الخامس والعشرون من كانون الثاني يناير 2006 سيكون يوماً مشهوداً في تاريخ القضية الفلسطينية، بعدما أفرزت الانتخابات التشريعية واقعاً جديداً تدين فيه السلطة لسيطرة حركة المقاومة الإسلامية حماس التي حققت فوزاً ساحقاً، بدا مفاجئاً لكثيرين حتى داخل الحركة نفسها. ويمكن تحديد ملامح"العهد الجديد"على الساحة الفلسطينية وسماته الرئيسة على النحو الآتي: أولاً، انتهاء سيطرة حركة"فتح"على مقاليد القيادة الفلسطينية التي استمرت اربعة عقود تقريباً. وعلى رغم ان التصويت كان في جزء جوهري منه لمصلحة برنامج آخر، إلا ان ثمة عقاباً واضحاً ل"فتح"على سياساتها في المرحلة السابقة بكل سلبياتها وعثراتها، بدءاً من اتفاق اوسلو وانتهاء بالفوضى والفلتان الأمني مروراً بالفساد المالي والإداري والمحسوبية وهدر المال العام التي لم تؤثر فقط في صورة الحركة ومناقبيتها، وإنما ايضاً في صورة الشعب الفلسطيني كشعب قادر على حكم نفسه بنفسه ضمن الأطر والقوانين الإدارية والديموقراطية السليمة. وعموماً يمكن ان يشهد العهد الجديد اعادة بناء لحركة"فتح"وفق الظروف والمعطيات الجديدة وإعادة الحياة الى مؤسساتها وأطرها القيادية المختلفة. ثانياً، الفوز الساحق ل"حماس"والذي يدشن العهد الجديد للقضية الفلسطينية يعني حكماً، وفقاً للروح الديموقراطية، الموافقة على البرنامج الانتخابي للحركة الذي حمل عنوان"الإصلاح والتغيير"وغلب عليه الطابع الداخلي، مع حديث عام عن المقاومة كأساس للمشروع الوطني الفلسطيني. غير ان"حماس"ستكون مطالبة بجلاء الحقائق في ما يتعلق بكيفية المواءمة بين الإصلاح والمقاومة، وكيف يمكن تكريس مقولة ان الإصلاح جزء من المقاومة الشاملة التي ستتبعها الحركة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. كما ستكون"حماس"مطالبة بتوضيح مشروعها السياسي العام والإجابة عن الأسئلة الخاصة بعملية التسوية والمفاوضات مع اسرائيل وجناحها العسكري وعمليات المقاومة وما الى ذلك من جزئيات الواقع المعقد على الساحة الفلسطينية، علماً ان هذه الإجابات سترسم في شكل كبير معالم"العهد الجديد"وستكون لها تداعيات كبيرة محلية وإقليمية ودولية. ثالثاً، يرتب الفوز على"حماس"ايضاً توضيح موقفها من منظمة التحرير كمرجعية عليا للشعب الفلسطيني تشكل الإطار الوطني المعبر عن هذا الشعب بكل تلاوينه السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بقاع وجوده المختلفة. اذ ان هذه المسألة التي لم تحتل حيزاً مركزياً في الخطاب الانتخابي والسياسي للحركة، قد تمثل حلاً لاخراج"حماس"من"ورطة السلطة"عبر إعادة هذه السلطة الى مهمتها الأصلية في الإشراف على مناحي الحياة المختلفة للفلسطينيين في الداخل من تعليم وصحة ورفاه وما الى ذلك، فيما تتولى منظمة التحرير الملفات الاستراتيجية والحساسة وتجتهد للتوصل الى رؤية فلسطينية مشتركة وموحدة تجاه تلك الملفات الشائكة. رابعاً، تشير نتيجة الانتخابات الى ان"العهد الجديد"سيكون احادياً ايضاً، بمعنى انها، نظرياً، تعطي"حماس"الحق في ادارة الوضع الفلسطيني وحدها، فهل تقع الحركة في خطأ الانفراد بالسلطة والقرار؟ والأهم من ذلك ومع ان ثمة سؤالاً ينبغي ان يطرح بكل شفافية: من يتحمل مسؤولية العجز عن تقديم خيارات اخرى للشعب الفلسطيني تتجاوز ثنائية"حماس"-"فتح"، ولماذا هذا السقوط المدوي للفصائل اليسارية والديموقراطية ولبعض منابر المجتمع المدني ومؤسساته؟ خامساً، قضت تجربة الانتخابات نهائياً على النظام الانتخابي الحالي الذي يتبع المناصفة بين الدوائر النسبية والجغرافية، وهو النظام الذي كان نتيجة أطماع فئوية وشخصية لبعض نواب المجلس التشريعي السابق ونتيجة الانقسامات"الفتحاوية"العميقة التي حالت دون اتباع الن`ظام النسبي بالكامل ما ارتد سلباً على"فتح"في الدرجة الأولى، ولو اعتمدت النسبية بالكامل لكان يمكن الحديث عن فارق بسيط في المقاعد بين"حماس"و"فتح"لا يتعدى خمس او ست مقاعد لمصلحة الأولى. ومن المرجح ان تحتل المطالبة بالنظام النسبي الكامل مكاناً مهماً في جدول الاعمال الفلسطيني للفترة المقبلة، ول"حماس"مصلحة في عدم معارضة هذا النظام لأسباب وطنية واستراتيجية وحتى فئوية لها علاقة بتوزيع الأعباء ومواجهة التحديات في شكل جماعي ووفق اصطفاف وطني واسع. سادساً، على رغم كل المعطيات السابقة ينبغي عدم تجاهل ان الانتخابات جرت في الداخل الفلسطيني وبمشاركة الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، فيما لم يتمكن فلسطينيو الشتات الذين يشكلون 60 في المئة من الشعب الفلسطيني تقريباً المشاركة او التصويت، وهذا الأمر يستلزم البحث عن الآليات الكفيلة بإتاحة الفرصة لهؤلاء للتعبير عن إرادتهم السياسية والحزبية. وما جرى في الداخل يظل ناقصاً طالما لم يعد بناء الجسر بين الداخل والخارج الفلسطينيين. وهذا الأمر يتحقق - كما نص اتفاق القاهرة - عبر اعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني مناصفة بين الداخل والخارج على ان يتولى المجلس اختيار لجنة تنفيذية جديدة لمنظمة التحرير مع الأخذ في الاعتبار المزاج الشعبي وموازين القوى. سابعاً، شكلت نتيجة الانتخابات صدمة في المحيط الإقليمي والدولي، ولكن يمكن القول ان هذه الأوساط ستحاول التعايش مع الواقع الجديد من زاوية التأثير عليه وضمان عدم تحوله رافعة لنهوض عربي وإسلامي في وجه السياسات والخطط الخارجية، خصوصاً الأميركية. كما يمكن القول ان العهد الفلسطيني الجديد يؤشر الى فشل ذريع لمشروع"الشرق الأوسط الكبير"ومحاولات اعادة تشكيل المنطقة وفق المصالح والتصورات الأميركية، وعليه ينبغي توقع محاولات دؤوبة لإخضاع التحولات الفلسطينية وضبطها وفق الإيقاع الأميركي الذي لا يمانع - نظرياً ومبدئياً - في وصول الإسلاميين الى السلطة شرط عدم تحولهم عائقاً امام"اللاسياسات"والمصالح الأميركية. ثامناً، رد الفعل الأبرز على نتيجة الانتخابات والذي يجب التمعن فيه هو الإسرائيلي لمعرفة كيف سيؤثر انتصار"حماس"على التوجه الاستراتيجي الإسرائيلي في الشهور الأخيرة والقاضي بتبني سياسات احادية ومحاولة رسم الحدود مع الكيان الفلسطيني من جانب واحد وفق ما تقتضيه المصالح الأمنية والاستراتيجية الإسرائيلية، وترقب كيف سيؤثر التطور الفلسطيني الأخير في السياسات الإسرائيلية وهل يؤدي ذلك الى مزيد من الخطوات الأحادية ام ان اسرائيل لن تحتمل سيطرة"حماس"على الأراضي الفلسطينية، بما يؤدي الى سلسلة من ردود الأفعال والتصرفات التي قد تصل حد الاحتلال المباشر لقطاع غزةوالضفة الغربية. وهذا يضيف سؤالاً آخر الى الأسئلة الكثيرة الصعبة المطلوب من"حماس"الإجابة عنها، وهو: كيف ستواجه الحركة السياسة الأحادية الإسرائيلية؟ وما هي معالم السياسة الأحادية الفلسطينية التي يجب اتباعها في المقابل لتحقيق اكبر قدر ممكن من المصالح الفلسطينية ولتحويل الخطوات الإسرائيلية مكاسب فلسطينية مع اقل قدر ممكن من الخسائر والأضرار؟ وواضح ان 25 كانون الثاني وضع إجابات لكثير من الأسئلة المتعلقة بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وملامحه وطبيعته في المستقبل المنظور. غير ان الواضح ايضاً ان ثمة قدراً كبيراً من الأسئلة وُضع ايضاً في هذا اليوم، والإجابات هي برسم حركة"حماس"وأدائها السياسي، وبرسم آلية التعاطي الفلسطيني والإقليمي والدولي مع"الزلزال الحماسي". * كاتب فلسطيني، مدير"مركز شرق المتوسط للخدمات الصحافية والإعلامية"في بيروت