Sylvie Brunel ed.. Geopolitique de la Faim. الجغرافية السياسية للجوع. presses Universitaire de France, Paris. 1999. 310 pages. "الجغرافية السياسية للجوع" كان هو العنوان الأخّاذ لكتاب اصدره قبل نحو نصف قرن من الزمن الطبيب البرازيلي جوزي دي كاسترو يفضح فيه تحول الجوع من ظاهرة طبيعية الى ظاهرة سياسية. وقد غدا هذا الكتاب، الذي ترجم في حينه الى العشرات من لغات العالم - بما فيها العربية - من كلاسيكيات أدبيات التخلف. فالجوع لم يعد، في العديد من بلدان العالم الثالث، يجد تفسيره في نقص موارد الغذاء من جراء الجفاف والتصحر البيئي والانفجار السكاني، بل ايضاً، وعلى الأخص، في التنظيم الاجتماعي - الاقتصادي والسياسات الظالمة التي تستهدف مناطق بعينها وطبقات بعينها وإثنيات بعينها. ولكن ما كان في مطلع الخمسينات من هذا القرن ظاهرة برسم الرصد غدا في نهاية التسعينات هذه حقيقة واقعة معممة. فاليوم، واكثر من اي وقت مضى، يقوم البرهان، ليس فقط في البرازيل ولا في اميركا اللاتينية التي استلهم جوزيه دي كاسترو أمثلته منها، بل كذلك، وعلى الاخص في معظم بلدان افريقيا السوداء، كما في بعض البلدان الآسيوية، على ان الجوع هو سياسة، ومن نتاج السياسة. ومن هنا فإن فريق العمل الذي أسهم في تحرير هذا الكتاب الجماعي - ومعظم اعضائه من العاملين في المنظمة الدولية للكفاح ضد الجوع - قد اختار ان يعود الى تبني عنوان كتاب جوزيه دي كاسترو. ففي نهاية القرن هذه تحول الجوع في ايدي الجماعات السياسية، من انظمة حاكمة ومعارضات، الى سلاح، وهذا الى حد أفقد المفهوم نفسه دلالته. فنحن لن نتكلم بلغة مطابقة لما يجري في العالم المعاصر الا اذا تحدثنا، لا عن جوع، بل عن تجويع. فالجوع، مثله مثل الدين بين ايدي الجماعات الأصولية، قد غدا موضوعاً للتسييس. والفارق بين الجوع والتجويع ان الأول واقعة طبيعية او بيئوية، على حين ان الثاني هو على الدوام واقعة سياسية. فالتجويع هو جوع مقصود ومرام ومخطط له. وهذا أصلاً ما يميز المجاعات التاريخية التقليدية عن المجاعات الحديثة المنظمة. فعندما يقول احمد تجان قباع، رئيس دولة سيراليون، ان "الأرز سلاح حربي"، فينبغي ان نصدقه فلئن يكن الغذاء هو موضوع الرهان في العديد من الحروب التقليدية بين البشر، فقد غدا في الحروب المعاصرة سلاح الحرب بالذات، لا سيما في بلدان العالم الثالث المتخلفة والفقيرة والجائعة. ويدلل سلاح الجوع المسيّس على فعالية فائقة في جميع البلدان التي تتلبس فيها استراتيجية السلطة طابعاً دينياً او طائفياً او قبلياً. فحيثما يكون مدار الصراع على السلطة بين اثنيات وطوائف وعصبيات قبلية، فانه يتحول بسهولة الى صراع غذائي ويأخذ شكل حرب تجويعية. وهذا قد يصدق على الحكومات القائمة كما على المعارضات المرشحة لأن تخلفها. فما دام الصراع على السلطة ليس محله البرلمان بل الأرض، وما دام المتصارعون ليسوا ممثلين رمزيين للجماعات التي ينطقون باسمها، بل هم الأعضاء الفعليون في الاثنيات او الطوائف المعنية بجماعها، فان الخصم السياسي يتحول بالضرورة الى عدو جماعي برسم الابادة، او في احسن الأحوال برسم القهر والاسترقاق. وصحيح انه في جبهات القتال بين القوى المسلحة المتواجهة يظل قرار