودفعه للمشاركة بإتمام الرواية على طريقته كما يحدث في رواية جبرا إبراهيم جبرا"البحث عن وليد مسعود"، على سبيل المثال لا الحصر.