} يظهر التحليل الشامل للنظام العالمي الوليد والأوضاع الخاصة لاقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي نقاط اختلاف وتشابه. وفي عالم تترابط أرجاؤه بصورة متزايدة، بفضل التقدم التكنولوجي والعلمي، ينبغي على اقتصادات هذه الدول أن تسعى إلى التكامل مع النظام الاقتصادي العالمي الجديد لتنمو وتزدهر. وسنركز على النقاط التي تتطلب اهتماماً من صناع القرار في دول المجلس. دور الدولة لا تزال حكومات دول مجلس التعاون الخليجي تلعب دوراً كبيراً في الاقتصاد، اذ لدى هذه الدول ملكيات مباشرة في معظم المشاريع. وتعتبر الحكومة أكبر الجهات الموظفة للعمالة والمستهلكة للعديد من المنتجات والخدمات. وقامت حكومات هذه الدول باستثمارات ضخمة وبصورة مباشرة في المؤسسات والمرافق الصناعية والقطاع المالي. ولكن مع نمو الاقتصاد يكون من الصعب على الحكومة أن تستمر في ممارسة هذا الدور أي كمستثمر. ونلاحظ أن دور الدولة في عدد من الدول الاجنبية يقتصر على مجالات أساسية معينة مثل الدفاع والرعاية الصحية والتعليم..الخ. كما تلعب الحكومة دور "الجهة الميسرة" أو "الحكم" أو "المنظم" وليس دور "المستثمر". وهذا النهج يمكّن الاقتصاد من تحقيق نمو أكبر، اذ أن المقدرة على تحقيق موارد فعالة من خلال القطاع الخاص أكبر. وإذا ظلت الحكومة تلعب باستمرار دور "المستثمر" فإن ذلك سيحد من الموارد المالية والأخرى ما يؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي. والوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا التحول تتمثل في التخصيص. وعلى رغم بعض المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه عملية التخصيص في بداية الأمر، إلا أن هذه العملية قد تخفف العبء المالي على الحكومة عن طريق خفض فواتير الأجور في القطاع العام، كما تؤدي إلى تحسين كفاءة وإنتاجية الوحدات التي يتم تخصيصها. أما الدخل المحقق من ذلك فيمكن استخدامه في خفض الديون الكبيرة التي تنذر الآن بالخطر. وعليه، ينبغي على حكومات دول المجلس أن تركز على توفير بيئة مستقرة للاقتصاد الكلي وأن تضع الأسس القانونية والإدارية التي من شأنها تمكين الآخرين من تحقيق التنمية الشاملة. وستتمتع الحكومة بحرية كاملة في دورها الإشرافي المقترح، لذا، ينبغي عليها أن تقوم بتنسيق النظم المختلفة مثل قوانين إنفاذ العقود، وتنظيم حقوق الملكية، ومحاربة البيروقراطية والفساد، وتطبيق قانون الأرض عموماً. ومن الضروري وضع نظام قانوني فعال ينال رضا المستثمرين الدوليين وثقتهم. فالنظام القانوني السليم يضمن وجود ممارسات مصرفية سليمة وهذه بدورها تؤدي إلى تطوير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وينبغي أن تقوم الدولة بإنجاز هذا التحول لتحقيق نمو اقتصادي سريع ومستقر. النظام الاقتصادي يرسخ النظام العالمي الجديد نظام السوق الحرة، كما أنه ضد نظام السوق الموجهة الذي شهدناه سابقاً. ومع أن دول مجلس التعاون الخليجي لا تطبق النظام الاقتصادي الموجه مركزياً، إلا أنه يمكننا ملاحظة آثار ذلك من جهات عدة. فالحكومة أو الدولة، بحكم أنها العنصر الكبير المهيمن، لا تزال تتحكم في معظم القطاعات والمؤسسات في النظام الاقتصادي. ومع أن الإيرادات النفطية تشكل العمود الفقري لهذه الاقتصاديات، إلا أن أحجام الإنتاج لا تزال تتحدد بواسطة اتحاد منتجي النفط وليس عن طريق تفاعل قوى السوق الحرة. وتقوم حكومات دول مجلس التعاون الخليجي بإدارة مخصصات الإيرادات والمصروفات للقطاعات المختلفة. كما تتبع الدولة أيضاً نظاماً اقتصادياً يتسم بالرفاهية، اذ يتم