الدول العربية تنادي بتشجيع الاستثمارات الأجنبية، وعودة الأموال العربية المهاجرة. وهذه أمانٍ طيبة تصطدم بمعوقات شرسة جعلت الكثيرين"يفرّون"إلى الخارج مكرهين! فأهل الخليج استثمروا حوالى 240 بليون دولار في شركات عالمية بين 2000 و 2004 ويقدر معهد التمويل الدولي في تقرير صدر في آب أغسطس الماضي ان الرقم سيقفز إلى حوالى 360 بليون دولار في 2005 و2006، ناهيك عن الاستثمارات الضخمة الأخرى في الأوراق المالية والعقارات وغيرها... الخ. الغريب أننا نتحدث عن بيئة استثمارية جاذبة وحشد إعلامي غير مسبوق حتى إن إعلامنا في الآونة الأخيرة تخطى الحدود إلى الإعلان في الشرق والغرب، مروجاً لفرص استثمارية نادرة في عالمنا العربي! مبرزاً المزايا مخفياً العيوب! وفي مقدم المعوقات في وجه الاستثمار الأجنبي والوطني البيروقراطية البغيضة الطاردة للاستثمارات من القوانين والأنظمة واللوائح المعقدة التي عفا عليها الزمن، تمثل الوجه القبيح البعيد من الاقتصاد الحر المفتوح تغذيها جهود وقصور رؤى معظم القائمين على تطبيقها. هذه القيود مدعومة بمقومات اشد كراهية مدسوسة سراً وعلناً ضد الاستثمار، الفساد والرشاوى والإكراميات تحت الطاولة وفوقها مع غياب الشفافية حتى يحكم على الاستثمار بالفناء والهجرة وسط غابة"الروتين"والتشريعات البالية تتنازع اختصاصات الاستثمار، فالوطن العربي يتميز بتعدد هيئات وجهات الاستثمار التي تتصارع على تنازع اختصاصاته وسط بيروقراطية عفنة لا نظير لها تخصصت في خلق عقد ضد الاستثمار وصل في بعضها إلى أكثر من 120 عائقاً! تقف عقبة، كأداء لا يمكن تجاوزها، تدفن الاستثمار وأصحابه في الوحل. السوق السعودية مثلاً خسرت أكثر من خمسة آلاف مستثمر وسط تجاهل واضح من الجهات الإدارية والاقتصادية والاستثمارية السعودية، التبرير جاهز لا عناء فيه، الاقتصاد السعودي حر مفتوح، والمستثمرون من حقهم دخول السوق والخروج منها! هذا منهج قد يكون مقبولاً إذا كان المستثمر أجنبياً... لكن ابن الوطن وصاحب الوطنية لماذا هاجر؟ لا بد ان يكون هناك سبب وألف سبب! وراء هذا الطرد الحقيقي والمنظم للتوجه إلى الأسواق الخارجية لتندني فرص الاستثمار السعودية أهو الفساد؟ أم البيروقراطية الإدارية؟ أم ضعف الشفافية أم ماذا؟ لا بد من البحث ومعرفة العلة، لوصف الدواء لاستقطاب رؤوس الأموال بدلاً من خروجها... والعلة معروفة! على سبيل المثال في صناعة الذهب والمجوهرات التي هاجرت تفقد السوق السعودية أكثر من بليون ريال سنوياً يمثل أكثر من 35 في المئة من حجم الاستثمارات في صناعة الذهب وتجارته، التي تصل إلى أكثر من 4 بلايين ريال... وعلى ذمة دراسة لمجلس الغرف السعودية فإن 12 في المئة من المصانع الوطنية السعودية هاجرت لتستضيفها بكرم عربي الدول الشقيقة المجاورة! لماذا حرمت من الحوافز والمزايا في وطنها الأم؟ أهي القوانين والأنظمة واللوائح؟ أم بيروقراطية الإدارة التي تصفع الأبواب في وجه حتى زيادات رأسمال بعض الشركات المساهمة، ما قلل من فرص الاستثمار ومن ثم زادت هجرة السيولة النقدية إلى خارج الوطن! لتخلق قاعدة قوية لمشاريع تنموية ضخمة خارج الحدود أم أنها غابة لا حدود لها من الكل! ووسط الصراخ لجذب الاستثمارات لدعم النمو الاقتصادي هاجرت أموال عربية إلى الشرق والغرب اختلفت التقديرات بشأنها وُظفت بشكل مباشر وغير مباشر في الأوراق المالية والودائع المصرفية والعقارات... الخ قدرت بين ترليون و 2400 بليون دولار، مع هذا وليطمئن الجميع فبعض الدول تحتفل بهجرة المستثمر إذا غادر احتفاء به كوداع الشاعر الجاهلي لمحبوبته هريرة. ودع هريرة إن الركب مرتحلُ فهل تطيق وداعاً أيها الرجلُ الاقتصاد السعودي يواجه مشكلة تضخم السيولة، سوق الأوراق المالية مثلاً تبلغ القيمة السوقية للشركات السعودية المدرجة في السوق أكثر من 2.4 تريليون ريال! في السعودية أصبحت السيولة النقدية معضلة، وعند الآخرين"ميزة"كبرى، لم يحسن حتى الآن الاستفادة منها اقتصادياً بشكل كامل، فالارتفاع التاريخي لأسعار النفط وعودة جزء محدود من الأموال التي هاجرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عندما هب بعض المستثمرين لسحب بعض استثماراتهم من أميركا وأوروبا أسهم في دفع عجلة زيادة السيولة النقدية. لكن على الجانب الآخر لم يخطط علمياً ومالياً وإدارياً واقتصادياً كيف تستثمر هذه الأموال؟ القنوات والأوعية الاستثمارية محدودة، سوق الأسهم التي طغت وتجبرت على العقار"تشبع"إلى النخاع حتى الشركات الخاسرة تحول فشلها إلى ربح! لماذا؟ جَهل الكثيرون بالسوق وضعفت الرقابة على أداء الشركات ومجالس إدارتها، فغابت المحاسبة مع محدودية تدفق المعلومات، وهذا سبب لخلق الفوضى وتجسيم الأخطاء في حق المستثمرين والدولة والمواطنين! وتطبيقاً لمبدأ الاقتصاد الحر فإن الواجب هو كبح جماح البيروقراطية. والحجر على الفساد الاقتصادي والإداري والمالي بكل أشكاله وإعادة النظر في بعض القرارات المعوقة من خلال تقديم دراسات علمية مقنعة كحال المجوهرات والمستثمرين الذين هاجروا! ولا شك أن سن القوانين والأنظمة واللوائح الواضحة المدروسة وتحكيم القضاء وتنفيذ أحكامه منى دون تلاعب أو تأخير فيه تكريس للعدالة والمساواة! ودعم للاقتصاد والتنمية. ولنا أن نتساءل إذا"استمر الحبل على الجرار"في استنزاف الأموال الوطنية مهاجرة، وهروب الاستثمارات الأجنبية التي وقفت عقوداً من الزمن سداً منيعاً يمنع انسياب الاستثمارات الأجنبية إذا لم تذلك على الأقل أهم العقبات، كم يخسر العالم العربي من فرص وظيفية لمواطنيه؟ وكم يخسر اقتصاده ومصانعه ورجال أعماله والمستثمرين الأجانب الذين"تصفد"الأبواب في وجوههم؟ وهو يضع كل هذه العقبات التي تتفاوت من شدة الروتين العفن إلى الفساد الشرس وما خفي أعظم! مفكر سعودي، رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة.