تنطوي استعادة أمين الريحاني في هذه المرحلة التاريخية بالذات، عبر محاضرات وندوات أكاديمية وثقافية تستحضر إرثه التنويري، إضافة إلى الاحتفاء بمئويته عبر نشر أعماله الأساسية بالعربية والإنكليزية، وصولاً إلى إصدار مجموعة «أمين الريحاني: المؤلفات العربية الكاملة» (مكتبة لبنان ناشرون - صائغ، تقديم وتحقيق ألبرت الريحاني) على معانٍ ودلالات كثيرة. فالمشروع النهضوي العربي بات على المحك، مع انبعاث العصبيات القبلية الظلامية وتهديدها المجتمعات العربية بفكرها التكفيري وروابطها المتخلفة واللامدنية، في وقت يتم فيه تغليب التكفير على التفكير، والتعصب على التسامح، والانغلاق على الانفتاح، وصولاً إلى التشكيك بكل قيم التنوير ومبادئه. من هنا، تأتي أهمية استعادة فكر الريحاني، النهضوي الذي أصبح عند وفاته عام 1940 واحداً من أهم رواد النهضة العربية الحديثة. فهو أول عربي كتب في الفن المسرحي باللغتين العربية والإنكليزية فأبدع وارتقى إلى مصاف النوابغ العالميين، وأول عربي أميركي قام برحلات واسعة في شبه الجزيرة العربية، ووضع أروع كتب الرحلات عن تاريخ البلدان العربية وسير ملوكها في القرن العشرين، فكانت مؤلفاته التاريخية أثمن ما صُنّف عن الجزيرة العربية. لكنّ التناقض والاختلاف لا يزالان إلى الآن يشوبان رؤية الباحثين إلى موقع هذا المفكر وحقيقة أفكاره ومراميه. فهل هو أديب أو مفكر أو فيلسوف؟ هل هو مؤمن أم ملحد؟ منحاز للغرب أو معتز بعروبته وشرقيته؟ مرتزق متكسّب في علاقته بالزعماء أم مصلح ملتزم بقضايا أمته، مجاهد في سبيلها؟ قد لا يكون الريحاني فيلسوفاً بالمعنى الحصري أو لا يوجد لديه خطاب فلسفي على حد تعبير حسن حنفي، لكنه وفق ناصيف نصار عبّر في أدبه عن مواقف فلسفية بحيث يمكن اعتبار «الريحانيات» و «كتاب خالد» نوعاً من الأدب الفلسفي. أما كمال الحاج فقد ذهب إلى أن الريحاني لم يكتب أدباً لأجل الأدب، ولا سياسة أو اجتماعاً لأجل السياسة أو الاجتماع، بل إنه طارد هذه المعارف بروح الفيلسوف لا بروح العلّاقة. من هذا التوجه الفلسفي عنده ومن المواقف الفلسفية في أدبه يمكن تحديد معالم فلسفته الروحية والسياسية والاجتماعية والقومية. الريحاني روحياً مؤمن وليس ملحداً. رأيه في الإنسان، وحنينه إلى الطبيعة، وصلته بالمرأة ومناقبه الخاصة. كل ذلك يكشف عن صوفيته. وقد دفعته روحيته إلى مهاجمة الذين ينكرون الآخرة. ولكن من يستقرئ الأدب الأميني يرى أن العقلانية تسيطر عليه بقوة، وأن الأمين لم يكن لا دينياً، بل معادياً لمن يستغلون الدين من أجل أغراضهم الخاصة. وقد عبّر عن موقفه في «الريحانيات»، حين قال أنه قصد إبعاد الناس عن الرياء ليقربهم من الإيمان الحقيقي. لقد رأى أن الحرية السياسية أو الاجتماعية أو القومية هي نتيجة من نتائج الحرية الروحية الجوهرية، وأن الثورة الروحية في بلاد الإفرنج هي أصل الحرية السياسية التي تتمتع بها اليوم، وهي التي أسست للديموقراطية الاجتماعية والسياسية. وإذا كان ثمة لا ديموقراطية سياسية من دون حرية بالمعنى الليبرالي الواسع للحرية، فلا ديموقراطية سياسية كذلك من دون ديموقراطية اجتماعية تلغي استئثار طبقة الإقطاعيين والأغنياء بثروات الأرض، ومن دون الخلاص من التبعية للأجانب الطامعين بثروتنا. وما دامت هناك أقلية تستمتع بخيرات الأرض، فيما السواد الأعظم قانعون بالنعيم المنتظر، فإنه من الوهم تصور حرية سياسية. أليس هذا ما يؤكده قول الريحاني: «أتحسبون الفقراء والعمّال في الجمهوريات من الأحرار؟ أتقوم الحرية بهذا الوهم الذي يدعونه حق الاقتراع؟ ما الفائدة من الحرية السياسية التي يكفلها القانون إذا كان القانون في قبضة الأغنياء؟ وفضلاً عن التلازم في فكر الريحاني بين الحرية الروحية والسياسية والاقتصادية، ثمة تلازم آخر بين الحرية والوحدة القومية العربية، وبين الحرية ومقاومة الصهيونية. من هنا، كانت نقمته على السياسة الاستعمارية لاصطناعها تجزئة البلاد العربية، لكن بلادنا كما يقول، ستعود إلى وحدتها الطبيعية فننضم كلنا، اللبناني والسوري والفلسطيني والعراقي والنجدي والحجازي واليمني تحت اللواء العربي الواحد. فالوحدة العربية محققة، إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد خمسين سنة لأنها مظهر من مظاهر التجدد والرقي في كل مكان. على هذا الأساس أصرّ الريحاني على بناء الدولة الوطنية العلمانية التي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، فرأى في العروبة الحل لمشكلة الأقليات التي استغلتها الدول الأوروبية لتثبيت الاستعمار في العالم العربي. ومن هنا وصيته: «إن الوحدة المؤسسة على القومية هي وحدة مقدسة، فأوصيكم بها. واعلموا أن لا خلاص للأقليات، إلا بامتزاجهم والأكثريات امتزاجاً عقلياً أدبياً روحياً، فتصبح البلاد ولا أكثريات فيها ولا أقليات». من هذا المنظور أيضاً نقمة الريحاني على الصهيونية، لأن ما تطرحه هذه الحركة على العرب مسألة مصيرية سيتحدد على أساسها مستقبل وجودهم القومي، الأمر الذي يحتم استنفار كل قواهم لمقاومته، فيهبون في كل أقطارهم لمواجهته والحؤول دونه بكل الوسائل. في ضوء هذا التلازم بين مرتكزات الديموقراطية يجب أن نقرأ موقف الريحاني من الغرب. فالريحاني الذي عاش في نيويورك وأعجب بحضارة الغرب ودعا إلى اصطفاء مناقب تمدنه، دان في الوقت ذاته نقائض هذا التمدن، وشجب ما يمارس في ظله من استغلال للضعفاء، ومن امتهان للقيم الروحية، وكبت للحريات الديموقراطية، فضلاً عن الحروب الدموية والدهم الاستعماري، حتى أنه خاطب نيويورك بقوله: «في صوتك رنين الذهب. وفي مستودعاتك كل خيرات الأرض، وفي خزائنك الدر، وفي قصورك أيات المدنية. أما في أكواخك فالبؤس والأنين». هكذا، تتضح لدينا فلسفة أمين الريحاني الاجتماعية والتزامه بقضايا المجتمع والأمة والناس. ما دفعه للنضال من دون هوادة ضد التخلف الاقطاعي للشرق، وضد الاستبداد الطائفي، وضد الخرافات والأضاليل والتقاليد البالية، من أجل تقدم المجتمعات العربية وتحررها ووحدتها. وكانت وسائله إلى ذلك الفكر الحرّ والقول الحرّ والعمل الحرّ. كتب وحاضر وخاطب حكاماً، وراسل ملوكاً وأمراء. وقد دفع ثمن ذلك من هنائه. نُفي وتألم وصودرت كتبه وأحرقت، واتهم بالتقرب من الحكّام بقصد الارتزاق، لكنه أصر على مبادئه الاجتماعية والقومية والإنسانية، ليقدم نموذجاً ساطعاً في فكرنا العربي الحديث للمثقف الليبرالي الملتزم، منضمّاً بذلك إلى روادنا النهضويين الكبار، دعاة الحرية والتقدم والوحدة.