"سلمان للإغاثة" يوزع 2.459 كرتون تمر في مديرية الوادي بمحافظة مأرب    أمير القصيم يرعى حفل تدشين 52 مشروعا صحيا بالمنطقة بتكلفة بلغت 456 مليون ريال    فقيه للرعاية الصحية تحقق 195.3 مليون ريال صافي ربح في أول 9 أشهر من 2024 بنسبة نمو 49%    القبض على يمني لتهريبه (170) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    حاكم الشارقة يفتتح الدورة ال 43 من معرض الشارقةالدولي للكتاب    البنك الأهلي السعودي يطلق محفظة تمويلية بقيمة 3 مليارات ريال خلال بيبان24    الأمير محمد بن عبدالعزيز يدشّن فعاليات مهرجان شتاء جازان 2025    بانسجام عالمي.. السعودية ملتقىً حيويًا لكل المقيمين فيها    إيلون ماسك يحصل على "مفتاح البيت الأبيض" كيف سيستفيد من نفوذه؟    "البحر الأحمر السينمائي الدولي" يكشف عن أفلام "روائع عربية" للعام 2024    "ماونتن ڤيو " المصرية تدخل السوق العقاري السعودي بالشراكة مع "مايا العقارية ".. وتستعد لإطلاق أول مشاريعها في الرياض    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    أمانة الشرقية: إغلاق طريق الملك فهد الرئيسي بالاتجاهين وتحويل الحركة المرورية إلى الطريق المحلي    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير منطقة الباحة يستقبل الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للأرصاد    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    محافظ جدة يشرف أفراح آل بابلغوم وآل ناصر    «الإحصاء»: ارتفاع عدد ركاب السكك الحديدية 33% والنقل العام 176%    السعودية بصدد إطلاق مبادرة للذكاء الاصطناعي ب 100 مليار دولار    هاريس تلقي خطاب هزيمتها وتحض على قبول النتائج    الذهب يقترب من أدنى مستوى في أكثر من 3 أسابيع    إصابة فلسطيني برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحام بلدة اليامون    العام الثقافي السعودي الصيني 2025    المريد ماذا يريد؟    منتخب الطائرة يواجه تونس في ربع نهائي "عربي 23"    ترمب.. صيّاد الفرص الضائعة!    ترمب.. ولاية ثانية مختلفة    أربعينية قطّعت أمها أوصالاً ووضعتها على الشواية    قصص مرعبة بسبب المقالي الهوائية تثير قلق بريطانيا    صمت وحزن في معسكر هاريس.. وتبخر حلم الديمقراطيين    «البيئة» تحذّر من بيع مخططات على الأراضي الزراعية    الاتحاد يصطدم بالعروبة.. والشباب يتحدى الخلود    هل يظهر سعود للمرة الثالثة في «الدوري الأوروبي» ؟    «بنان».. سفير ثقافي لحِرف الأجداد    اللسان العربي في خطر    الإصابات تضرب مفاصل «الفرسان» قبل مواجهة ضمك    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    ربَّ ضارة نافعة.. الألم والإجهاد مفيدان لهذا السبب    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    الإصابة تغيب نيمار شهرين    التعاون يتغلب على ألتين أسير    الدراما والواقع    يتحدث بطلاقة    سيادة القانون ركيزة أساسية لازدهار الدول    التعاطي مع الواقع    درّاجات إسعافية تُنقذ حياة سبعيني    العين الإماراتي يقيل كريسبو    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    تقاعد وأنت بصحة جيدة    الأنشطة الرياضية «مضاد حيوي» ضد الجريمة    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    تطوير الشرقية تشارك في المنتدى الحضري العالمي    فلسفة الألم (2)    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف انبثقت القبيلة في العراق البعثي وتعاظم دورها، رغم بلوغ الدولة المركزية ذروة التمركز ؟
نشر في الحياة يوم 06 - 04 - 1998

سُوّدت صحائف كثيرة مؤخراً بمقالات ودراسات انطباعية، وصفية، مبتسرة لا تكاد تقارب القبيلة في مبناها ومعناها، نشأتها وتاريخيتها، بل ازعم ان هذه الاطلالات زادتنا جهلاً بواقع الحال. فالقبائل، من الوجهة السوسيولوجية، تنظيم اجتماعي اقتصادي، عسكري، وسياسي، له رئاسته، وقواعده الناظمة، الحقوقية والاخلاقية، وثقافته الشفاهية. انها كيان مكثف بذاته في العهود السحيقة. وهناك من يطلق على هذا التنظيم أو الكيان تسمية: الدولة المصغرة Mini State لتقريب فهم طبيعتها.
