يعيدنا أمين ألبرت الريحاني، في كتابه الجديد الصادر عن دار نلسن السويد بطبعته الأولى العام 2006، والمسمّى"قطار ولا محطة/ حوارية ثلاثية الصوت حول مسألة الزمن"... الى طقس فلسفي عرف في الفلسفة اليونانية القديمة وفي الفلسفة العربية، لجهة تقديم أفكار فلسفية في اطار الحوار او القصة. لقد عرف ذلك لدى أفلاطون في المأدبة، وعرفه الفلاسفة المسلمون على يد ابن سينا في قصته عن"ابسال وسلامان"، وبخاصة لدى فيلسوف العرب ابن طفيل من خلال قصته الفلسفية الشهيرة"حي بن يقظان"، التي أراد من خلالها، في اطار قصصي فنتازي شيّق، الدلالة على قدرة العقل البشري الفطري على الاكتشاف والابتكار من خلال احتكاكه بالموجودات والوجود، وبالتالي الوصول من خلال الملاحظة والتجربة والتحليل العقلي الفطري الى أسمى درجات المعرفة، بما فيها معرفة الله. في"حي بن يقظان"،"حيّ"هو الإنسان الحيّ... أما يقظان فمن اليقظة وهي الوعي ويرمز بذلك للعقل البشري الذي خصّ به الانسان دون سائر المخلوقات وخوّله اكتشاف الوجود والوصول الى المعرفة عن طريق العقل، في مواجهة الوصول للمعرفة من طريق النقل أو الوحي فإبن طفيل هو المؤسس الفعلي لفلسفة العقل في اللغة العربية، التي اكتملت على يد ابن رشد، دامجة بين الانتداب القرآني للإنسان للتعقل: أفلا يعقلون/ أفلا يتفكّرون... الخ والاساس اليوناني لفلسفة العقل لدى أرسطو. لم يمر أمين ألبرت الريحاني بتجربة أسلافه الفلاسفة القدماء والمحدثين معاً، من دون الاستفادة، وأحياناً الاتكاء على أقوال وأفكار بعضهم ودمجها في حواريته الفلسفية"قطار ولا محطة"... وأشخاص الحوارية الثلاثة وهم: مكنار صوت المكان وزمنون صوت الزمان ويقظان صوت الإنسان، هم أصوات ورموز أكثر مما هم شخوص. بالتأكيد، إن اسم يقظان منحوت او مأخوذ من جهة"حي بن يقظان"... أما مكنار وزمنون فإسمان منحوتان من المكان والزمان. ترد في الحوارية شواهد لفلاسفة وأدباء غربيين محدثين... من هيوغر الى آينشتاين الى غابرييل غارسيا ماركيز، لكن المؤلف يدمجها في الحوار، لتغدو جزءاً من الجدال الفكري لعمله... هي شواهد لتثبيت فكرة ما أو تأييدها، اكثر مما هي أبحاث في فكر أو فلسفة أي من هؤلاء. ومن البداية، استوقفني التصنيف الإبداعي لهذا العمل. ماذا أسميه؟ أهو عمل مسرحي مثلاً؟ سيما انه يتضمن حوارية طويلة على امتداد أربعة وثلاثين مشهداً حوارياً، بتسميات محددة، وأشخاص ذوي أسماء، إنما ينقص المسرح المحدد أي مكان المسرح والزمن المسرحي... قلت لعل المكان المسرحي رمز له بمكنار أي كل مكان، والزمن المسرحي رمز له بزمنون أي كل زمان... ولكنني وجدت ان عناصر العمل المسرحي الحقيقية تنقص هذه الحوارية... فعدت الى ما تبناه المؤلف نفسه، لأعتبرها"حوارية"لا اكثر ولا اقل... إلا انها حوارية من نوع خاص: انها حوارية"أفكار"متمثلة بأسماء ? رموز... والأفكار غالباً ما هي تأملية فلسفية... وإنزالها في أسماء ومحطات، هو شبيه بإنزال الروح في الجسد... فضلاً عن ان"الكلمة"بذاتها هي ترميز للواقع وللخيال في آن. جل ما في الامر ان لدى أمين ألبرت الريحاني أفكاراً تأملية في الزمان والمكان والانسان، في الوجود واللاوجود، في الحياة والموت، في اللغة والإبداع، في الوهم والحقيقة، اعتملت في ذهنه وصدره لمدة طويلة على الأرجح، ورغبت في أن تظهر الى الوجود... فحاورها، وسأل نفسه: كيف؟ أأكتب رواية؟ أأكتب مسرحية؟ أأكتب بحثا؟ أأكتب شعراً؟... ثم انتهى الى فكرة"الحوارية"... ونحت الرموز الاساسية للمتحاورين، ورتب فصول المحاورات، ورغب في ان يكون لهذا العمل عناصره الثلاثة: مكان وزمان وإنسان... فابتكرت مخيلته فكرة القطار، حيث يتجاور ويتمازج ويتحاور الزمان المتمثل بالحركة والمكان المتمثل بمادية القطار ومادية الطريق السكّة، وتكون المحطات مراحل على طريق لا تنتهي لذلك ابتكر فكرة قطار بلا محطة... ومن أجل أن تكتمل الحوارية لا بد من حجر الرحى... من قائد الرحلة الذي يسير بالقطار، كمغامرة لا تنتهي لقرار... وهذا القائد هو يقظان وهو الانسان. إن عمل أمين ألبرت الريحاني إذن عمل مرسوم ومخطط له في وعي الكاتب في رأسه، وأحسبه بعد ان رسم خارطة حواريته، نفذها بما يشبه التماثل واليسر... فليس ثمة عسر في كتابة الريحاني... وعلى رغم ان حوار الافكار حوار ذهني وقاسٍ ويفتقر لعناصر من حيوية السجال، بسبب افتقاده للجسدية والبشرية والتعيين الشخصي للمتحاورين، إلا ان الريحاني استطاع في أماكن كثيرة التخفيف من ذهنية الافكار وتصادمها على غرار تصادم الرموز الأسطورية، بلمسات من شعر... لا تخفى على القارئ، او بلمسات من شواهد متناقضة ناقضة ومنقوضة في آن مما يعيد الحيوية الى النص. ويورد، على سبيل المثال مقولة جان بول سارتر في الزمن:"الزمن يفصلني عن ذاتي. يفصلني عما كنته، وعما سأكونه. الزمن يفصلني عن الأشياء وعن الناس". ويورد هذه المقولة على لسان مكنار... لكنه مباشرة ما يلبث أن ينقضها على لسان يقظان، فيقول:"ألا يمكن أن نسوق المنطق المعاكس لنقول: الزمن يصلني بذاتي، يصلني بماكنته، وبما سأكونه. الزمن يصلني بالأشياء والناس". وهنا ملمح من ملامح السياق الفكري للحوارية. فهي حوارية أفكار عن الزمان والمكان والانسان... وما يتفرّع منها من معانٍ كاللغة والكتابة والحرية والحقيقة... الخ. فمن حيث تظهر فصول أو محطات الحوار أن الزمن متحرك، والمكان ثابت، والانسان مندمج في الزمان والمكان معاً وغير منفصل عنهما، وان"الكل في فلكٍ يسبحون"لذلك فالقطار قطار أبدي أزلي لم يبدأ ولا ينتهي بل هو هكذا متحرك بلا محطة ليرسو عليها... فإن ملمح التداخل بين هذه العناصر هو السمة الأبرز في المحصلة الفكرية لأمين ألبرت الريحاني من خلال حواريته هذه. هو لا يكتفي بالإيماء وطرح الاسئلة والاشكالات، وترك القارئ يستنتج نتائجه، بل يقوده عبر الحوار اولاً، وعبر تلخيص الحوارات في نهاية الكتاب، بمونولوجات ثلاثة للمتحاورين الثلاثة، يلخص فيها الريحاني، على لسان رموزه، ويستعيد افكاره المبثوثة في فصول الحوار... فيقول مكنار:"سري في الثبات... سري في الثبات. ارى نفسي عرساً للمادة... المكان كثير... بتغيره تتغير اللعة..."