تحرص هدى بركات في رواياتها، على أن يعانق السرد مسار حيوات أبطالها انطلاقاً من الطفولة والمراهقة، ومروراً بتلك العناصر التي تستعصي تسميتها لكنها هي التي تكوّن نقطة الارتكاز في تشكل الشخصية. غير ان السياق العام عقابيل الحرب وندوبها، الانقسامات الطائفية والفضاء الكوسموبوليت... يظل قائماً بمثابة خلفية تتفاعل مع سيرة الشخوص وما استبطنوه في مسارهم... في رواية"سيدي وحبيبي"، يستند السرد الى صوتين: واحد لوديع، الزوج الذي يحكي سيرته منذ الطفولة والمراهقة، والصوت الثاني لسامية الحبيبة والزوجة التي تفضي بملاحظاتها وتخميناتها بعد اختفاء وديع، فيأتي سردها المقتضب بمثابة تعديل وتشكيك في صدقية ما حكاه وديع. كان وديع تلميذاً مجتهداً، هنياً بصداقته مع أيوب الذي كان يعرف كيف يسعفه على تحقيق التوازن في حياته. وكان أبوه يعمل طباخاً عند معلم كبير، لكن وديع لم يكن يتعاطف مع أبيه، خصوصاً بعد أن ماتت الأم، ولأنه كان مسالماً وعادياً في سلوكه، فإن"زعران"الفصل كانوا يناوشونه ويسخرون منه. ذات يوم، قرر وديع أن ينقطع عن المدرسة وأن يعاشر شلة التلاميذ المنحرفين. وسرعان ما انتزع الزعامة من الروديو، وأصبح بارعاً في تجارة المخدرات وجمع المال، مخضعاً الروديو لأوامره وتخطيطاته. هذا الانقلاب في حياته، جعله يتزوج من جارته الجميلة سامية، عشيقته سابقاً، وأجّر شقة في حي فخم، وترك أباه المريض في بيت العائلة القديم، وانقطعت علاقته بصديقه أيوب. عندما اكتشف وديع سلطة المال، وسحر القوة، انجر الى لذة قتل الآخرين استجابة لرغبة داخلية يعرف كيف يبررها:"بلى. بل. القتل من أجل القتل. هذه حمى تنتابني أحياناً كنوبة... ثم تهدأ... لست سفاحاً، لا يكون الرب سفاحاً حين يبيد البشر ويطهّر الخليقة. لا يكون الرب سفاحاً اذ يرسل الطوفانات ويفجّر البراكين ويبعث الزلازل تهز هذا العالم كشجرة أينعت ثمارها حتى الفساد الأخير"ص 91. لكن انتشاء وديع بقوته وسلطته لم يدم طويلاً، لأن الميليشيات والعصابات لم يعجبها صعود وديع فهددته، واضطر الى الهرب صحبة سامية والروديو ليستقر في قبرص تاركاً الأموال التي جمعها في بيت العائلة. في قبرص، غاص في الاكتئاب والشرود وأصبح عازفاً عن كل شيء. رحل الروديو الى المانيا، وجاءت أخبار عن قتل أيوب في بيروت. لكن سامية ظلت ساهرة عليه، تعمل خفيةً في أحد الكباريهات لتعوله. واقترح عليها"هبَّك"، أحد أصدقاء وديع القدامى أن تقنع زوجها ليلتحق بشركة يملكها أحد أقاربه. أثناء عمل وديع في تلك الشركة، انجذب الى المعلم طارق واستعاد مذاق الحياة وأصبح يمارس السلطة من خلاله الى ان اختفى ذات يوم... يتوقف وديع عن السرد ويأتي صوت سامية مختصراً 15 صفحة، حاملاً عناصر أغفلها الزوج الذي اختفى من دون أن يُخطر أحداً. نعرف اذاً، انها خلال عملها في الكباريه، كانت لها علاقة مع ضابط من الاستخبارات الليبية وأيضاً مع مدير الشركة