منذ خمس سنوات اتيحت لي فرصة زيارة الصين، بدعوة من جمعية الصداقة مع الشعوب. وقد مكنتتي هذه الزيارة من الاطلاع على جوانب مختلفة من اوجه الحياة في الصين، وجميعة الصداقة مع الشعوب مهمتها العلاقة مع الشخصيات ذات التأثير في مجتمعاتها، ولها دوائر جغرافية بتعدد الاقاليم في العالم، والعاملون في الدوائر متخصصون في شؤون الاقاليم وثقافاتها ولغاتها واهتماماتها السياسية والاقتصادية والدول العربية بما فيها اقليم الشرق الاوسط. وتُعد للشخصيات المدعوة برامج تمكنها من التعرف على بعض جوانب الحياة في الصين وعلى سياساتها الاقتصادية والخارجية. ورغم مرور عدة سنوات على هذه الزيارة فإن ما اطلعت عليه من تقييم لأوضاع الصين بقي حياً في ذهني، ومنعكساً على متابعتي للتطورات في هذا البلد العملاق حجماً واقتصاداً، وربما في يوم قد لا يكون بعيداً، تأثيراً. وقد زرت منطقتين في الصين ذاتي دلالة على العمل الهادي ذي التأثير المستقبلي لها. الاولى ما سمي بشنغهاي الجديدة وهي منطقة يفصلها عن شنغهاي القديمة النهر، وكانت آنذاك تقام البنية التحتية لمدينة تجارية وصناعية كبرى فيها فروع قد تكون اكبر حجماً من الشركات الاساسية لمعظم، ان لم يكن كل، الشركات العالمية. اما المنطقة الاخرى فهي في مدينة يوهان التي تبعد ساعة ونصف الساعة بالطيران عن شنغهاي، وهي مدينة متخصصة في الصناعات التكنولوجية، وهي اشبه ما تكون بسيلكون فالي في الولاياتالمتحدة. اللافت للنظر ان الصين ليست منغمسة في السياسة الخارجية بل ان مواقفها لا تتناسب ومكانتها السياسية والاقتصادية. وهذا ما يجعلنا وغيرنا يتساءل: هل هذه سياسة ثابتة ام انها مرحلة يتم التركيز فيها على البناء الداخلي ايديولوجياً واقتصادياً؟ اني اميل الى ان الصين تعمل بهدوء وثقة على تطوير نظامها السياسي وبناء قوتها الاقتصادية. فبعد انهيار الشيوعية في الاتحاد السوفياتي وتساقط الانظمة الشيوعية كأوراق الخريف، كانت الانظار تتجه الى الصين، الدولة الشيوعية الكبرى في العالم، وكيف ستتعامل مع هذه التطورات. حينها كنت في الصين كما اشرت سابقاً وكان الحوار على اشده حول هذه القضية. وكان واضحاً ان الصين لن تسمح بتكرار تجربة الاتحاد السوفياتي وانها تدرك حقائق المرحلة، لكنها اختارت المنهج التدريجي في التغيير. ويعتمد الصينيون على الحِكم المعبرة عن ثقافاتهم واسلوب تعاملهم مع التطورات. فالزعيم الصيني ماوتسي تونغ يقول "تراجع، ثم استجمع قواك، لتعود وتقفز قفزة كبرى الى الامام تعوضك ما فات". فما بدا عام 1988 حين اجتاحت الدبابات ميدان تيانمن وكأن الصين قد حزمت امرها، واستمسكت بنهجها وانه لا تراجع، لم يكن كذلك، وانما كان تراجع لاستجماع القوى واسترداد الانفاس والقفز الى الامام قفزة تعوض ما فات. والتطور في الصين سار على محورين: الاصلاح السياسي المتدرج، والاصلاح الاقتصادي للبنية التحتية الاقتصادية. وانتقال السلطة الى جيتاو مؤخراً وبالصورة التي تم بها يشير الى منحى جديد في انتقال السلطة بصورة سلمية الى جيل الشباب. فجيتاو يبلغ من العمر 59 عاماً