القبيلة، كنظام، وسمت التطور التاريخي لبقاع المعمورة كلها. فهي حلقة وسطى بين القطيع البشري، ودولة - المدينة City - State بل ان هذه الاخيرة لن تظهر الى الوجود، الا بتحالف قبلي يرسي أسسها، ويتحلل في كنف اسوارها. ومنذ ان تفقد القبائل المتوطنة لحمتها الاولى صلة الرحم كشكل للاتحاد البشري، حتى تبتدع ثنائية جديدة هي ثنائية البداوة والحضارة الخلدونية. وتقدم القبيلة لهذا العالم مادة لبقائه، مثلما تشكل الخطر الذي يهدده. فبفضل التلاحم الخاص العصبية والقوة العسكرية الخاصة مشاركة كل الذكور الراشدين تستطيع القبيلة الاستيلاء على الملك الحواضر، رغم احتماء هذه الاخيرة بالاسوار. لكن القبيلة اذ تدخل الحاضرة منتصرة، انما تلج المغرمة التي ستقطع لحمة عصبيتها ارباً. فالمدن فاتكات بلحمة العصبية الخلدونية.
صراع القبيلة والدولة وسم العهد الزراعي كله. ما كان للدولة معنى الا بوجودها كسلطة مركزية مضادة للقبائل. وما كان لوجود القبائل من معنى الا باحترابها مع المدن. في هذا العصر القبيلة ندّ للدولة، وخصمها. ابن خلدون أمسك بتلابيب هذه الدورة في نظريته عن صراع البداوة والحضارة، مع ذلك استثنى منها لفقرة العراق أرض السواد، لأنه أرض "علوج"، على حد تعبيره، اي أرض زراعة مستقرة، أرض فلاحين لا قبائل محاربة، جوابة. مع هذا لم تنج الرقعة التي صارت في الزمان الحديث "جمهورية العراق" من المد البدوي.
الفتح الاسلامي حمل أول موجة من القبائل العربية، المحاربة. بعد هذا التاريخ تتابعت موجات قبلية من طراز أو آخر، من جنوب أو شمال: الديلم، السلاجقة، المغول، الترك العثمانيون. والواقع، ان دفق القبائل الرعوية المحاربة لم ينقطع حتى اوائل القرن العشرين. هذا المد الهجرة، الدفق اياً كانت دوافعه، التماساً للغنائم حروب الفتح ام هرباً من قحط وجفاف، حوّل طابع رقعة العراق. وساهم عاملان في القضاء عليه كأرض "علوج". العامل الأول دمار منظومات الري على يد المغول 1258م. فهذا الشعب الرعوي، كما قال فيلسوف للتاريخ، لا يفقه اي معمار يتصل بالثقافة الزراعية ولوازمها. ادى دمار منظومات الري الى دمار واسع للزراعة، وتصحر زاحف، عاتٍ، حوّل النجف بين مدن اخرى الى مدينة عطشى على شفا صحراء، بعد ان كانت تطل على "بحر عظيم"، حسب مدونات التاريخ.
العامل الثاني: انتقال المركز السياسي للامبراطورية الاسلامية بعيداً عن بغداد الى سمرقند، بخارى، اسطنبول، الخ. هذا الوضع ادى الى اختلال العلاقة بين الدولة المركزية والقبائل في أرض الرافدين اختلالاً مزمناً حتى القرن التاسع عشر.
والقبيلة في العهد الزراعي، كانت نداً لدولة المدينة. اما في العصر الحديث، فتفقد هذه الندية، اذ تبدأ بالتفكك، وهناك قوتان تفتكان بالقبيلة: نشوء الدولة المركزية الحديثة، والاقتصاد التجاري الحديث.
