نشرت الصحيفة الإخبارية الأميركية "كاونتر بانش" في العدد 21 الجزء 12 مقالاً للباحث الأكاديمي ديفيد برايس، أستاذ مادة الانتروبولوجيا في جامعة سان مارتن في واشنطن، يتناول فيه "التجسس" الذي مارسه مكتب التحقيقات الفيديرالي الأميركي المعروف بپ"أف بي آي"على المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد بدءاً من العام 1971 حتى ما قبل وفاته في 2003. ويفضح الكاتب الاسلوب الذي اعتمده جهاز"أف بي آي"في مراقبة ادوارد سعيد وبعض التقارير التي كانت ترفع عنه، والمضايقات التي تعرّض لها طوال سنوات. والمقال، الذي ننشر مقاطع منه، أثار ويثير الكثير من ردود الفعل والتعليقات، في صحف أميركية ومواقع الكترونية عدة. لطالما عرف مكتب التحقيقات الفيديرالي"أف بي آي"بتقليدٍ طويل وسيئ في مراقبة أهمّ المثقّفين الأميركيين وإزعاجهم. وفيما تعرّض ألبرت آينشتاين وويليام كارلوس ويليامز ومارتن لوثر كينغ لمراقبة مكثّفة من"أف بي آي"، لا يزال من غير المؤكّد إذا كانت هذه المراقبة تعيق في طريقة ما عمليّة تلقّي الجمهور لعملهم. وردّاً على الطلب الذي أرسلته وفقاً لقانون حريّة الإعلام وباسم"كونتر بانش"، نشر مكتب التحقيقات الفيديرالي 147 صفحة من ملفّ إدوارد سعيد الذي يحتوي على 238 صفحة. وتحتوي السجلات التي نُشرَت بعض الثغرات الاستثنائيّة، ومن المحتمل أنّ مكتب التحقيقات الفيديرالي لا يزال يحتفظ بملفّات عن البروفسور سعيد أكثر ممّا يقرّ. ولعلّ وجود بعض هذه الثغرات يعود إلى قانون"باتريوت"والاستثناءات في الأمن القومي وهو ما يسمح للمكتب بنفي احتفاظه بأيّ سجلات. غير أنّ الملفّ الذي نُشر يتضمّن معلومات كافية لمعرفة مدى اهتمام مكتب التحقيقات بإدوارد سعيد. وتتضمّن معظم ملفّات"أف بي آي"المتعلّقة بمراقبة سعيد معلومات عن عمله القانوني والعام مع منظّمات سياسيّة فلسطينيّة، مقرّها الولاياتالمتحدة، أو مع منظّمات مؤيّدة للعرب. وتوثّق جوانب أخرى من الملفّ تحقيقات"أف بي آي"المستمرّة عن سعيد ومراقبة اتصالاته مع فلسطينيين أميركيين آخرين. أمّا مراقبة مكتب التحقيقات الفيديرالي للنشاطات السياسيّة القانونيّة والثقافيّة التي يقوم بها رجل مماثل فلا تعكس دور المكتب في قمع الحلول الديموقراطيّة للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني وحسب، بل تظهر بوضوح استمراريّة جهود"أف بي آي"على مرّ التاريخ في مجال مراقبة ناشطي السلام الأميركيين ومضايقتهم. وتشير مريم زوجة إدوارد سعيد الى إنّها غير مدهوشة بمعرفة مراقبة"أف بي آي"زوجها وتقول:"طالما علمنا أنّ أي نشاط سياسي متعلّق بالقضية الفلسطينيّة يخضع للمراقبة، حتّى عندما نتحدّث على الهاتف نقول"فليسمع المتنصّتون هذا". فنحن ندرك أنّ هواتفنا تخضع للتنصّت منذ وقت طويل، لكنّ ذلك لم يزعجنا أبداً لأن ما من شيء نخفيه". صور إدوارد سعيد ظهر أوّل سجلّ لپ"أف بي آي"عن"إدوارد سعيد"في تحقيق أمنيّ محلّي في شباط فبراير 1971 يتعلّق بشخص آخر لم تُحدّد هويّته. وجمع جهاز"أف بي آي"صوراً لسعيد من قسم جوازات السفر في وزارة الخارجيّة ومن وكالات أخبار عدة. وتمّ فتح ملفّ سعيد لدى"أف بي آي"وقد حمل اسم"الأمن الدولي"عندما قدّم أحد المخبرين لمكتب التحقيقات الفيديرالي