ماثيو لوكوود، مؤلف الكتاب وعنوانه الفرعي:"برنامج العمل الدولي والفقر في أفريقيا"، نشرته في 2005 ببريطانيا دار ITDG، مستشار تنمية، وتولى مهمات عالية في منظمتين غير حكومتين عملتا وتعملان بأفريقيا. ويوجز كتابه تجربة ميدانية طويلة. وتتقدم المقارنة بين أفريقيا وبين آسيا أبواب الكتاب. وهي معتمد مقترحاته ومرجعها. فيذهب لوكوود الى ان حاجة الاقتصاد الافريقي الأولى إنما هي الى الخروج من الاقتصار على تصدير الخامات الأولى والمنتجات الزراعية. وهذا سبيله تنويع الانتاج، على مثال الاقتصادات الآسيوية. وسبق هذه الاقتصادات نظائرها الأفريقية على طريق التنويع هو من معوقات النمو الافريقي، على هذا المثال الآسيوي. فالسبق أدى الى بيع سلع قد تتولى اقتصادات أفريقية انتاجها أو صنعها بأثمان أرخص. وأدى كذلك الى صنع سلع من مرتبة تكنولوجية عالية "هاي تيك"، وقطع الطريق على نظير أفريقي تأخر. والتصدير الصيني في العقدين الأخيرين بلغت قيمته الإجمالية 225 بليون دولار في عام 2000، وكانت بنحو 5 بلايين في 1985. ونهاية اتفاق النسيج الوشيكة تعرض بلداناً مثل كينيا وليسوتو، بعد إلغاء نظام الحصص الكوتا، الى اجتياح الصناعتين الصينية والهندية. والمنافسة الصينية، على وجه الخصوص، لا تستقوي بانتاجها وحده، بل تستقوي أولاً بسياسة الدولة ورعايتها المتعمدة نمواً اقتصادياً ما كان يتصور لولا اضطلاع الدولة بوظائفها الانمائية في الصين وآسيا الناشئة عموماً. ومسألة كتاب لوكوود المركزية هي هذه: لماذا لم تنشأ بأفريقيا دول تتعهد الانماء الاقتصادي على الشاكلة الآسيوية؟ ما هي العوامل التي حالت بين هذا النمط من الدول وبين نشوئها بأفريقيا؟ والجواب من شقين. ويتناول الشق الأول وصف الدولة الآسيوية،"متعهدة الإنماء الرأسمالي". فمثل هذه الدولة تقدم التطوير الاقتصادي، أي النمو والانتاجية والمنافسة وليس الحماية الاجتماعية، على غايات الدولة الأخرى. وتتمسك بالملكية الخاصة والسوق، ولكنها تقوم بإرشاد السوق بأدوات تصنعها بيروقراطية اقتصادية منتخبة، وتستشير الدولة القطاع الخاص، وتنسق خطواتها واجراءاتها وإياه من طريق هيئات كثيرة. وبينما تضطلع الادارة العامة بالتدبير والقيادة، يتولى رجال السياسة الحكم، فينشئون إطاراً سياسياً يتيح للادارة ان تعمل، ويشترطون عليها الانتباه الى مصالح الجماعات التي يتعلق الاستقرار بها، ويحتاج اليها. وتوجه الدولة التي تتعهد الإنماء الى التربية والتعليم شطراً كبيراً من الاستثمارات"التحتية". ومن هذا الوصف، يستخلص ان الدولة المتعهدة الانماء هي دولة"قرينة"أو شريكة، تتعهد التربية والبنى التحتية والإطار الاقتصادي العام وضبط السوق. وهي دولة"توجيه"وتدخل في سوق العمل والسوق العقارية وأسواق المنتجات والأسواق المالية. وتتوسل بالسياسة التجارية الى حماية بعض الصناعات والقطاعات، حيناً، والى تشجيع الصادرات، حيناً آخر. ولا تقتصر هذه الدولة على"انتخاب المتفوقين"والناجحين، بل تقدم على إنشائهم وتبعثهم على الوجود: فتحفز إنشاء المجمعات المصرفية والصناعية، وتضبط الأسعار، وتحث على التوفير، وتسن تشريعات ضريبية مناسبة ومتفاوتة، وتسلف وتدعم التسليفات، وتوزع العملة الصعبة على معايير، وتستعمل أدوات الحماية من تعريفات جمركية وحصص وتقييد"إرادي"للصادرات، وتملي أسعار صرف قاسية، وتستثمر في نقل التكنولوجيا والتأهيل والأبحاث والتطوير، وتؤمم بعض الشركات الصناعية، وتقوم بإصلاح زراعي يقيد ملكية الأرض. والمنازعات الافريقة الأهلية والاقليمية ليست علة وافية. فتانزانيا وزامبيا وكينيا والسنغال وشاطئ العاج قبل 2003، والملاوي وغانا، لم تكن مسرح منازعات أهلية مدمرة. ولعل هذه المنازعات هي ثمرة سيرورات سياسية أفضت الى تقويض الدولة بأفريقيا. فعلى خلاف شرق آسيا جنوب شرقها وشمال شرقها، تولت