الحسم للبندقية وللمدفع، ولكن خطوط الإمداد والتموين المدنية للمتقاتلين لا تقطع الا عن طريق الحصار الغذائي للاثنيات والطوائف التي يقاتلون باسمها. فالتجويع، كما التهجير كما الإبادة الجماعية، هو رفيق دائم للحروب الأهلية. المثال "الكلاسيكي" في هذا المجال هو مثال الحرب الأهلية الدائرة في السودان منذ يوم استقلاله عام 1956. فهذه الحرب بين الشمال الحاكم والجنوب المطالب باستقلاله او بحكمه الذاتي ما امكن لها ان تهدأ، بصفة مؤقتة، الا عام 1972 على إثر توقيع اتفاقيات أديس أبابا التي أقرت بالحرية الدينية والثقافية لأقاليم الجنوب الثلاثة. ولكن في عام 1983 خرقت هذه الاتفاقيات من كلا الجانبين: من الجنوبيين عندما أعلن العقيد جون قرنق عن انشاء "حركة تحرير شعوب السودان"، ومن الشماليين عندما اعلن الرئيس السابق جعفر النميري عن تطبيق الشريعة الاسلامية على البلاد بأسرها، من دون تمييز بين شمالها وجنوبها، ولا بين المسلمين والمسيحيين والوثنيين من سكانها. ولسنا معنيين هنا بتتبع التقلبات السياسية لهذه الحرب الأهلية التي كلفت السودان منذ تجدد اندلاعها عام 1983 والى اليوم نحواً من 1.5 مليون قتيل و5 ملايين مهجر، اي ما يعادل بالإجمال نحواً من 100 في المئة من سكان السودان البالغ تعدادهم 27 مليون نسمة. ولكن ما سنتوقف عنده بالمقابل الكيفية التي يستخدم بها سلاح الجوع لأهداف سياسية في بلد كان يفترض فيه، بحكم ثرواته الطبيعية من موارد الغذاء، ألا يعرف الجوع ابداً. فالحرب، الدائرة رحاها منذ اكثر من خمسة عشر عاماً، أنهكت اقتصاد البلاد واستنزفته حتى نخاع العظم. فباستثناء اقلية من بورجوازية الصفقات التي عرفت كيف تستفيد من "ليبرالية العمائم" على حد توصيف احدى منظمات حقوق الانسان للنظام الاقتصادي المعمول به منذ الانقلاب "الاسلامي" الذي نفذه عمر حسن أحمد البشير عام 1989، فان غالبية العشرين مليوناً من سودانيي الشمال لا تفتأ تغرق في بؤس مدقع. فهي لم تعد تملك أية وسائل مالية حتى شراء السورغو الذي ينتجه المزارعون السودانيون على رغم التدني المفترض في أسعاره منذ صدور مرسوم بمنع تصديره. وفي الوقت نفسه لجأ الفلاحون السودانيون، المغلولة أعناقهم بالديون، الى نوع من الإضراب المفتوح عن الانتاج نظراً إلى زهادة الثمن الذي تدفعه الحكومة مقابل الشراء القسري لمنتجاتهم. وإزاء هذا الاضراب غير المعلن عن الانتاج الغذائي تعمد الميلشيات المقربة من النظام الى اجبار الملايين السبعة من سكان الجنوب، وبخاصة النوبة، على العمل القسري في ما يكاد ان يكون ضرباً صريحاً من الرق الذي أعيد العمل به على كل حال في غربي البلاد وجنوبها. وحول الخرطوم نفسها يتجمع اكثر من مليون شخص من المهجرين ممن طردتهم الحرب من اراضيهم واجبرتهم على الاقامة في قلب الصحراء في مخيمات ضخمة اشبه ما تكون بمعسكرات "الابارتيد" في جنوب افريقيا. وحتى لا يتحول هؤلاء المهاجرون الى مقيمين دائمين، مما قد يخل بالتركيبة الديموغرافية لسكان الخرطوم، فإن البولدوزرات تقوم بصورة دورية بهدم مساكنهم الموقتة. ولا تنجو من هذا المصير حتى مباني المنظمات الانسانية غير الحكومية التي تتولى توزيع المعونات الدولية. وعلى أية حال فإن هذه المنظمات الخيرية - او بعضها على الأقل - قد تورطت هي نفسها في نوع من حرب تبشيرية. فليس يندر في الشمال كما في الجنوب ان تشرط بعض المنظمات المعونة الغذائية والصحية المقدمة من قبلها بالاهتداء او الارتداد الديني. ففي معسكرات اللاجئين حول الخرطوم ينشط التبشيريون الاسلاميون، وفي معسكرات الجنوب ينشط التبشيرون الانجيليون. وليس من قبيل الصدفة على كل حال ان تسجل وفيات الاطفال أعلى معدلاتها، في الشمال كما في الجنوب، في اوساط الجماعات الوثنية الاحيائية التي لا تستجيب لداعي "الاعتداء" الديني. وما يصدق على التبشير يصدق على التجنيد. ففي الشمال، في حزيران يونيو 1997، عمدت السلطات السودانية الى التجنيد الاجباري لنحو ثلاثين ألف طالب قدموا الى العاصمة لمراجعة نتائج امتحاناتهم للشهادة الثانوية. وعندما نظمت في كانون الثاني يناير 1998 تظاهرة احتجاجية للمطالبة بعودتهم اعتقلت السلطات 37 محامية وحاكمتهن في الليلة نفسها وصدرت بحقهن أحكام بالجلد. وفي الجنوب تقوم قوات العقيد قرنق بدورها بشن غارات مباغتة على القرى لتجنيد الآلاف من الأحداث بالقوة، ولإخلائها من سكانها ولإجبار هؤلاء السكان على الاقامة في معسكرات متنقلة حول الميليشيات المقاتلة لتتمكن هذه الميليشيات من الاستفادة من الأغذية والأدوية التي تقدمها المنظمات الدولية للمدنيين من نزلاء المخيمات. وعلى رغم علم هذه المنظمات الدولية بأن المعونات تذهب في الغالب الى المقاتلين لا الى المدنيين، فإنها لا تستطيع ان تجاهر بهذه الحقيقة ولا تعترض. فأي احتجاج او اعلان من هذا القبيل من طرفها يقابل من قبل السلطات الرسمية او الميليشيات بإغلاق مقرات بعثاتها وبترحيل اعضائها. ومن ثم لا تجد مناصاً من القبول بالابتزاز. والوااقع ان معونات المنظمات الدولية غدت هي نفسها موضوعاً للاقتتال في العديد من البلدان الافريقية التي تحولت في العقدين الاخيرين من القرن العشرين الى ساحات للحرب الأهلية وأخلت الدولة فيها مكانها للميليشيات وللعصبيات الاثنية والطائفية. ففي الصومال كما في ليبيريا كما في سيراليون كما في رواندا والكونغو وبوروندي، امسى الغذاء وسيلة للحفاظ على السلطة او للاستيلاء عليها. وفي هذا الصراع الذي لا يهدأ له اوار تجد منظمات المعونة الدولية نفسها بين ناري الحكومة والمارضة اللتين غالباً ما تتبادلان الأدوار. ومن ثم فقد شهدت السنوات الاخيرة احتدام الجدال في اوساط المنظمات الدولية غير الحكومية حول مدى جدوى المعونة وحول دورها في تأجيج نار الاقتتال. وقد قدرت احدى المنظمات ان ما يصل فعلاً الى المدنيين، بعد "الاقتطاعات" من قبل السلطات الحاكمة والميليشيات المعارضة، لا يتعدى في بعض الحالات القصوى 1.5 في المئة من اصل المعونة. ولكن مهما يثار من شكوك حول استراتيجية المنظمات الانسانية لمكافحة الجوع، بل حول اخلاقية العمل الانساني بالذات، فإن اليقين لاذي يخرج به قارئ هذا التقرير عن "الجغرافية السياسية الجديدة للجوع" هو ان وجود المنظمات الانسانية الدولية ضروري ليس فقط لتخفيف الآلام عن شطر ولو ضئيل من الجائعين فحسب بل كذلك للشهادة على ان المجاعات في العالم المعاصر لم تعد تهبط من السماء، وعلى ان الجوع الغالب على عالم اليوم هو الجوع المنظم سياسياً.