برنامجاً من اتفاق بوسطن لمتخرّجي الجامعة العربيّة - الأميركيّة في تشرين الأوّل أكتوبر 1971 حيث ترأس سعيد مناقشة حول"الثقافة والروح الانتقاديّة". واندرجت معظم سجلات سعيد لدى"أف بي آي"تحت عنوان"الاستخبارات الأجنبيّة"، فئة 105 وتمّت الإشارة إلى عدد منها على أنّها متعلّقة بما يُعرَف"اس - الشرق الأوسط"وهي تسمية يطلقها مكتب التحقيقات الفيديرالي على إسرائيل. وسهّلت التغييرات التي طاولت قانون حريّة الإعلام قبل صدور قانون"باتريوت"جهود"أف بي آي"للاحتفاظ بقسم كبير من ملفّ سعيد في دائرة السريّة - وكأنّ موضوع حلّ السيادة الفلسطينيّة منذ عشرين أو ثلاثين سنة متّصل في شكل وثيق بحرب بوش على الإرهاب. ولا تزال أقسام كثيرة من ملفّ سعيد مكتوبة مع أختام وُضعت عليها، للإشارة إلى أنّها تبقى سريّة حتى العام 2030 أي بعد 25 سنة من عمليّة جمعها الأساسيّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ تقريراً سرياً واحداً يعود الى العام 1973 استثنيَ من جدول المعلومات السريّة بموجب القرار 11652، استثناء فئة 2، ووضع مباشرة في خانة رفع السريّة. وتقلّل هذه العمليّة الإداريّة لإعاقة التصديق على مشروع قانون جديد، من قدرتنا على فهم الماضي وتعقّد عملنا في توثيق دور"أف بي آي"في تقويض التحرّكات الديموقراطيّة المحليّة. وفي شباط فبراير 1972، أعدّ عملاء مكتب التحقيقات الفيديرالي في نيويورك تقريراً يحتوي على عمل سعيد في جامعة كولومبيا وعنوان سكنه ورقم هاتفه، وتضمّ المعلومات إشارة إلى أنّ الخدمة الهاتفيّة في منزله مزوّدة من شركة هاتف نيويورك. وتم استخدام هذه المعلومة لاحقاً لطلب لائحة بالمكالمات الهاتفيّة الواردة على هاتف سعيد المنزلي. وأشار تقرير آخر صدر في تموز يوليو 1972 إلى أنّ سعيد"تلقّى اتصالاً هاتفيّاً من شخص كان خاضعاً لمراقبة مكثّفة من الپ"أف بي آي". وكتب عميل المكتب الفيديرالي في نيويوك أنّ"أسباب الاتصال هي نشاطات البروفسور وعلاقته الوديّة -...]فراغ في الملفّ ومسائل لم يتمّ التأكّد منها". وبعد أشهر على الهجمات التي طاولت الأولمبياد في ميونيخ عام 1972، تبيّن أنّ لمكتب التحقيقات الفيديرالي مصلحة في مراقبة سعيد وأميركيين آخرين من أصل فلسطيني. وفي بداية شهر تشرين الأول 1972، قام جهاز"أف بي آي"في نيويورك بتحقيق ضمّ معلومات عن أصل سعيد ومواطنيّته، وكذلك عن سجلاته الانتخابيّة والمصرفيّة وبطاقات اعتماده. وأعطى الموظّفون في جامعتَي"برينستون"وپ"كولومبيا"عملاء"أف بي آي"معلومات عن سيرته الذاتيّة وتحصيله العلمي وقدّم مكتب المتخرجين في جامعة هارفرد"معلومات مفصّلة الى مكتب التحقيقات أيضاً. وبحسب ما يشير الباحث في قضايا الشرق الأوسط ستيف نيفا،"بالعودة إلى الماضي، لعلّ فترة ما قبل ميونيخ شكّلت نقطة تحوّل تاريخيّة عندما أصبحت البيانات الداعمة للقضيّة الفلسطينيّة توضع في خانة دعم الإرهاب". واتّصل مكتب التحقيقات بمخبريه الخاصين بالشرق الأوسط في بوسطن ونيوارك ونيويورك لجمع معلومات عن سعيد. وأشار أحد التقارير إلى أنّه"تمّ الاتصال بمصادر سريّة متعدّدة لديها علاقة وثيقة بالشرق الأوسط [فراغ في الملفّ] في الولاياتالمتحدة ما بين عامَي 1972 و1973 غير أنّها لم تتمكّن من الإدلاء