فالدولة الحديثة غريم متفوق ينافس القبيلة ولا يستقر له قرار حتى يخضعها لسطوته، منتزعاً منها معظم وظائفها. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، كان المماليك الذين حكموا العراق مديداً، يشجعون نشوء اتحادات قبلية اكبر، ليسهل عليهم التعاطي مع مراكز قوة أقل. بعد زوال حكم المماليك 1823، بدأ ميل معاكس: اخذت الدولة المركزية في بداية عهد التحديث، تدفع باتجاه حل الاتحادات القبلية الكبرى. وتنتزع الدولة الحديثة من القبيلة حق احتكار وسائل العنف الشرعي، اذ تنشئ جيشاً مركزياً دائماً، يجسد هذا الاحتكار وصولاً الى حده المطلق، اي تحول القوة العشائرية المسلحة لعموم العشيرة، ام لشيخها، ما يسمى ب "الزلم" و"الحوشية" الى قوة هامشية، متضاءلة، تنتهي الى الزوال.
في مطلع هذا القرن، مثلاً، كان مدى الدولة العراقية 15 ألف بندقية، مقابل 100 ألف بندقية لدى العشائر. فالقوة النارية المتفوقة للطائرات البريطانية ابلغت القبائل، خيراً من ألف نصيحة، بهوية المنتصر الجديد. والدولة تنتزع من العشيرة ايضاً جبروتها الاقتصادي: التحكم بتوزيع الأرض، وتوزيع المياه. وهو سلاح استخدمه الانكليز، مثلاً، للتلاعب بالتحالفات العشائرية.
وبمجرد ان تتولى "وزارة ري" شؤون الماء يفقد الشيخ سطوته كقوة مقررة لمصدر الحياة والنشاط الاقتصادي هذا. والدولة تنتزع من العشيرة انتاج الثقافة، فهي تخلق جهازاً لتوليد ثقافة متجانسة نظام التعليم، الاعلام، الخ أبجدية تتفوق على الثقافة الشفاهية للقبائل، وتقوض مكانة السادة داخل القبائل باعتبارهم، حتى تلك اللحظة، الفئة الوحيدة التي تحتكر المعرفة الابجدية في الارياف وتحتكر بالتالي تسجيل العقود على اختلافها. والدولة ايضاً تنتزع من العشيرة قوتها الحقوقية. فالمنازعات والفتولات تحل امام القضاء الممركز في المحاكم المدنية لا في المضيف على يد العارفة أو غيرهم. وفي تاريخ العراق، الحديث، كانت القبيلة تعيش بالمطلق وفقاً لقانونها حتى ثورة تموز يوليو 1958، يوم الغيت الثنائية الحقوقية بابطال قانون المنازعات العشائرية. ولا تترك الدولة الحديثة شاردة وواردة، بحكم منطقها المركزي، الا وتخضعها لسلطانها.
من جانب آخر يفعل منطق الاقتصاد التجاري فعله العاتي في تفكيك القبيلة. فالاستقرار في الزراعة، ينقل القبيلة الى نمط جديد الانتاج الزراعي يفقد فيه البدوي حريته الطليقة، البدائية، والمساواة المشاعية. ويكاد حزن شفيف يخترق كل مسامات ثقافة البدوي المنقول الى الزراعة المستقرة. وبمجرد هذا الانتقال تتمزق الاتحادات القبلية الكبرى بفعل الاحتراب على المياه. اتحاد قبائل المنتفك في جنوب العراق، مثلاً، بلغ 100 ألف بندقية عدداً في لحظة من تطوره عشية القرن العشرين، لكن الاتحاد سرعان ما تفكك وطوته الريح.