طارق. وتخبرنا أن"هبَّك"حكى لها أن وديع كان متورطاً في توقيع فواتير الأسلحة المرسلة الى الميليشيات وأنه تخاصم مع طارق قبل أن يختفي... ويحكي لها الضابط الليبي أن وديع كان على صلة بجاسوس اسرائيلي وهو الذي سفّره الى اسرائيل... تتعدد احتمالات مصير وديع، وسرعان ما يغمرنا الشك في صحة ما حكاه لنا وديع قبل ذلك. الالتباس والتشكيك كانت بداية"الصعود"بالنسبة الى وديع مقترنة بالتباعد عن مناخ الطفولة والمراهقة ومسراتها في ظلال صداقته مع أيوب، وبالانغمار في عالم الكبار المرتكز على قيم العنف والسلطة المغتصبة والاحتيال وبيع النفس. ولم يكن صعوده ونجاحه سوى ومضةٍ أطفأتها أشباح العصابات والميليشيات بصفتها الأقوى. يرتد"الوديع"اذاًَ، الى الكآبة والانحدار قبل أن يخايله حلم استئناف الحياة من خلال افتتانه بالمدير الجديد للشركة الذي أحس أنه يشبهه ويذكره بأيام صعوده، فأخلص في حبه وخدمته، وعاود التلذذ بطعم السلطة من خلاله. ما بين طفولة وديع ومراهقته، وما آل اليه أمره في قبرص بعيداً من بلده، تبدو حياته وحياة زوجته مفتوحتين على كل الاحتمالات وشتى الدلالات. لكن، من يحدد فعلاً، مسار حياتنا؟ ذلك هو السؤال الذي يفتح باب التأويل واعادة التخييل أمامنا ونحن نقرأ"سيدي وحبيبي"ونستوعب حكاياتها وسردها الحيوي ولغتها الرشيقة الموحية. ويسعفنا التركيب الفني للرواية في فتح باب احتمالات التأويل، وملاحقة تخمينات النهاية المفتوحة التي تجعل مصير وديع منفتحاً على أكثر من مآلٍ، بدلاً من أن نحسه منتهياً، منغلقاً كما هو الشأن في واقع حياة الناس. ولا شك في أن اعتماد هدى بركات استراتيجية الالتباس والتشكيك في صدقية المحكي، ومعارضة الحدث بنقيضه، قد"حرر"سيرة وديع وسامية من اطار"رواية العائلة"، ونقلها الى مستوى أرحب. لقد انطلقت"سيدي وحبيبي"من سيرة رجل وامرأة جد محتملة اذا ما ربطناها بخلفية أوضاع المجتمع اللبناني بفسيفسائه وحروبه الدائمة وما تخلفه من جراحات وندوب... الا اننا سرعان ما نحس أن النص يتعدى سياق استيحائه، ليضعنا أمام حالة انسانية يمكن أن تنطبق على أناس كثيرين في أصقاع مختلفة، ضمن سياق الاستلاب والعنف واصطناع الطريق القصير الى الثروة والسلطة. ان عنصر الالتباس في بناء الرواية يفتح باب الاحتمالات، ويبرز هشاشة الهوية، ويشكك في السلوك الظاهر. كل واحد يمكن أن يكون مثل وديع وسامية داخل الوطن أو خارجه تحت وطأة الاستمرار في العيش والتحايل على القيم. من هذا المنظور، يعلو وديع وسامية على سياقهما ليرتقيا الى أفق بشري تتباين تفاصيله، لكنها تلتقي عند أسئلة مشتركة تخص الذات وعلائقها بالآخرين وبالعالم والقيم التي اختزنتها ذاكرة الطفولة والمراهقة. ان ما يحكيه وديع عن مساره، من تلميذ مجتهد الى أن أصبح محتالاً لا يتورع عن القتل، ثم مهاجراً يعمل في شركة مشبوهة، هو خط مألوف داخل مجتمعات يشملها التفاوت واهتزاز القيم وسيادة العنف... الا ان هذا المسار يضطرب وينتقل من"المألوف"الى التخييلي عندما يأتينا صوت سامية كاشفاً القناع عن زوايا اهملها صوت وديع السارد في الجزء الأكبر من الرواية. ينفرط عقد خطاب وديع ويمتلئ فجأة بالثقوب: هل كان حقاً"تائباً"، متشبثاً بأذيال طارق المدير الجديد بعد أن أمثله وأضفى عليه أفضل الصفات؟ أم أنه شريك، ضالع في صفقات المدير وسرقاته؟ هل كان يعلم أن زوجته تعمل في الكباريه وتمارس العمارة وآثر ألا يحكي ذلك؟ ما تسرده سامية، على رغم قصره، يضيء الجوانب التي تحاشى وديع رؤيتها أو الاعتراف بها. لم تكن سامية تخجل من أن تتعهر لتعول سيدها وحبيبها، وأن تواجه حالة الانحدار بواقعية وتلقائية. لكنها، وهي تفقد قيمة نفسها، تصر على التشبث بوهم الكلمات التي تعوضها عن خواء النفس وابتذالها. لقد اكتشفت حقيقة زوجها عندما رحلا الى قبرص، فعرفت انه كان مجرد"لاعب صغير ومنفرد، في هامش الهامش"، ومع ذلك استمرت في اقناع نفسها بأنها تحبه:"من أجله هو، رفيقي، زوجي، سيّدي وحبيبي"ص 191. على هذا النحو، يتساوى كل من وديع وسامية في مواجهة التدهور وفقدان القيمة: مسيرتهما نقلتهما من الحب ورفاهية العيش الى المنفى والمتاجرة بالجسد وخدمة الكبار... لكن كلاً منهما يحاول التحصن وراء كلمات توهمهما بأن قيمة"الحب"لا تزال قائمة. هو وجد في طارق ما يشخص ذلك الحب:"سيدي ومعلمي وحبيبي، كان مدير الشركة الجديدة"ص 157، وهي ظلت تردد أن وديع، حتى بعد اختفائه، هو سيدها وحببيها! تلك هي المأساة الساخرة من وضع بشري يشمل الكثيرين: أن تتهاوى القيم، ويعم الاستلاب، ويربح المرء العالم ليخسر نفسه، ومع ذلك يلتمس العزاء في كلمات لا يتطابق معناها مع واقع الحال. يعزّ عليه الاعتراف بأنه تحول وأنه انهزم في اختبار الحياة. كأنما ضريبة الاستمرار في العيش تقتضي الكذب الصّراح من خلال اللجوء الى كلمات خاوية تمنح وهماً باستعادة صفاء الطفولة ودفء الصداقة. عندما تنتهي صفحات رواية"سيدي وحبيبي"، لا يكون القارئ قد استقرَّ على نهاية لوديع الذي استدرجنا ليقص علينا مغامرته الحياتية فيما هو يحاول فهم ما عاشه. الا ان هذه النهاية السديمية تحرك المخيلة نحو الاسهام في استيعاب هذه التجربة الملامسة لأسئلةٍ وجودية:"لا ينتبه المرء في ضجيج وفوضى الأيام المتعاقبة، في انتظامها وخللها، الى ما يصيبه من تغيير ... حروف مدلوقة على الورق تقع في كلمات أو لا تقع. في جمل تقرأ أو لا تقرأ. ليس الأمر كذلك. لكن حياة المرء تكتسي المعنى في غفلة منه. وقد يغفل عن معنى حياته طيلة عمره". ذلك المعنى المنفلت باستمرار، هو ما يعيدنا بعد قراءة"سيدي وحبيبي"، الى التساؤل عن معنى حياتنا، عن مغامرة العيش المتأرجحة بين سمو النيات والتطلعات، وخشونة اليومي المكرور، المحفوف بالتفاهة والخيبات... كأنما كتب علينا أن نظل موزعين بين جاذبية الكلمات المؤمثلة لحياتنا ونثرية المعيش التي تقص أجنحتنا.