بمعلومات تتعلّق بإدوارد ويليام سعيد". وخلال هذا التحقيق، قام عملاء"أف بي آي"بالكشف عن مقال نُشر عام 1970 في صحيفة"بوسطن غلوب"وعنوانه:"بروفسور في جامعة كولومبيا يلوم التصرّف العنصري في الصراع العربي - الإسرائيلي". ... وفي كانون الثاني يناير 1973، قام مكتب التحقيقات الفيديرالي بالتدقيق في معلومات إضافيّة عن خلفيّة سعيد وسجلّه العدلي وأوصى بعدها العميل الخاص المسؤول في نيويورك بإغلاق هذه القضيّة في شباط من العام نفسه. ولكن في الشهر التالي بدأ تحقيق لپ"أف بي آي"عن شخص سافر إلى الولاياتالمتحدة عام 1971، وأُعيد من جديد فتح التحقيق في ملفّ سعيد باعتباره أحد الأشخاص الذين خضعت مكالماتهم الهاتفيّة لمراقبة"أف بي آي"، واشتبه بإنّهم قد يكونون على صلة بالنشاطات العربيّة الإرهابيّة. وتبقى هذه الصلات المزعومة غير مؤكّدة بما فيها علاقة سعيد بهذا النوع من النشاطات غير أنّه غالباً ما يتمّ استعمال هذا الربط لإبقاء التحقيق جارياً. وبدأت مذكّرات"أف بي آي"في تلك الفترة بمناقشة إنشاء مذكّرة يُذكَر في أعلاها بأنّها صادرة عن مكتب التحقيقات الفيديرالي، ومن شأنها أن توزَّع على وكالات الاستخبارات الأجنبيّة. ولم يتمّ تحديد الوكالة أو البلد الذي سيتسلم هذه المذكّرة، لكن الموساد الإسرائيلي شكّل احدى الوجهات المحتملة. وبعد نتائج حرب"يوم كيبور"جمع جهاز"أف بي آي"عدداً من مقالات إدوارد سعيد ومقابلاته في الصحف. وتضمّن ملفّه مقالاً في صحيفة"نيويورك تايمز"جاء فيه أنّ العلاقات بين العرب واليهود في الشرق الأوسط لطالما طُبعَت بتحريض بعضهم على بعض، بدلاً من الوقوف ضدّ"القوى الإمبريالية". وعام 1974، تلقّى مكتب التحقيقات معلومات بأنّ سعيد سيلقي كلمة في مؤتمر المنظّمة الكنديّة - العربيّة في ويندسور، أونتاريو، فلاحق المكتب كالعادة تحرّكات سعيد على رغم أنّ أحد مخبري"أف بي آي"كشف أنّه"لا يعتبر سعيد من النوع الذي يتورّط في أي نشاط إرهابي". أمّا في ملفّ سعيد عام 1978، فلم يدوّن مكتب التحقيقات أي مقدّمة، وفي ذلك العام أيضاً صدر كتابه المميّز"الاستشراق". وفي تموز يوليو 1979، لخّص تقرير لمكتب التحقيقات معلومات عن 36 شخصاً أسماؤهم غير واردة في التقرير الذي نُشر يتحضّرون للمشاركة في المؤتمر الأميركي لفلسطين في آب أغسطس 1979 في فندق شورهام أميريكانا في واشنطن. وأشار"أف بي آي"إلى أنّ سعيد كان عضواً سابقاً في مجلس المؤتمر. وتشير أجزاء من فقرات حول مشاركين لم تُحدّد أسماؤهم، إلى المؤتمرات التربويّة والسياسيّة السابقة التي شاركوا فيها، وتمّ الكشف عن صلة أحد مخبري"أف بي آي"بمؤيّدي حزب البعث العراقي. ... وتظهر مراقبة مكتب التحقيقات للمؤتمر في ملحق تقرير سريّ يُشار فيه إلى أنّ سجلات المشاركين خضعت للتدقيق من قبل مكتب"أف بي آي"المعني بالأمر في 25 مدينة محدّدة بالتسلسل الأبجدي من ألباني إلى واشنطن. ويحتوي هذا التقرير على ملخّص عن كلّ مشترك. فيرد في ملخّص سعيد مثلاً أنّه من جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك وهو منتسب إلى الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. وتُبرز فقرات أخرى اهتمام"أف بي آي"بملاحقة عدد من المشاركين المتعاطفين مع الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. ولعلّ هذا المؤتمر الفلسطيني هو أكثر جهد ديموقراطي ومدروس قام به الفلسطينيّون الأميركيون المهاجرون لتوجيه أهداف الصراع الفلسطيني. وتابع مكتب التحقيقات باهتمام وقلق كبيرين، كيف أنشأ المؤتمر لجنة تحضيريّة من شأنها تحضير آليّة عمل. ... مسألة إرهابية في أيار مايو 1982، أرسل عميل"أف بي آي"الخاص المكلّف في نيويورك، تقريراً سريّاً إلى مدير مكتب التحقيقات الفيديرالي وليام ويبستر يذكر فيه أنّ اسم سعيد"لفت انتباه المكتب الفيديرالي في نيويورك في سياق مسألة إرهابيّة". واتصل مقرّ"أف بي آي"بقسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجيّة لمعرفته بسعيد. وبعد أسبوع أُضيفت صورة لسعيد إلى الملفّ بينما كان يتحدّث في مؤتمر الحملة الفلسطينيّة الوطنية لحقوق الإنسان في كانون الأول ديسمبر 1980. وتمّت إضافة قُصاصة من إحدى الصحف عام 1982 بهدف الربط بين زوجته مريم ومنظمة التحرير الفلسطينيّة لتمويل ظهور إعلان مناهض لإسرائيل في صحيفة"نيويورك تايمز". وخلال صيف 1982، أُوقِف شخص لم تُعرَف هويّته، وتمّ ترحيله خارج الولاياتالمتحدة، وحصلت قوى الأمن على نسخة من المستندات التي كانت في حوزته ومن بينها ورد اسم إدوارد سعيد ورقم هاتف منزله. ولا تزال الملفّات المتعلّقة بسعيد وبهذا الترحيل في قبضة مكتب التحقيقات ويتمّ التدقيق فيها وفق عمليّة الأمن القومي. وفي 3 أيلول سبتمبر 1982، أوصى مدير مكتب التحقيقات الفيديرالي ويبستر كل مالكي المكتبات في كوانتيكو باستعمال فهرس صحيفة"نيويورك تايمز"على الحاسوب لتحديد كل المراجع التي يرد فيها اسم سعيد. وأدّى ذلك إلى ظهور تقرير آخر يقع في 13 صفحة يضمّ أجزاء من 49 مقالاً في"نيويورك تايمز"يظهر فيها اسم سعيد. وتتدرج هذه المقالات من كتابات سياسيّة ونقد للكتب بقلم إدوارد سعيد نفسه، إضافة إلى مقالات عنه. وتجدر الإشارة إلى أنّ محرّك البحث على الإنترنت غوغل الخاص بپ"أف بي آي"لطالما استعمل خدمة معلومات صحيفة"نيويورك تايمز"لجمع معلومات عن الأشخاص أو المنظمات. ويورد ملفّ سعيد لدى"أف بي آي"كما وصلني، في خاتمته تقارير قليلة من العام 1983 أُعيد تصنيفها حتى العام 2030 ومذكّرة بالغة السريّة تعود إلى آب 1991 وجاء في نهايتها أنّ"أف بي آي""قد يودّ الاتصال بقسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجيّة للحصول على معلومات إضافيّة عن سعيد". ومن اللافت أنّ ملفّ سعيد لدى مكتب التحقيقات كما ورد إليّ لا يضمّ أيّ معلومات حول الاثنتي عشرة سنة المتبقيّة من حياته. وهذا ما يدعو إلى التساؤل عمّا إذا توقّف مكتب التحقيقات عن مراقبته أو أنّه لم يتمكّن من تحديد مكان هذه الملفّات، أو أنّ المكتب لن ينشر هذه المعلومات، أو حتّى نفي وجود هذه المعلومة في الملفّات. ويبدو أنّ الاحتمالين الأخيرين هما الأقرب إلى الحقيقة. لم يكن عدد المرّات التي أعلن فيها إدوارد سعيد نبذه كل أشكال الإرهاب مهمّاً لمكتب التحقيقات الذي استمرّ بمراقبته. وعلى رغم أنّ"أف بي آي"قرأ اقتراح دستور المؤتمر الأميركي لفلسطين الذي وضع في ملفّ سعيد عام 1979، ولمس التزام المجموعة دعم"حقوق الإنسان والحقوق الوطنيّة الأساسيّة لكل الشعوب، وإعلانها