العنصر التالي، هو انشطار الوحدة الابوية داخل القبيلة الواحدة بعد انشطار الاتحادات الكبرى لعدة قبائل بفعل تملك المشايخ للأرض نشوء الاقطاع. هذه العملية بدأت مع الاصلاحات العثمانية نهاية القرن الماضي، لكنها انطلقت باقصى قوتها بعد نشوء الحكم الأهلي وبالذات بعد قانون تسوية الأراضي في الثلاثينات. وهناك جانب آخر هو ان ارتباط الزراعة بالسوق، يعني اتصالها بطرق المواصلات الحديثة، وبالمؤثرات الثقافية، فتفقد هذه القبائل عذريتها، تلك العزلة المديدة التي حافظت عليها زمناً. واخيراً تأتي الهجرة الى المدن تحت ضغط الحاجة: الفقر في الريف عوامل الطرد أو غواية ثراء الحواضر عوامل الجذب. واذا كان ذلك كله قد حصل، فكيف نفسر انبثاق القبيلة مجدداً في عهد البعث، بعد ان استوت الدولة المركزية بل بلغت ذروة التمركز، وبعد ان اخترق اقتصاد السوق الارياف من اقصاها الى اقصاها؟ وبعد ان ادى هذا التطور العاصف الى تحطم الشخصيات الثلاثة الممثلة بجبروت العشيرة: الشيخ المالك الذي فقد جبروته بمصادرة الأراضي الزراعية اثر قوانين الاصلاح الزراعي المتعاقبة. وتفكك "الحوشية" اي الزمر المسلحة التي كانت تشكل قوة القمع الداخلية للقبيلة. وانهيار موقع السراكيل، رؤساء الافخاذ، ووكلاء جباية الريوع العينية والنقدية من الفلاحين. وفقدان السادة لمكانتهم الحاسمة داخل التنظيم القبلي. هذه السمة الاخيرة تخص القبائل العربية لا الكردية. فهذه الاخيرة تميزت بالاندماج مع الطرق الصوفية، ونشوء زعامات قبلية/ حرفية تجمع الرئاسة القبلية وقيادة الطريقة الصوفية، اي تجمع سلطتين دنيوية ودينية في آن.
ان تفكك القبائل وفقدانها المتصل لوظائفها المركبة التي تشتد بالهجرة المستديمة الى المدن، لا تلغي كل اشكال التضامن القبلي، ولا تزيل كل معالم القبلية. فما الذي يبقى من هذه المتحضيات الاجتماعية؟ والواقع ان التفكك القبلي عملية كونية شملت كل الحضارات، واستغرقت في اوروبا زهاء سبعة قرون. اما في العراق وعموم المنطقة العربية، فان عملية التفكك حديثة العهد، لا تزيد، في بعض المناطق عن قرن ونيف. اما في العراق، فان عوامل التفكك المنظم، المطرد المكثف بفعل وجود الدولة المركزية لم تعمل مبضعها الا منذ ثمانية عقود. وقصر هذه الآماد يفسر بقاء اشكال التضامن القبلي في الحواضر، رغم ان التوازن بين الريف والمدينة انقلب خلال هذه المدة رأساً على عقب. في اربعينات هذا القرن كان التوازن السكاني بين المدينة والريف هو 20 الى 80 في المئة اما اليوم فان سكان الحواضر يشكلون اكثر من 80 في المئة. وبقاء العصبيات القبلية في المدن وبخاصة الاقليمية الطرخية حقيقة تفقأ عين أي مراقب.
فالتفكك القبلي، مثل اي تحول اجتماعي ثقافي مركب عملية انتقالية ذات اطوار متعددة ابرز طور فيها و ما تمكن تسميته بالقبلية الثقافية، اي بقاء قيم التكافل القرابي قوية، متينة حتى بعد الانتقال المكاني من الريف الى المدينة. فالتمدين، على هذا، يبدأ مكانياً، ويصير اقتصادياً، لكنه لا يترسخ ثقافياً الا بعد عدة اجيال حتى تطول أو تقصر.
ان بقاء القبلية الثقافية يرجع، بتقديري، الى عدد من العوامل قابلة للتوسيع ومفتوحة على نتائج البحوث المقبلة في هذا الميدان الشائك: أولاً - هناك طبيعة المدن في العراق. تنقسم المدن في العراق الى زمر عديدة: زمرة المدن التاريخية، السياسية كبغداد، البصرة، الموصل، والدينية كالنجف، وكربلاء، سامراء. هذه المدن كلاسيكية بمعنى انها نشأت كمراكز سياسية أو دينية تقليدية تنتمي الى العهد الزراعي، وتنتظم احياؤها على العصبيات التقليدية، كما هو حال النجف الموزعة، حتى عشرينات هذا القرن، بين الزقاريط الزقرت والشمامرة الشمرت - القبيلتين اللتين تمسكان بالقوة المسلحة والزعامة المسيطرة على احياء المدينة.