تقديم العديد من الخدمات للمواطنين إما من دون مقابل أو بأسعار مدعومة بشكل كبير ما يؤدي إلى عدم كفاءة تخصيص الموارد. وكل ذلك يتناقض مع النظام العالمي الجديد الذي نشهد فيه مجتمع سوق حرة، حيث يتم تحديد الأسعار على أساس طبيعي من خلال العرض والطلب على السلع والخدمات. وكما ذكرنا سابقاً، ظلت دول مجلس التعاون الخليجي تشهد نمواً اقتصادياً غير مستقر في عدد من الأعوام الماضية نتيجة تقلب أسعار النفط. فالإيرادات النفطية تشكل نسبة كبيرة من إجمالي الإيرادات ومن اجمالي الناتج المحلي أيضاً. ولا زلنا نشهد، خلال فترات ارتفاع أسعار النفط، حدوث نمو كبير اجمالي في الناتج المحلي الاسمي في دول المجلس، وتحسناً في عجوزات الموازنة. بيد أنه خلال فترات انخفاض أسعار النفط نشهد انكماشاً في النشاط الاقتصادي وعجوزات كبيرة في الموازنات. ويمكن احتواء هذا التقلب عبر محاولة توقع حجم الايرادات والتحكم بها، واحتواء المصروفات خصوصاً في الحساب الجاري. التحكم في الإيرادات تعتمد دول مجلس التعاون الخليجي على النفط للحصول على العديد من متطلباتها. وستستمر هذه الدول على هذا المنوال، إذ لديها أكبر احتياط للنفط في العالم. والأمر المؤسف، أنه على رغم ذلك فإن تأثير هذه الدول في سوق النفط العالمية ضعيف، اذ تتحكم في هذه السوق دول أخرى. وينبغي أن تعمل دول المجلس على تكوين تحالف من شأنه أن يضمن تحكمها في أسعار النفط العالمية طبقاً لقراراتها. ولن تستطيع هذه الدول التحكم في الإنتاج من خلال منظمة "أوبك" فقط. وينبغي أن يتحقق ذلك في الأمد الطويل لتتمكن من التحكم والتأثير في عدد من الدول في الصناعة ذاتها. إن سياسة خفض الإنتاج قد تكون مفيدة في الأمد القصير فقط، وأي زيادة في الأسعار ناتجة عن ذلك لن تجذب إلى الصناعة سوى المنتجين الهامشيين فقط ما يؤدي إلى زيادة العرض ومن ثم انخفاض الأسعار مرة أخرى. وينبغي أن تضمن استراتيجية النفط الطويلة الأمد غياب هؤلاء اللاعبين الهامشيين من السوق إلى الأبد، الأمر الذي سيؤدي إلى استقرار الإنتاج ومن ثم الأسعار، ويضمن ذلك امكان التنبؤ بأسعار النفط ومن ثم استقرار النمو الاقتصادي. ثانياً، ينبغي أن تتكامل دول مجلس التعاون الخليجي مستقبلاً في سلسلة الإنتاج، كما ينبغي أن تقوم بإنتاج منتجات القيمة المضافة التي تضمن تحقيق أسعار عالية. وهذا الأمر يتطلب استثمارات كبيرة إلا أنه جدير بها، كما أنه يضمن التنويع والتوسع في قطاع النفط. ثالثاً، ينبغي أيضاً تنويع قاعدة الصناعات والخدمات في هذه الاقتصادات، على رغم أن ذلك يتطلب فترة من الزمن. ويوفر قطاع الخدمات إمكانات هائلة، ما أدى إلى تحول اقتصادات صغيرة مثل سنغافورة إلى اقتصادات مزدهرة من دون امتلاكها لأي موارد طبيعية كبيرة. وبفضل أهم الموارد الطبيعية، أي النفط، ينبغي أن تعمل اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي بصورة أفضل بكثير. ويعتبر تطوير ميناء دبي خير دليل على ذلك. احتواء المصروفات هنالك عامل مهم آخر لتخفيف التذبذب وهو عامل المصروفات. ففي جميع أنحاء العالم يتم صرف الأموال بصورة متزايدة في جانب التنمية وليس في جانب تحقيق الإيرادات. وبعبارة أخرى، تركز الدول النامية على المصروفات الرأسمالية في مشاريع البنية الأساسية أو المشاريع الصناعية. إلا أننا شهدنا اتجاهاً مخالفاً في اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، اذ يتم صرف معظم الأموال في دفع الرواتب والأجور للعمالة الكبيرة العاملة في الحكومة. وحكومات دول المجلس، بحكم التزامها الاجتماعي، ملزمة بتوفير فرص العمل "الزائفة" لمواطنيها. وهذا الأمر لا يؤدي فقط إلى ضياع الإيرادات الكبيرة المحققة، بل ينمي روح الاستهتار وعدم الكفاءة. وبينما أنفقت اقتصادات دول المجلس نحو 24 في المئة من اجمالي الناتج المحلي على المصروفات الرأسمالية خلال الفترة بين 1981 و1985، إلا أن ذلك تراجع الى ثمانية في المئة فقط بين الفترة 1991 و1998. وهذا الانخفاض ينذر بالخطر ويتطلب تصحيحه بصورة عاجلة. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال تغير دور الدولة. التجارة في جانب التجارة، نلاحظ أن عدداً من دول المجلس حاصلة على عضوية منظمة التجارة الدولية. بيد أن عضوية هذه المنظمة لا تشكل سوى أحد جوانب الموضوع. ففي جانب الصادرات، نلاحظ أن هناك منتجاً واحداً يشكل العنصر المهيمن وهو النفط، وذلك على رغم أن الدول التي يصدر إليها هذا المنتج تتنوع بصورة ملائمة. أما في جانب الواردات، فعلى رغم أن اقتصادات الخليج تستورد معظم متطلباتها، إلا أنها تعتمد على أوروبا واليابان والولايات المتحدة في الحصول على معظم وارداتها. وعلى رغم أن الميزان التجاري موجب في جميع هذه الاقتصادات، إلا أن الفجوة تضيق خلال فترة، ويعود ذلك بصفة أساسية إلى تذبذب الإيرادات النفطية وتزايد فاتورة الواردات نتيجة تزايد عدد السكان. وتشجيع الصناعات المحلية لكي تنمو من شأنه أن يوفر العملات الأجنبية الصعبة التي يتم الحصول عليها حالياً من خلال الصادرات النفطية وبعض الصادرات الأخرى. ويتطلب ذلك جذب الاستثمارات. كما أن تشجيع الإنتاج المحلي يؤدي أيضاً إلى تعزيز فرص الصادرات لمنتجات أخرى خلاف النفط، ما يؤدي إلى استقرار الإيرادات. لم تنجح اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي حتى الآن في تكوين كتلة إقليمية على غرار الاتحاد الأوروبي، على رغم أن هذا الموضوع يناقش منذ أعوام عدة. ومن الضروري تشكيل كتلة إقليمية لتطوير التجارة بين دول المجلس وبين الدول العربية، اذ من خلال المجموعات الاقتصادية يمكن تطوير التجارة بشكل كبير كما هو الامر في أوروبا، حيث تشكل حصة التجارة بين الدول الأوروبية أكثر من 60 في المئة من إجمالي التجارة وهو السبب الأساسي الذي دفع هذه الدول لاستخدام عملة موحدة. وحتى في آسيا تشكل حصة التجارة بين الدول الآسيوية نحو 35 في المئة مقارنة بنحو تسعة في المئة في الشرق الأوسط. ومن خلال الكتلة الاقتصادية الإقليمية يمكن تسريع التكامل مع دول العالم الأخرى. ويؤدي ذلك إلى فتح قنوات للعديد من المنتجات التي قد لا تكون مجدية على المستوى الوطني بينما قد تكون جذابة على المستوى الإقليمي. وإذا حقق المنتج نجاحاً على المستوى الإقليمي فإنه يمكن أن يحقق نجاحاً في السوق العالمية أيضاً. تكامل الشركات نظراً الى ان النفط يساهم في تحقيق معظم الإيرادات، فإن دول مجلس التعاون بنت مؤسساتها اعتماداً على ذلك في المقام الأول. وتعتمد دول المجلس اساساً على الواردات للحصول على معظم متطلباتها، بينما ظلت حصة الصناعة في اجمالي الناتج المحلي ضئيلة للغاية. وتم تكوين وتنظيم الشركات لتسهيل عملية الاستيراد، لذا، نلاحظ وجود عدد وافر من المشاريع المشتركة التي تمثل الشركات العالمية المتعددة الجنسية في المنطقة. بيد أن هناك استثناء يتمثل في القطاع المصرفي، حيث تلعب الدولة دوراً مهيمناً. وتعتمد جميع القطاعات الأخرى على الشركات الأجنبية عدا المصارف. وعليه، فهي قابلة للاندماج الدولي الذي يضم هذه الشركات الأجنبية. ورأينا أن هناك عدداً كبيراً من عمليات الاندماج التي تحدث الآن أكثر من أي وقت مضى نتيجة للمنافسة الحادة. إن عملية تسليم المنتجات