مشروع السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين كان بحاجة الى وصول حركة"حماس"الى السلطة لضمان استمراره، بعد ان افتقد مبدأ الندية بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية. فالغطرسة الاسرائيلية، وفرض الحلول من جانب واحد كانا بحاجة الى حزب فلسطيني متشدد للمحافظة على حقوق الشعب الفلسطيني. فالحكومة الفلسطينية المنصرفة استبدلت الاذعان بالتفاوض، والرفض بالشكوى، والأمل بالعمل، فكان لا بد أن ترحل ليأتي من هو قادر على فعل التفاوض وممارسة الرفض. فمشروع السلام ما كان ليستمر من دون شريك يملك خياراً مختلفاً، ولهذا فإن خروج"فتح"من الساحة كان نتيجة منطقية لأسلوبها في إدارة الصراع مع الاسرائيليين، وليس بسبب فساد إدارتها للشأن اليومي، وإن كان الفساد تدخل في حسم الموقف بعد ان اصبح عنواناً للتفريط بالحقوق الاساسية للشعب الفلسطيني. لا شك في ان ردة فعل واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي واللجنة الرباعية على وصول حركة"حماس"الى السلطة أول مؤشر الى ان الروح قد عادت الى عملية السلام. فقبل خبر انتصار"حماس"كنا نرى اجراءات احادية الجانب من طرف اسرائيل تقابلها شكوى فلسطينية، وفرجة أو غض طرف من الاطراف الاخرى وعلى رأسها واشنطن. اما اليوم فإن روحاً جديدة سرت في جسد مشروع السلام المريض. فوصول"حماس"أعاد تركيب المشهد، فساحة السلام التي افتقدت السجال والندية دخلها شريك قادر على ادارة الصراع بعزيمة مختلفة، ولهذا فإن تشدد الدول جزء من هذه الروح. فاللاعب الفلسطيني الجديد دخل ساحة الصراع بشروط ومواقف لم تروضها السياسة، فكان لا بد لمواجهة ذلك واستقباله بلغة متشددة وشروط أهمها نقل"حماس"من متاريس السلاح الى مكاتب الحزب السياسي. و"حماس"مستعدة للوصول الى هذه النتيجة فهي تدرك انها تخوض معركة مفاهيم، لكنها تريد ان تحصل على الثمن المناسب لتغيير أو تطوير هذه المفاهيم. واسرائيل، ومن خلفها واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي، ستوافق على مبدأ التفاوض مع"حماس"، على رغم تشددها في البداية. والثمن الذي ستقبل به"حماس"ستحدده عوامل عدة أبرزها التفاهم الفلسطيني - الفلسطيني، والدعم العربي لموقفها، وعدم التخلي عنها تحت دعوى العنف والإرهاب. إذاً فعنوان المعركة القادمة بين"حماس"واسرائيل هو"تغيير المفاهيم مقابل الحقوق"، ولهذا فإن هذا الرفض الظاهر ل"حماس"من الاسرائيليين والأميركان والأوروبيين لعبة تفاوضية. فموافقة"حماس"على تغيير بعض المفاهيم هدف لا يعادله هدف، وشرط لتحرك عملية السلام من دون عثرات، لكن هذه المعركة لن تمر بسهولة، وأخطر مشاكل هذه المعركة المرتقبة لن تكون مع المجتمع الدولي فحسب، بل مع الرئيس محمود عباس الذي اختار رؤوية"فتح"، وأصبح تعبيراً موضوعياً عنها، وتعامل مع ارثها السياسي الفاشل باعتباره ثوابت وطنية ينبغي على"حماس"ان تلتزم بها، مع انه كان بإمكان"أبو مازن"ان يعبر عن الثوابت على نحو مختلف، ويعطي ل"حماس"فرصة لرسم موقعها التفاوضي، لا ان يفرض عليها أخطاء الآخرين وتنازلاتهم، ويتصرف وكأن"حماس"قامت بانقلاب ولم تأت عبر صناديق الاقتراع. والخشية أن يتعامل"أبو مازن"مع قضية تشكل الوزارة وكأنه يفاوض"حماس"لا يتشاور معها، فإن فعل وهذا متوقع فسيكون مسؤولاً عن فشل المعارضة مثلما كان مسؤولاً عن فشل الموالاة. "حماس"من جانبها، لم تتخذ موقفاً علنياً من بعض تصريحاته التي تشير الى قلقه من حصولها على الغالبية في البرلمان، على رغم انه عبر عن قلقه في شكل عملي، فأصدر مرسوماً بوضع الأجهزة الأمنية تحت إدارته المباشرة. وهي خطوة رفعت عن"حماس"مسؤولية الفشل الأمني، والحرج في مواجهة الفصائل المسلحة الرافضة للحل السياسي، وأبرزها"حركة الجهاد الاسلامي"، فضلاً عن ان هذه الخطوة ستزيد من ضعف"أبو مازن"أمام الاسرائيليين لأنه لم يستطع ضبطها في السابق، وسيواجه الفشل ذاته مستقبلاً، ناهيك عن انه كان استقال من منصب رئيس الوزراء بسبب تمسك الرئيس الراحل ياسر عرفات بالأجهزة الأمنية، وها هو يكرر خطأ"أبو عمار"، رحمه الله ، ما يعني أنه لم يبدأ ممارسة الديموقراطية رغم انه رحب بنتائجها، وهذا مؤشر الى ان أزمة الفلسطينيين القادمة ستبدأ من غزة اولاً!