هناك زمرة من المدن الحديثة الظهور، في القرن التاسع عشر، بعضها مدن ادارية عثمانية كالعمارة، أو ادارية - عسكرية مثل الكوت، والرمادي، او تجارية مثل سوق الشيوخ والناصرية فيما بعد. ومثال سوق الشيوخ مثير للاهتمام: لقد كان الشيخ تويني مؤسس المدينة يقيم سوقاً للقبائل كل عام في موضع جديد. غير ان صعوبات الابلاغ والتجمع حملته على تشييد سوق الشيوخ كمركز حضري للتجارة. وما ان استقر في الموضع المطلوب حتى ابتنى سوراً، هو المعلم الأول الذي يفصل بين البداوة والحضارة. وتقاسمت خمس مجموعات قبلية السكن في هذه المدينة الجديدة، المسورة، وتتولى كل مجموعة حماية باب السور المجاور لحيها. ويكاد هذا الحدث النموذجي الذي وقع في القرن التاسع عشر ان يعيد امام الانظار تجربة تاريخية يزيد عمرها عن ثلاثة آلاف عام، اعني انشاء دولة اثينا الاولى على يد تحالف مؤلف من 12 قبيلة، التأمت وتضافرت خلف اسوار الحياة الجديدة التي ميزتها عن البدو = البرابرة بلغة الاغريق.
ان عمليات التحضر تسارعت في المدن المركزية، وبقيت خفيفة وضعيفة في المدن الطرفية، الملتحمة بالارياف والقريبة منها. وهذه الثقالات التاريخية معلم من معالم التباين في التطور بين مناطق دولة مركزية واحدة. هذا هو المنبع الأول لقوة استمرار العلائق القبلية. لكن عدا عن المدن الطرفية اقرأ: بلدات ريفية أو شبه ريفية، تتميز الحواضر الاكثر تطوراً بشروط تتيح استمرار وشائج العصبية التضامن والتلاحم القبلي من ذلك ان بلدان المنطقة العربية خلافاً لاوروبا مثلاً تفتقر الى شبكات الضمان الاجتماعي. وهذا الغياب يقوي الميل الى بقاء اشكال التكافل القبلي وتكافل عوائل المحلات - اي الاحياء الشعبية - في المدن في الموت والزواج والولادة، بما يتضمنه من مدفوعات نقدية ومساندة معنوية. ومن المعالم المعروفة ان كثرة من مثقفي الطبقات الوسطى الحديثة يجدون انفسهم مقيدين بألف قيد بمثل هذه الالتزامات التي تثبت فاعليتها ايام الازمات الاجتماعية. اخيراً، هناك معلم آخر يفسر قوة العودة الى دفء العلاقات البطرياركية، هو زمهرير دمار المجتمع المدني. فالفرد لا يواجه الدولة عاري اليدين. في العهد الزراعي تقف رئاسات الطوائف، أو زعامات القبائل وسيطاً بينه وبين الدولة.
وفي عصر الدولة القومية الحديثة، وبانحلال العلائق التقليدية، تحل المنظمات الاجتماعية الحديثة، وجماعات المصالح، والاتحادات، والنقابات، بل حتى سلطة القضاء المستقل، بمثابة الوسادة الواقية، المصرّة التي تحيط الفرد. والتحطيم المستمر لهذه التكوينات، على يد الدول العسكرية، وخصوصاً منذ انقلاب 1963، وبدرجة أشد على يد البعث منذ 1968، أدى الى تفكيك، وتقويض وابتلاع منظمات المجتمع المدني. ازاء هذه الهوة التي تفغر فاهها أمام الفرد العاجز، يطل التماس وسائل الحماية، اياً كان مصدرها، برأسه.
ان استمرار العصبيات القبلية في الحواضر شيء، وقيام بقايا العشائر والقبائل والجماعات القرابية الأخرى الأفخاد، الحمائل بدور سياسي جوهري، بل تحولها الى جزء من البنية المؤسساتية للدولة شيء آخر. مثلما ان هناك فارقاً بيّناً بين أن تسهم الدولة في السيرورات الاجتماعية والثقافية والحقوقية المحللة للأواصر القبلية، وبين ان تعمد مباشرة، وعلى المكشوف، الى احياء تفالات القبلية، وتؤسس مجدداً للعرف القبلي الذي ينزل منزلة الند للحقوق الوضعية. وهذه المفارقات تجد تفسيرها في طبيعة الدولة العراقية بوصفها جملة مؤسسات حاملة للسيادة المشرعنة وممثلة للأمة، اداة للتحكم، وآلة للانتاج.
