لم يكن الجدل في أروقة القمة ال26 لمجلس التعاون الخليجي في أبو ظبي الشهر الماضي حول البرنامج النووي الإيراني مفاجأة، أو مجرد رد فعل على رسالة بعث بها الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى إلى الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبد الرحمن العطية. والجدل الذي لم يظهر بالدرجة نفسها في البيان الختامي للقمة، جاء تعبيراً عن تفاعلات وتطورات مهمة لها علاقة مباشرة بالخلل الذي يتأكد يوما بعد يوم في ميزان القوى الإقليمية في الخليج، وبضبابية أنماط التحالفات المتوقعة في ضوء السيناريوهات المحتملة للأوضاع في العراق، ويمكن وصفه بأنه"خطوة استباقية"من جانب دول المجلس، بالنسبة لما يمكن اعتباره خرائط سياسية جديدة لأنماط الصراعات والتحالفات المتوقعة في إقليم الخليج. فحرص بعض الدول أعضاء المجلس على إعلان موقف غير راضٍ عن البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل سبق عقد القمة بعشرة شهور على الأقل. وكان رد الفعل السلبي الأول لدول المجلس كويتياً وعلى لسان وزير الخارجية محمد الصباح عقب زيارة المندوب الأميركي في الأممالمتحدة جون بولتون إلى الكويت وعدد آخر من دول المجلس عندما كان مساعداً لوزيرة الخارجية الأميركية لشؤون نزع السلاح في كانون الثاني يناير 2005. وقتها، جاء بولتون إلى الخليج في محاولة لإقناع الدول العربية أعضاء مجلس التعاون بإعلان موقف علني صريح وقوي ورافض للبرنامج النووي الإيراني ولبرنامج التسلح الإيراني واعتباره تهديداً للأمن والسلم الإقليميين، هذه المحاولة الأميركية تجددت بعد شهور قليلة خلال زيارة قام بها السفير الأميركي في الكويت إلى إحدى المنشآت العسكرية الكويتية وأعاد مرة أخرى الطلب الأميركي وندد بالتهديدات الإيرانية للأمن والسلم الإقليميين في الخليج. على هامش هذه التطورات، كان تعليق وزير الخارجية الكويتي على المخاطر البيئية للبرنامج النووي الإيراني، وانتقاده محاولات طهران التدخل في الشؤون الداخلية الكويتية. وتوالت التعليقات، بصوت خافت أحياناً، حول الآثار السلبية المتوقعة للبرنامج النووي الإيراني مع تذكير بسلبيات التسريبات الإشعاعية لمفاعل تشيرنوبل الروسي، خصوصا أن غالبية المنشآت الإيرانية استوردت من روسيا. تجدد الحديث الخليجي هذه المرة داخل أروقة قمة أبو ظبي جاء مختلفاً في كل شيء، فهو كان واضحاً ومباشراً، لكنه، وهذا هو الأهم، جاء في أعقاب تطورات مهمة ومتسارعة فرضت نفسها على المنطقة وأخذت تعكس نفسها على توازن القوى الإقليمي في الخليج لمصلحة إيران. أول هذه التطورات، الأزمة التي فجرها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ضد إسرائيل، عندما طالب في خطاب شهير بإزالتها من الخريطة، وطالب في مناسبة أخرى بنقلها إلى ألمانيا والنمسا، وشكك في رواية"الهولوكوست"اليهودية وقال إن"الأوروبيين هم الذين ارتكبوا جريمة الهولوكوست ضد اليهود وليس الشعب الفلسطيني وعليهم أن يتحملوا هم تداعيات ونتائج هذه الجريمة وليس الشعب الفلسطيني". هذه الأزمة فجرت ردود فعل أوروبية وأميركية غاضبة ضد طهران، لكنها دفعت إسرائيل إلى