رفض العنصريّة على أنواعها بما فيها الصهيونيّة ومناهضة الساميّة"، إلا أنّه استمرّ في البحث عن صلات سعيد بالإرهاب. وكانت مراقبة"أف بي آي"لإدوارد سعيد مشابهة لتلك التي قام بها المكتب لمثقّفين أميركيين من أصل فلسطيني. فيسجّل ملفّ"ابراهيم أبو الغود"لدى"أف بي آي"طريقة مراقبة مشابهة على رغم أنّ ملفّات"أبو الغود"تظهر محاولة"أف بي آي"لتمويل تهديدات تهدف إلى مقابلته لجمع المعلومات عنه. وبعدما قرأت مئات تقارير مكتب التحقيقات التي تلخّص مراقبة أعمال بعض المثقّفين، فوجئت بغياب أي تحليل لپ"أف بي آي"عن كتاب سعيد"الاستشراق". وهذا لافت نظراً إلى قول بعض الباحثين على غرار عالم الانتروبولوجيا في معهد هوفر، ستانلي كورتز في شهادته عام 2003 أمام اللجنة الفرعيّة للتعليم، أنّ انتقاد سعيد لما قبل الاستعمار أدّى إلى إضعاف مساهمة الباحثين الأميركيين في دراسات الشرق الأوسط في حرب بوش على الإرهاب. ونظراً الى ما يتوفّر من معلومات عن طريقة مراقبة"أف بي آي"للتطوّرات الجذريّة الأكاديميّة، لا يبدو أنّ عملاً ككتاب سعيد أفلت من تحليل مكتب التحقيقات ولهذا لا بدّ من أنّه يرد ضمن ملفّات لم تُنشَر بعد. لكن تغيب بعض المعلومات البديهيّة عن الملفّ الموزّع، ومن بينها التهديدات بالموت التي تلقّاها سعيد، وسجلات عن عناصر الشرطة المتخفيّة التي أمّنت له الحماية في عدد من النشاطات العامة. فما من سبب وجيه لإخفاء هذه السجلات من الملفّ، كما أنّ غيابها يعطي حجّة إضافيّة على أنّ هذا الملفّ لم يُنشَر كاملاً خلافاً لما يزعم مكتب التحقيقات. وتبقى أسباب وجود ثغرات زمنيّة ورئيسة في ملفّ سعيد غامضة. ولعلّ كتاب"المحاكمة"يقترح تفسيراً لهذه الثغرات إذ يذكر الكتاب حالات قضايا مشتبه بهم لا تتمّ تبرئتهم من الاتهامات، ولكنّهم يحصلون في المقابل على براءة ذمّة وهميّة يبقى بموجبها الملفّ مفتوحاً لسنوات، ويترنّح إلى الأمام وإلى الوراء، ويخضع لترحال لا ينتهي. وربما تتحرّك هذه الوتيرة ضمن مكتب التحقيقات الفيديرالي الذي اكتسب قوّة أكبر إثر التشريعات التي صدرت ما بعد 11 أيلول. ويهدف هذا التحرّك نفسه إلى إلهاء الرأي العام عن اعتراف"أف بي آي"بالمضايقات المستمرّة التي تعرّض لها"إدوارد سعيد". الكتاب الأخير لادوارد سعيد "الانسنية والنقد الديموقراطي" هو آخر كتاب وضعه ادوارد سعيد، لكنّ الموت لم يتح له أن يراه مطبوعاً فصدر بعد وفاته. الترجمة العربية لهذا الكتاب صدرت حديثاً لدى دار الآداب بيروت وقد أنجزها الكاتب اللبناني فوّاز طرابلسي. ويكتب الناشر على الغلاف:"هذا الكتاب هو وصية ادوارد سعيد. جمع مواده ونقحها ودفع بملزماته للطبع، ثم وضع قلمه وغادرنا قبل أن ينتظر النشر. هنا تتكثف الأوجه المتعددة والمتكاملة لشخصية فذةٍ من أبرز الشخصيات الثقافية في عصرنا. يعرض ادوارد سعيد في المحاضرات الخمس التي يضمها الكتاب خلاصة تطوره الفكري والأدبي وقد تأوّج في التزامه الفكر الأنسني بمنهجه العلماني التقدمي. الى هذا، يمارس"القراءة المقربة"للعشرات من الأعمال، بما فيها كتاب محاكاة لإريش آورباخ، أبرز سفرٍ في النقد الأدبي المعاصر، ليسلمنا آخر تأملاته في ذلك الفعل الذي سحره طوال حياته: الكتابة. إعداد قسم الترجمة في "الحياة"