ثمة ثلاث علائم فارقة للدولة العراقية. أولاً ان الأمم، جلها، تبحث عن دولة، تتطابق فيها حدودها الثقافية مع حدودها السياسية. اما العراق فدولة تبحث عن أمة. ذلك ان الترتيبات البريطانية دمجت في هذا الكيان اثنيات وطوائف، ومدن وقبائل تعيش في عالم ما قبل الحداثة الطليق، بعيداً عن أية مركزية صارمة، ذلك العالم الذي أطراه أحد المستشرقين الرومانسيين بقوله: "يا لله ما أجمل حياتهم! لا ضرائب، لا بنوك، لا أحزاب، لا نقابات!". وعمليات الاندماج الوطني لمختلف المكونات لم تكن سلسلة. واستدامة هذا الاضطراب ناجم عن قصر نظر نخب الدولة. ثانياً، ان الدول اذ تعتاش على تمويل المجتمع لها، عبر الضرائب، اعترافاً منه بشرعية وجودها كبديل عن الفوضى فكرة حماية حق الحياة وحق الملكية في نظريات العقد الاجتماعي، أو فكرة تفضيل السلطان الجائر على الفتنة في الفقه الكلاسيكي، فإن العلاقة في الدولة الريعية، المتخمة، تقف بالمقلوب، مسلحة بأنياب ومخالب الثروة الاجتماعية المستقلة عن المجتمع.
ثالثاً، ان البنية المؤسساتة لهذه الدولة، التي كانت تسمح بقدر من تمثيل مصالح المكونات الأثنية والدينية والاجتماعية، اختلت اختلالاً بيناً خلال فترة الحكم العسكري، وترسخ هذا الاختلال منذ انقلاب 1963.
لم يبق، في هذا المناخ، من ثقافة سياسية سوى العنف السافر، ومنظميه العسكر الجندي السياسي حسب تعبير السوسيولوجي حنا بطاطو. لكن النخب العسكرية برهنت بجلاء، على قلة قدرتها في النطق السليم، انها جنة الانقسام. وكانت تمزقاتها المستديمة تقول بفصيح الكلام انها، في ظل غياب المؤسسات الدستورية الحديثة، كأداة للتداول السياسي وحلّ الخلافات والمنازعات، وخلق الاجماع الوطني على محدوديته، تبز بانشطاراتها قوى التلاحم الايديولوجي الحزبي مثال انقسام البعث في 1963 أو تبز قوى التلاحم المستمدة من الضبط العسكري سلسلة الانقلابات الناجحة والفاشلة من العسكر على العسكر. هذا الوضع ينطوي، نظرياً، على امكانيتين، اما اصلاح الخلل في البنية المؤسساتية للدولة، أو البحث عن مصادر بديلة للتلاحم. والخيار الثاني كان الأيسر، والأسرع تحققاً: اعتمد العسكر، منذ عهد عبدالسلام عارف، على التلاحم القرابي: صعود الجُميلات من قبائل الدليم. ولم يكن من قبيل المصادفة ان يتخلى عارف عن مشروعه الذي يحاكي التجربة الناصرية بانشاء "اتحاد اشتراكي" يضم كل قوى "الشعب العامل"، ويركن الى تمثيل الزعامات العسكرية في السلطة، محروسة بسيف القرابة. ولأول مرة في تاريخ العراق، شهدت الدولة الحديثة اندماج العصبية القبلية في بنية المؤسسات بالذات، أعني انشاء الحزب الجمهوري كقوى خاضعة للعشيرة الجميلات، وربطها سوية مع الفرقة الخاصة بالرئيس وشقيقه واقربائه. بتعبير آخر كان ثمة جيشان، واحد للأمة وآخر للعشيرة!