بأقل التكاليف مع تقديم خدمات عالية الجودة أصبحت في الوقت الحاضر أمراً عادياً وظل حجم السوق يتسع، كما اتبعت المنافسة نفس المنوال. وفي ظل هذا الوضع الذي يتسم بارتفاع الكلفة، نشهد الآن العديد من عمليات الاندماج والتوحد بين الشركات لتخفيف أثر المنافسة. كما شهدنا في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي أيضاً عدداً كبيراً من عمليات الاندماج. إلا أن الأثر على المستوى العالمي لم يظهر بعد بصورة واضحة نظراً الى ان هذه الشركات عبارة عن شركات ممثلة في الغالب وليست هي الشركات الأجنبية الأصلية المصنعة. وعندما ترتفع حصة الصناعة، سنشهد أيضاً عمليات اندماج نظراً الى ان البنيات الأساسية القانونية والتنظيمية تساعد في ذلك. تكامل السوق المالية رأينا الترابط الدولي الضعيف لاقتصادات دول مجلس التعاون مع الدول الأخرى في العالم. وينبغي أن تفهم الترابطات الدولية من منظورين هما: التجارة والاستثمارات. وقد ناقشنا موضوعة التجارة في الحلقة السابقة. أما في ما يتعلق بالاستثمارات، فإن اقتصادات دول المجلس منطوية على نفسها حتى الآن من دون أن تتفاعل مع رأس المال الأجنبي. وعلى رغم أن هذا الأمر يبدو جيداً على المستوى الكلي إلا أنه يعوق عملية النمو إذا نظر إليه من وجهته الصحيحة. وربما رأى البعض أن هذا الأمر ممكن حتى الآن نتيجة قلة المصروفات الرأسمالية. ولكن، كما أوردنا سابقاً، يحتاج الاقتصاد لكي ينمو بمعدل مقبول إلى مصروفات رأسمالية أكثر ونفقات جارية أقل. ويتطلب ذلك فتح قنوات الاستثمار لرأس المال الأجنبي في شكل استثمارات أجنبية مباشرة واستثمارات أجنبية مؤسسية. ويتطلب ذلك تخفيف إجراءات المراقبة والقوانين بشكل كبير والمناشدة بتوفير بيئة أكثر حرية لجهة القيود المفروضة على المستثمرين الأجانب. والعديد من أسواق رأس المال في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي لا تزال مغلقة أمام الاستثمارات الأجنبية. وهذا الأمر ينبغي مناقشته بصورة عاجلة. وهناك طلب كبير على رأس المال في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى، إلا أن رأس المال لا يتجه إلا إلى المناطق او الدول التي تتوافق فيها العائدات مع توقعات المستثمرين. ونظراًَ الى ضعف البنية القانونية والبيئة المغلقة، فإن اقتصادات دول مجلس التعاون تجد صعوبة كبيرة في جذب رأس المال الأجنبي، سواء لجهة القروض أو رأس المال. ويشكل غياب هذا النوع من الأموال ضغوطاً إضافية على التمويل الحكومي الذي يستنزف يوماً بعد يوم نتيجة تزايد المصروفات الجارية. خاتمة ركزت هذه الورقة على النظام العالمي الاقتصادي والسياسي الجديد الذي يحتمل أن يشهده جيل القرن المقبل، وقارنت بين النظام العالمي الجديد واقتصادات الدول الخليجية، وبيّنت ان نواحي الاختلاف بينهما اكثر من جوانب التقارب. ويستدعي ذلك اتخاذ خطوات عاجلة على الصعيد الاقتصادي والسياسي لتنظيم هذه الاقتصادات بحيث تتوافق مع النظام العالمي الجديد. وسيكون القرن المقبل بحق قرن التقنية. والدول التي تمتلك الموارد التي تمكنها من تسخير وتطوير تقنيات جديدة ستكسب كثيراً، وهذا هو أكثر الأمور أهمية بالنسبة للدول التي حباها الله بموارد طبيعية سخية مثل دول مجلس التعاون الخليجي اذ أن التقنية الجديدة من شأنها خفض التكلفة كثيراً وتحسين النوعية. كما ان العولمة لم تعد خياراً بل أضحت ضرورة ملحة. والمخططون السياسيون والاقتصاديون في دول المجلس لا بد أن يتصدوا لهذا الأمر حتى يتسنى للاقتصادات الخليجية اللحاق بالركب العالمي. * رئيس المركز الاستشاري للاستثمار والتمويل.