وهو في العرف الصيني من جيل الشباب. وصاحب اختياره حدث ذو دلالة ايديولوجية واقتصادية كبرى، وهو ادخال الرأسماليين الى الحزب. وبهذا يكون الحزب الشيوعي الصيني انهى مبدأ "الصراع الطبقي" ليدخل الرأسمالية كطرف في التنمية، ومثّل رجال الاعمال 20 في المئة من اعضاء الحزب. ويلاحظ تطور الطبقة المتوسطة التي يمثلها الرئيس الجديد خريج البوليتكنيك وابن تاجر شاي. اسلوب النفس الطويل الذي مارسته الصين لاستعادة هونغ كونغ، وتعاملها بالحكمة مع استفزاز تايوان مؤشر آخر على رباطة الجأش التي تتمتع بها السياسة الصينية ذات النظر البعيد. فالمعروف ان الصين انهت العلاقات البريطانية مع هونغ كونغ بما عرف آنذاك ببلد واحد ونظامين، ويكاد هذان النظامان ان يتوحدا الآن في اتجاهين: الاول، ادخال الرأسمالية في ايديولوجية الحزب الشيوعي، وتطوير الطبقة الرأسمالية في الصين الكبرى، والثاني اقامة مناطق تجارية وسكانية مفتوحة وقريبة جغرافياً من هونغ كونغ منافسة لها ومتوحدة معها لتندمج معها وتجعل منها جزءا من البلد الواحد والنظام الواحد. هل ستفاجئ الصين العالم بحضورها في السياسة الخارجية بعد حين، وفي قضايا بدا وكأنها لا تعطيها حجمها الطبيعي، مثل الغياب عن الانفراد الاميركي بالسيطرة على العالم؟ هل صمت الصين هو لاستجماع القوى والقفز من جديد قفزة تعوضها ما فات؟ حين دخلت الصين مجلس الامن بعد ابعاد تايوان ادخلت خياراً رابحاً في التصويت على القرارات هو خيار "الغياب". فقد ظلت تغيب عن التصويت فترة من الزمن، وكان الهدف ان تدرس وتتأمل وتتعرف على الملفات قبل اتخاذ موقف من القرارات. فالحكمة الصينية تقول "من يعرف العدو ويعرف نفسه سيربح المعركة، ومن لا يعرف العدو ويعرف نفسه فقد ينتصر، ومن لا يعرف نفسه ولا يعرف العدو فقد حكم على نفسه بالهزيمة". ترى ماذا تخبئ الصين للعالم؟ هل هي تسير وفق المثل الصيني المعروف "لا تطعمني سمكة بل علمني كيف اصطاد السمكة". بعد احداث 11 ايلول سبتمبر واجه ويواجه العلماء العرب صعوبات كبيرة في الولاياتالمتحدة، كما يواجهون مضايقات بسبب جنسهم ومعتقداتهم. وهم عقول ذات مساهمات فعالة في المجالات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والانسانية، وللصين في هذا المجال تجربة جديرة بالدراسة والاستفادة منها في التعامل مع العقول الصينية، وتقديم التسهيلات وخلق الاجوءا العلمية والانسانية والضمانات القانونية مع محافظتهم على علاقاتهم العلمية واتصالاتهم مع الجامعات ومراكز الابحاث الاميركية. ولقد نشرت جريدة "لوس انجليس تايمز" ذات الاهتمام بالعنصر الصيني لكثرة تواجده في منطقة كاليفورنيا مقالاً في 7 تشرين الثاني نوفمبر تحدثت فيه عن الجهود الجريئة التي تقوم بها الصين لتشجيع عودة العقول الصينية من سيلكون فالي. ويشير الكاتب الى ان الكثيرين من المهندسين الصينيين سيعودون بعد ان شحت الوظائف نتيجة الازمة الاقتصادية في الولاياتالمتحدة وبعد ان كثر الطلب على هؤلاء في الصين. ويقول القنصل الصيني في سان فرنسيسكو في 1979 بعد ان انهى القائد الصيني شياو