الدول الافريقية إحباط تعبئة الموارد والاستثمار المنتج، ومصدرهما الدول المانحة وليست الجماعات الاقتصادية الداخلية. فالمجتمع المدني في البلدان الأفريقية لا يقل ضعفاً عن دول هذه البلدان. وأرست نخب أفريقيا، غداة التحرر من الاستعمار، سلطانها على نظام حمائي. فالموارد التي وزعها القادة والزعماء على أنصارهم، أو مواليهم وزبائنهم، مصدرها الدولة. واختصرت هذه في المناصب والوظائف ومساعدات القطاع العام وپ"دعمه". ووسعت القيادات والزعامات توزيع الموارد الى تعويضات العملة الصعبة، والتسليفات المتهاودة والتشجيعية، وإجازات الاستيراد. فأمست فرص الاستيلاء على الريوع موضوع الرعاية أو"الواسطة" الأول. وتوزع على المحاسيب والأنصار والأزلام لقاء الولاء السياسي. فلا عجب إذا تهددت الاصلاحات التي ترمي الى تحرير الأسواق من بعض الضوابط الثقيلة والتجارة، أو الى تقليص الاستخدام والتوظيف في القطاع العام، وبيع الشركات الحكومية، لا عجب إذا تهددت النظام برمته. وحين اضطرت القيادات والزعامات السياسية الى كبح النفقات العامة أو تقليصها، سعت في حماية أصحاب الوظائف المركزية، ذات الدور السياسي البارز، على حساب أصحاب الكفايات المهنية والفنية العالية. وقدمت أهل المدن الأكثر ثراء على أهل الأرياف الفقراء، حين اضطرت الى لجم نفقات الصحة والتربية. ورعت النفقات السيادية، مثل السفارات في الخارج والبعثات والممثليات الى القوات المسلحة في الداخل، ولم تهاود في شأنها، ولا في شأن النفقات السرية. فالدولة، على هذا، لا تحجم عن تعهد الإنماء وحسب، وإنما هي تعادي الإنماء، وهي نقيضه. فما هو المنطق السياسي الذي يرعى تماكسها؟ كان"الحكم غير المباشر"هو المثال الذي اعتمده الاستعماران الفرنسي والبريطاني في المستعمرات الافريقية. فأبقيا على طبقة فلاحين"أحرار"، غير مسترقين، تولت العمل في الأرض في عهدة"رئاسات تقليدية"، اصطنع بعضها اصطناعاً، وبعضها الآخر جدد دوره وعرف تعريفاً مختلفاً ومناسباً. ونصبت المشيخات القبلية"دولاً"متراتبة. وتلازم التفاوت المرتبي السياسي مع تفاوت مدني. فإلى التشريع القانوني العام، أعملت تشريعات عرفية متوارثة في العلاقات غير الاقتصادية مثل الأرض والأحوال الشخصية والطائفية "القومية"أو الأقوامية. وعليه، كان"المحليون"رعايا رؤساء القبائل ومشايخها، ولم يكونوا مواطنين يتمتعون بحرية التعاقد في ما بينهم وانتخاب ممثليهم السياسيين في إطار حق مدني. فحكم الرؤساء القبليون بمزيج من الإكراه المتسلط والزبائنية. وعاد اليهم تعيين الموظفين في الإدارات. فنجم عن هذه الحال تثبيت الهوية"القبلية"أو الإثنية. وحين حدثت انتفاضات وپ"هرجات"، اصطبغت بصبغة قبلية أو اثنية. ورمت الانتفاضات الى الحلول محل السلطة المتربعة، وليس الى تغيير نظامها أو مثالها. فانشعبت الدولة شعبتين متباينتين: واحدة في المدينة، وأخرى في الأرياف. وأفضى الحكم غير المباشر الى سلطة غير مركزية. وحين استولى أهل المدينة على الدولة، غداة الاستقلال، عمدوا الى تعبئة الرئاسات المحلية، الريفية والقبلية، في انتخاباتهم، والى شراء"الأصوات"بالنافع المادية العينية مثل الطرق والمدارس والمستوصفات ومياه الشفة، وشراء المرشحين والوجهاء بالرشاوى والاجازات والتسليفات والأراضي. ودارت العلاقة السياسية على محور الشخصيات والأفراد. وجاز للمنتصر أن يستولي على"الدولة"كلها، وأن يصادر الخصم، ويجرده من"ممتلكاته"ومكاسبه وغنائمه. فانقلب الاستيلاء على السلطة الى حرب دامية. ولم يبق للمعارضة، والحال هذه، إلا مورد الهوية القبلية أو"القومية"الإثنية، وتأجيجها والتلويح بها في انتظار الاستيلاء على الحكم، وتوظيف الأهل، وتوزيع المنافع عليهم، ونفخ الدين العام، واستجداء المنح والهبات. عن مارسيل غوشيه وكريستوف بوميان، "لوديبا" الفرنسية. 11/12/2005