من حكم البعث باتت هذه الثنائية النور الهادي والمثل الأعلى. وكلما ارتقت وتصاعدت، دثّرها بستار سميك من التسويغ الايديولوجي. كان حزب البعث، في فترة صعوده الثاني الى الحكم 1968، يتلمس بحساسية خاصة الحكمة الخلدونية عن "الرياسة في أهل العصبية"، مثلما يتلمس ضرورة الاداة الحديثة الحزب الممركز للبقاء. ولم يكن بأي حال كما لن يكون مؤهلاً للاصلاح البنيوي للدولة باتجاه المشاركة المفتوحة كبديل جوهري، بل تاريخي لا يزال مطلوباً.
كانت نخبة البعث الجديدة متحدرة من بلدان طرفية ريفية الطابع تدرك وتعي قوة التلاحم العشائري. ومتحدرة أيضاً من فئات عسكرية تدرك محنة الانشقاقات العسكرية وجهنميتها، ومتحدرة أيضاً من كوادر عمل سري، تعرف بالتجربة، ان الايديولوجية، أياً كانت، سبب للتلاحم قدر ما هي مبرر للانقسام. واجتمعت هذه الميول لتعزز التماس قوى القرابة كمانع للانشقاق. واختارت النخبة الحاكمة تجنيد اشباه وأنصاف المتعلمين من البلدات الطرفية، لتبني اجهزة قمع خاصة، مميزة، مثلما استُخدم الجهاز الحزبي، لبسط الهيمنة على الدولة والمجتمع. وبمعنى من المعاني، استخدمت العشيرة، لضبط الحزب، مثلما استخدم الحزب للجم العشيرة، في توازن قلق، سرعان ما اختل لصالح الثانية.
تستبطن الدولة العراقية "الحديثة"، "الثورية"، التي يعشقها البسماركيون العرب، القدامى والجدد نظاماً متراكباً من تحالف عشائري واسع، تقف عشيرة البيجات أو البيكات، المتحدرة بالأصل من الدليم على رأسه، مثلما ان فخذ المجيد أو البوغفور حسب رواية أخرى يقف بمنزلة الرأس من هذه الحفنة، التي انتهكت الأمة. ولم يكن بوسع هذه الكتل القرابية ان ترى الى الدنيا الا على صورتها: سديماً من قبائل وأفخاذ وحمولات.
ويقال ان نائب الرئيس في حينه صدام حسين انشأ لجنة للعشائر في مطلع 1970، كقناة رسمية للتجنيد والتعبئة من مثلث تكريت - الرمادي - الموصل، وافتتحت لهذا الغرض كلية عسكرية خاصة، كان ذلك بمثابة تنظيم العشيرة الحاكمة في الدولة، وتنظيم الدولة ضد الأمة. وخلال الحرب العراقية - الايرانية، اتسع الطوق القبلي: تجنيد المقاتلين القبليين من عشائر الميركية، والسورجية، والزيبارية، في القوات المعروفة رسمياً باسم "فرسان صلاح الدين"، بنحو 150 - 200 الف مقاتل تسميها المعارضة: الجاش، أي الجحوش، بمعنى اتباع الحكومة. وكان الغرض من ذلك عسكرياً صرفاً. غير ان الالتفات الى عشائر الجنوب وجلها شيعية وسع هذا الطوق، وخصوصاً في مناطق الأهوار، والقرنة، لهدف عسكري - ايديولوجي، قوامه صد التمدد الايراني، واقامة حاجز من العصبية العربية بوجه أي اختراق ايديولوجي يسعى لاعتماد اخوة مذهبية. واشتد الاعتماد على عشائر المثلث السني من البلدات الطرفية أيضاً لهدف سياسي/ أمني، نعني تمتين تلاحم النخبة الحاكمة وتوسيع قواعدها. والانقلاب الأكبر جاء بعد حرب الخليج، ففي هذا الظرف، اختزلت القدرات القمعية للدولة اختزالاً مقلقاً. ونشأ فراغ أمني عجزت الدولة فيه عن ضبط "الأمن والقانون" في أدنى متطلباته. يشهد على ذلك انفلات جرائم العنف. واقترن الفراغ الأمني، بفراغ سياسي خلفه تفكك حزب البعث كجهاز ضبط ايديولوجي وتعبئة جماهيرية، وفراغ اجتماعي ناجم عن غياب منظمات المجتمع المدني. وأعيد بناء العشائر بسياسة مرسومة. ولكن خلافاً للعشيرة الكلاسيكية التي تقوم على الزراعة وتستقر في الريف، وتعتمد على التعايش المباشر اليومي، في مجتمعات شفافة، فإن جل العشائر الحالية صُنع على عجل بين التفالات المتاحة، وفي المدن، على يد موظفين، أو متعلمين ومثقفين من الفئات الوسطى الحديثة. وبدل المضيف الجماعي، مركز سلطة القبيلة، استؤجرت شقق حضرية. وبدل الشيخ المنتخب باصطفاء طبيعي على أساس ديموقراطية العشيرة البدائية، راحت وزارة الداخلية تصدر فرمانات تعيين الشيوخ الجدد المصنّعين على مقاس الدولة.