بنغ عزلة الصين، ان اكثر من 400 ألف طالب قدموا من الصين لدراسات عليا. ولم يعد منهم اكثر من 20 الى 25 في المئة الى وطنهم. وانتهى الامر بالعديد منهم في سيلكون فالي حيث شرعوا في اعمال خاصة بهم، او عملوا في اهم شركات التكنولوجيا، لكن تراجع صناعة المعلومات في اميركا وازدهار سوقها في الصين اعادا الآمال لدى الصينيين في عودة ما اسماه الصينيون "احتياط العقول الصينية في الخارج". ولم يعد خافياً، وفي مدن عدة، ان تجد اعلانات كبيرة تدعو الى عودة العقول الصينية مع تقديم رواتب وبدلات تساوي في قوتها الشرائية ما يجده هؤلاء في اميركا. ان الحكومة الصينية تعرض على المهندسين جميع تكاليف العودة الى الصين، والعائد الصيني الذي يتمتع بعدة سنوات من الخبرة في اميركا عليه ان يتوقع سكناً مجانياً وسيارة وخدمات اخرى ليست متوفرة في الولاياتالمتحدة. واذا سار نهج "عودة العقول" بنفس الطريقة التي سار بها مع تايوان، فإن غالبيتهم ستعود الى الصين وسيكون لهم تأثير كبير على عالم التكنولوجيا. والصين تطلب من العائدين الابقاء على صلاتهم الاكاديمية والتجارية والانسانية مع الولاياتالمتحدة، وربما انتقل قسم من الصناعة الاميركية معهم الى الصين للاستفادة من العمالة الصينية الاقل تكلفة للتصنيع في الصين. فمع دخول الصين عصر عولمة التجارة بقبولها عضواً في منظمة التجارة الدولية، لن يكون انسياب قوة العقول في اتجاه واحد. ولقد انشغل المراقبون بالشأن الصيني في محاولة تغيير السلبية الراهنة في التعامل مع الاحداث الجسام، لكن هذا لم يمنع اميركا من النظر الى الصين كعدو في المستقبل. ويذكرنا هذا بنظرية صراع الحضارات التي ترى في الثقافتين العربية الاسلامية والثقافة الكونفوشيوسية اكثر الثقافات تهديداً للغرب. ويرى الكاتب البريطاني باتريك سيل في مقالة مهمة له في جريدة "الحياة" ان الصين خلف الهوس الاميركي بالعراق، وانه رغم دعم اميركا لانضمام الصين لمنظمة التجارة الدولية وارتفاع المبادلات التجارية الى مئة مليار، فالتنافس الكامن ما زال قائماً ولا يحتمل ان يزول. لقد وجهت الصين انتقادات شديدة الى استراتيجية الامن القومي الاميركي. ويُعتقد، كما يرى باتريك سيل، أن التنافس مع الصين هو السبب الحقيقي الذي يحفز الولاياتالمتحدة على السيطرة على منطقة الخليج الاستراتيجية التي تحتوي على اكثر من ربع الاحتياطي النفطي في العالم. والنفط هو المادة التي تسعى الصين حثيثاً اليها لكي تدعم وتنمّي قوتها الاقتصادية الهائلة. لقد أدخل عقدان من الاصلاحات في الصين ما يعادل 450 بليون ريال من العملات الاجنبية التي أدت الى حدوث تغيير ملموس على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. وستبلغ الاستثمارات الاجنبية في الصين في هذا العام 50 بليون دولار شهرياً، وهو مجموع لم يبلغه اي بلد في العالم، بما في ذلك الولاياتالمتحدة. الا يدعونا كل ذلك لأن تعطي التجربة الصينية كل الاهتمام، وان نتوقع ان تلعب دوراً سياسياً يتناسب مع وضعها الاقتصادي. فالاقتصاد والسياسة يسيران معاً. * سياسي قطري.