الخ ويقول زمنون:"سري في الحركة والتحول... في الحركة والتحول... الحركة محاولة لضبط الصيرورة... الوجود بذاته يدور بين قطبي الزمن واللغة... المعنى لا يكتمل من دون الزمن... الزمان حركة الكتابة، يرسم تنهدات حروفها... الكتابة توحد أطراف الزمان وتوحد مطارح المكان. يتوحد الزمان والمكان. الزمان هو التاريخ والزمن هو التواقت والتواصل في كينونة الوجود". اما يقظان فإن خطابه الاخير يكون حول المعنى واللغة."المعنى لغة، واللغة رداء... اللغة وعاء المعنى، والحقيقة واحدة ومتعددة... الترجمة ضرورية ومستحيلة... الزمن زمانان: مادي وايقاعي. الزمن الايقاعي هو الزمن النفسي او الروحي المتمادي... وطبقات الزمن، أخيراً، كطبقات الشعراء. إلا أن الكلمة لا زمن لها...". وينهي الكاتب بالتالي:"الزمن جسدنا غير المنظور... وخيط حريري يمتد بين هذا الجسد وروح الكون". في النتيجة ما ملاحظاتنا على هذا العمل الابداعي الاخير لأمين ألبرت الريحاني؟ نقول ان الدوحة الريحانية الممتدة من أمين الريحاني الكبير الى أمين ألبرت، مروراً بمي... غالباً ما تقدم الفكرة التي تنحو منحى فلسفياً، في اطار أدبي جذاب... أنظر الى أمين الريحاني الكبير، صاحب الريحانيات وأنتم الشعراء، وقلب لبنان، وقلب العراق، وكتاب خالد، وزنبقة الغور، وملوك نجد... وجميع ما ترك من آثار فكرية وأدبية، تجده يمزج المعرفة بموسيقى الشعر والتأريخ بالمخيلة... ثم انه حتى في روايتيه الشهيرتين:"خالد"وقد وضعها بالانكليزية، وپ"زنبقة الغور"بالعربية، فإنه فيلسوف يتأدب، او أدبي يتفلسف... من أجل ذلك سمي أمين الريحاني"فيلسوف الفريكة"نسبة لمسقط رأسه... وقد اهتم بلزوميات المعرّي وترجمها الى الانكليزية نظراً لتكوينه الابداعي الفلسفي والتأملي. في أمين ألبرت الريحاني، على بعد المسافة واختلاف الاسلوبين والرجلين نكهة من أمين الريحاني الكبير. وهو متأمل مثله، وأديب مثله... صاحب أفكار، ولكنه في الوقت نفسه تشتعل في روحه نار الشعر. إن الريحانيات، كشعر منثور، كانت مع رمل وزبد لجبران، من ممهدات قصيدة النثر العربية... الحوار الفكري والفلسفي الذي ساقه أمين ألبرت الريحاني في قطار بلا محطة، حوار ذهني صعب... وأصله ناشف، إلا أن الكاتب بلّل بعض مقاطعه باللغة الشعرية... وإن بقي في أماكن اخرى بمثابة عرض أفكار وسجال أفكار. هذا من جهة. من جهة ثانية، ومن خلال دمج المكان بالزمان وبالإنسان وجعل اللغة ناطقاً رمزياً باسم الثلاثة، لمس الريحاني حقيقة وجودية طيبة... أما كون مسرح الحوارية هو القطار وان القطار بلا محطة، وان المسألة هي مسألة السفر الدائم، بحثاً عماذا؟ نسأل ونجيب: بحثاً عن المعنى. ونسأل: أي معنى؟ ولا نعرف الاجابة... الحوارية لا تقدم لنا اجابات أخيرة. نتذكر هنا مقولة محمود درويش ذات يوم: إن الطريق الى المنزل اجمل من المنزل. ونعود لنتذكر ايضاً وأخراً، عملاً إبداعياً هو من اجمل الاعمال الشعرية للشاعر العراقي الراحل"بلند الحيدري"، وعنوانه"حوار عبر الأبعاد الثلاثة"... ومنه نقتطف النموذج التالي الجميل، للنسبية في واقعيتها وقسوتها، تجاه المطلق الذي من شدة إطلاقه يبدو أنه يقيم في دائرة المستحيل أو الخرافة. يقول بلند:"العدلُ أساسُ المُلْكِ/ العدلُ أساسُ المُلْكِ/ كذبٌ/ كذبٌ/ كذبٌ/ المُلْكُ أساسُ العدلِ/ إن تملكْ سكّيناً/ تملكْ حقّكَ في قتلي".