اطلق رصاصة التأسيس الجديد للعشائر الرئيس نفسه يوم فتح قصره للمشايخ القدامى والجدد، معتذراً عن الاصلاح الزراعي السابق، ومقدماً الهبات: أراضي وسلاحاً. وراحت الصحف الرسمية التي كانت تعج ببرقيات التأييد من النقابات والمنظمات الحديثة، تحفل ببرقيات تأييد المشايخ مقرونة بذكر عدد أفراد القبيلة. وكان هذا الاحصاء تذكرة بقوة وبأس هذه القوى العائدة من مقابر التاريخ. وتقوم العشيرة الجديدة، المعاد تأسيسها بوظائف القديمة الا قليلاً. فهي مسؤولة عن الأمن، وتحسم الخلافات قبول الديات عن القتلى، وتصادر الأموال، وتجبي الأتاوات ضرائب أو غيرها وتتوسط لدى الدولة. وهذا أول تقاسم طوعي للسلطة تقوم به الدولة مع كيانات من خارجها بدل ان تضطر الى التشارك مع آخرين في المركز. وهذه العشائر شبه الحضرية، قد توحي لمن يتمسك بالحكمة الشائعة، ان قدر المجتمع العراقي قبلي بالأساس، وما كان الا قبلياً. ولا تتوافر دراسات ميدانية عن القبائل الحالية، فهناك مثال وحيد للأسف قد ينطوي على حقيقة مهمة: في احدى برقيات التأييد ذيلت احدى العشائر من الدغارة نصها بذكر حجم أفرادها: 300! المصادر المتاحة تفيد ان هذه العشيرة ناهزت الثمانية آلاف عام 1957. وهذا يعني ان نسبة الجزء اللاقبلي من هذه الجماعة الى جزئها المحتفظ بقبليته هي كنسبة 1 الى 27 تقريباً. فإن صح هذا التناسب، أو كان معقولاً في مناطق الجنوب، فإنه يعطي صورة تقريبية عن المدى الذي بلغته عملية انحلال القبائل، وهو مدى هائل حقاً.
لقد خلق ترميم التفالة القبلية واحياؤها جملة توترات في المجتمع وبين المجتمع والدولة. فالجزء اللاقبلي، الحضري بامتياز، يجد نفسه بازاء قوة عاتية، مسلحة حقوقياً تداهمه وتضعه تحت رحمتها. وهذا التضاد يخترق بقايا حزب البعث، حيث تتصادم القيم الحديثة مع قيم القرابة. بل ان القبائل نفسها أخذت تنافس اجهزة الدولة وتضاهيها في المجال الحقوقي مما اضطر مجلس قيادة الثورة الى تحذير العشائر من مغبة رفع دعاوى الديات على موظفي الدولة اثناء أدائهم لواجبهم. بتعبير آخر، تجيز الدولة للقبائل المصنعة ان تفرض قانونها على رجال الدولة خارج اطار عمله، اما داخل هذا الاطار فلا. ومن الأمثلة الصارخة حادثة الفتك بالفريق علي حسين كامل على يد زمرة من مسلحي آل المجيد. والبرقية المرفوعة الى الرئيس من هذه الجماعة تؤكد له ان عفو الدولة عن "الفرع الخائن" لا يزيل حق العشيرة في استئصاله. وفي الختام، تبدو هذه الكيانات العشائرية اليوم مثل مومياءات قادمة من عصور ما قبل التاريخ، مالئة الحواضر بالعفن الذي ينزّ من كل مسامّها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.