تجيء زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للهند في اطار جولة تشمل الصين وماليزيا وباكستان، في وقت يتصاعد الدور الذي تقوم به هذه الدول في القارة الآسيوية المتوثبة، ليس على صعيد هذه القارة العملاقة فحسب، بل على الصعيد العالمي بما حققته من نمو ونجاح اقتصادي مؤثر في عجلة الاقتصاد العالمي الذي يخوض مخاضاً جديداً في طريق العولمة وتكامل الاقتصادات المتصارعة وصولاً الى تحقيق العدالة في عملية المشاركة البناءة في توزيع الثروات والموارد الاقتصادية وتصحيح الخلل الذي حدث في هذا التوازن طوال القرن الماضي بعدما وعت دول العالم النامي حقيقة الظلم والاجحاف الذي كانت ضحيته طوال عقود طويلة، كانت اثناءها اسيرة حل مشاكلها الوطنية الملحة وعلى رأسها قضايا الاستقلال وبناء الدولة، ومحاولة اللحاق بركب الحضارة والتقدم الذي سبقته اليه دول الشمال بينما كانت تلك الدول منهمكة في تحقيق تلك المتطلبات الرئيسة وفي ظل قصور بل عجز ضاغط في الموارد المالية والتخلف العلمي والتقني والافتقار للبنى التحتية الضرورية لأي تقدم. ولقد نجحت بعض الدول العربية، بخاصة تلك التي وهبها الله الموارد المالية اللازمة لعملية التنمية هذه، في ان تحقق مكاسب مهمة للاستفادة من هذه الموارد لتتبوأ مكانها المرموق في نادي الدول المتقدمة. وأعطت المملكة العربية السعودية المثل الناجح لعملية التطوير هذه في ظل سياسة رشيدة وواعية للقيادة الحكيمة في بروز قيادات شابة ومتعلمة ومنفتحة على عملية التطوير هذه اضطلعت بالمسؤولية التنفيذية بكل جدارة، من دون أي اختلال للتوازن الاجتماعي او الديني الذي قد يرافق احياناً عملية التغيير هذه، كما حدث للاسف في بعض الدول الاخرى التي تحاول الآن جاهدة لاصلاح هذا الخلل، واستعادة زمام التوازن. نعود مرة اخرى للزيارة التاريخية التي يعتزم الملك عبدالله القيام بها لبعض دول القارة الآسيوية المهمة وعلى رأسها الهند ذات البليون نسمة والصين التي تحتوي على نحو سدس سكان العالم... وساقتصر من تناولي لهذه الزيارة على جمهورية الهند التي كان لي شرف تمثيل بلادي فيها طوال ست سنوات ونصف السنة 1985 - 1992. لقد سبق لي ان كتبت في هذه الصحيفة مقالاً بعنوان:"عودة حزب المؤتمر فرصة لاستعادة دور الهند في مناصرة القضايا العربية"تناولت فيه ضرورة انتهاز هذه الفرصة لاستعادة دور الهند الذي تعرض لانتكاسة خلال ابتعاد حزب المؤتمر عن الحكم وما رافقه من تنامي النفوذ الاسرائيلي السياسي والاقتصادي في الهند، وكنت قد ركزت في مقالي ذاك على دور جامعة الدول العربية في تبني هذا التحرك... ولكن للأسف لم ألحظ أي تجاوب ملموس مع هذه الدعوة! لهذا، ابتهجت عند سماعي نبأ الزيارة المهمة لخادم الحرمين الشريفين للهند خلال هذا الشهر والتي آمل بأن تمثل خطوة مفصلية لاستعادة دور الهند العربي والاستفادة من التطور المهم الذي حققته الهند على مختلف الأصعدة... لا سيما الاقتصادية منها. فمنذ الانفتاح الذي اطلقه رئيس الوزراء الراحل راجيف غاندي، دخلت الهند عهداً جديداً بعد انعتاقها من سلبيات النظام الاشتراكي الذي كبّل الاقتصاد والهندي طيلة عقود طويلة بقيود انعكست على مسيرة العملية الاقتصادية، فاستطاعت القفز الى آفاق جديدة من الازدهار والنمو أهّل الهند للانضمام بجدارة لنادي الدول المتقدمة او ما اطلق عليها النمو الآسيوي. ربما يجهل الكثيرون حقيقة ما وصلت اليه الهند من تقدم علمي وتقني تكنولوجي ربما الأضخم في العالم بعد الولاياتالمتحدة واليابان من حيث عدد العلماء وحجم الانتاج ونوعيته، بما في ذلك الانتاج العسكري المتطور، ناهيك عن السلاح النووي الذي نجحت باكستان في اللحاق به لتحقيق نظرية"توازن الرعب". في الهند أكبر عدد من العمال وأكبر عدد من النواب أكبر ديموقراطية في العالم وأطول خطوط للسلك الحديد بصرف النظر عن مدى تطورها ومستواها، اضافة الى حجم الانتاج الزراعي الذي يقدم الغذاء لنحو بليون نسمة وتصدير الفائض منه لا سيما الرز البسمتي الذي تستهلكه شعوب الخليج العربية بشكل يومي... وكذلك الشاي والبهارات... العمالة الهندية تمثل نسبة كبيرة من العمالة في دول الخليج العربية وتساهم في شكل فاعل في عملية التنمية في هذه الدول. صناعة الادوية التي حققت الهند فيها نجاحاً ملحوظاً استطاعت سد حاجة السوق المحلية، اضافة الى تصدير الفائض منها بخاصة من السوق الآسيوية والافريقية كما احتلت الهند مركزاً مرموماً في صناعة المجوهرات وصقل الالماس والاحجار الكريمة وشبه الكريمة... ربما لا يعرف الكثيرون ايضاً النجاح الذي حققته الهند في صناعة الملابس والازياء الراقية ذات الاسعار التنافسية بسبب تدني اجور اليد العاملة... كما تعد الهند منافساً مهماً في صناعة السجاد التي تتميز بها كشمير. هذه صورة سريعة لأهمية الهند بالنسبة الى العالم العربي ودول الخليج على وجه الخصوص. يبقى الجانب السياسي... فكما هو معروف ان الهند تعد نفسها لتبؤ مقعدها الدائم في مجلس الامن بما يمثله ذلك من بروز دورها السياسي على الصعيد الاقليمي والعربي والدولي. من هنا تجيء اهمية بناء وتطوير الجسور القائمة بين الهند والدول العربية، ليس على الصعيد الاقتصادي والتجاري فحسب، بل امتداد هذا الدور للمجال السياسي وتفعيل التعاون لما فيه مصلحة الطرفين. زيارة الملك عبدالله للهند هي تجسيد وترجمة عملية لعملية دعم وتنمية التقارب والتعاون يدشن بها خادم الحرمين الشريفين عهده الزاهر في الوقت المناسب لانطلاق هذا التحرك بما تمثله المملكة من ثقل سياسي واقتصادي يؤهلها لقيادة هذا التحرك. سفير السعودية الاسبق لدى الهند.