التعامل مع إيران كتهديد مؤكد وليس كتهديد محتمل، وبدأت الاستعدادات والترتيبات الإسرائيلية وعلى كل المستويات العسكرية والاستخباراتية والسياسية والإعلامية للإعداد لحرب ضد المنشآت النووية الايرانية. وثاني هذه التطورات، تزايد النفوذ الإيراني في العراق، وهو ما أكده التوجه الرسمي الأميركي نحو طهران طلباً للمساعدة في ترتيبات تهدئة الأوضاع داخل العراق في ضوء احتمالات حدوث انسحاب عسكري أميركي من هذا البلد. وتمثل ذلك في توجيهات واشنطن الى سفيرها في بغداد زلماى خليل زاده الذي كشف عن تعليمات رسمية أميركية صدرت له بالتوجه إلى طهران للبحث في ملفات عراقية مهمة. وعلى رغم عدم إتمام هذه الزيارة لأسباب كثيرة أهمها رفض إيران وإعلانها أنها ليست معنية أو صاحبة مصلحة في حل الأزمات الأميركية في العراق أو انتشال الولاياتالمتحدة من ورطتها العراقية في وقت تمارس الأخيرة ضغوطاً مكثفة ضد البرنامج النووي الإيراني، فإن مضمون الرسالة أن الوزن الإيراني في العراق يتزايد، وأن العراق الجديد سيكون أقرب سياسياً إلى طهران. وتأكدت معالم ذلك اثر فوز التحالف الشيعي بالنسبة الأكبر من مقاعد البرلمان العراقي الجديد، ونجاحه في عقد صفقة مع التحالف الكردي أبرمها عبد العزيز الحكيم مع جلال طالباني في مدينة السليمانية، اذ اتفق على الفيديرالية وتوسيع اختصاصات رئيس الجمهورية، ورفض أي تعديل للدستور ومواصلة اجتثاث حزب"البعث"كشروط يجب أن يقبل بها أي فصيل عراقي آخر للانضمام إلى التشكيل الحكومي الجديد. هذه التطورات تكشف أن ميزان القوى الإقليمي بات يعمل لمصلحة إيران، ناهيك عن التفوق الكبير في القدرات العسكرية الإيرانية، ويأتي البرنامج النووي الإيراني ليضاعف من هذا الاختلال، ومن ثم كانت المواجهة ضرورية مع كل هذه التداعيات، تفادياً لحدوث حرب خليجية رابعة تجد دول المجلس نفسها مضطرة إلى دفع أثمانها الباهظة على نحو ما حدث في الحروب الثلاث السابقة. تعمد اثارة أزمة حول البرنامج النووي الإيراني جاء كمحاولة استباقية لنزع فتيل حدوث مثل تلك الحرب في ظل تهديدات إسرائيلية متصاعدة، وفي ظل احتمال إحالة الملف النووي الإيراني على مجلس الأمن، وذلك من خلال اقتراحات واضحة ومحددة على لسان الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، من بينها السعي للتوصل إلى اتفاق بين إيران ودول مجلس التعاون في شأن إخلاء منطقة الخليج من الأسلحة النووية، وتساءل:"إذا كان المسؤولون الإيرانيون يقولون إن البرنامج النووي الإيراني للأغراض السلمية، فلماذا لا يتم التوصل إلى اتفاق بين كل البلدان المعنية بحظر الانتشار النووي، يمكن أن يشمل مستقبلاً العراق واليمن". ولإظهار مزايا هذا الاتفاق أوضح العطية أنه سيمهد لاتفاق في الشرق الأوسط يمكن لإسرائيل أن تكون طرفاً فيه في وقت لاحق، وأنه سيشجع المجتمع الدولي للضغط على إسرائيل لكي تخضع منشآتها النووية للتفتيش. هذه التطورات تعيدنا إلى جوهر الأزمة الراهنة في الخليج في ظل افتقاد نظام موحد للأمن الجماعي بين دول المجلس، وهي أزمة اختلال ميزان القوى الإقليمي لمصلحة إيران التي تتفاقم يوماً بعد يوم. كاتب مصري