"الحقيقة مرآة كبيرة هبطت من السماء. انكسرت وتبعثرت في ألف قطعة. كل واحد يملك قطعة صغيرة جداً، لكنه يعتقد أنه يمتلكها كلها". يتصدر قول الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي 1210-1273 هذا شريط"بابا عزيز، الأمير السابح في روحه"الذي أخرجه التونسي ناصر خمير. أبرز العمل الذي يشكل الجزء الثالث من ثلاثية"الهائمون في الصحراء"وپ"طوق الحمامة المفقود"، الوجه المتسامح للإسلام من خلال قصة عشتار الطفلة التي تقود بابا عزيز الدرويش الأعمى عبر الصحراء بغية الوصول إلى تجمع صوفي كبير. تتقاطع مصائر أشخاص كثر وتتداخل حكاياتهم ولغاتهم عبر بحث كل منهم عن مراده. وقد أراد المخرج من خلاله إعطاء وجه لمئات الملايين من المسلمين الذين هم غالباً كي لا نقول دائماً ضحايا الإرهاب الأولون. إنه"واجب"يراه المخرج وپ"نوع من الضيافة"موجه نحو الجار حتى لا يختنق كل واحد بجهله للآخر. عمل"متخم"بالجمال والحب والمعاني ولقاء حقيقي. بعد لوس انجليس وقرطاج، التقينا في باريس ناصر خمير بمناسبة عرض فيلمه في الصالات الفرنسية واشتراكه في مهرجان قرطاج السينمائي. هل جاء توقيت الفيلم لإعطاء وجه لهؤلاء الذين لا وجود لهم على الخريطة، للتعريف بغير المعروفين... - يبلغ تعداد المسلمين ملياراً وثلاثمئة مليون نسمة، وهم يشكلون نسبة مهمة من التعداد العام للبشرية 6 مليارات. لكن آلافاً قليلة شوهت حضارة كبيرة. إن استعادة صورة أكثر نقاء وفاعلية للإسلام كحضارة وثقافات لهي اليوم من الأمور الأشد إلحاحاً. والتصوف في رأيي هو الباب. تنطلق أعمالي من مفهوم حضاري يضرب جذوره في القرنين التاسع والعاشر، كوني السينمائي الوحيد الذي اهتم بمسألة العروبة والإسلام وحاول أن يخرج من المرجعية الاجتماعية وما إليه... والمغلوطة في كل الحالات! ماذا تقصد؟ - الأمر بسيط. حتى لو وددت التعبير عن واقع المجتمع في أي بلد عربي فهذا غير ممكن بسبب الرقابة. المجتمعات العربية تعيش كرهينة. رهينة لحكامها إلى درجة جعلت كل أبواب التفكير والتعبير والخلق مريضة لا يمكنها تجاوز حالتها. السياسة مريضة، لذلك حاولت التجذر في مرجع زماني أبعد ليتعدى الظروف الحالية ويعود بنا إلى الأرضية الصحيحة. الحرية المفقودة تجعلني أجد في أعمالي، التي تبتعد من الزمن الحالي الموقوف، منبعاً للحرية. إلامَ رمزت بالعنوان"الأمير المتأمل أو المتمعن في روحه"؟ - يزخر التراث العربي الإسلامي بمقولات وإشارات نحن في أشد الحاجة اليها. لقد وجدت العنوان على صحن نقش في قاشان إيران في القرن الثاني عشر، ويمثل أميراً يتأمل صورته. وكتب عليه بالفارسية"الأمير المتأمل في روحه". وأنا أفضل ترجمتها"السابح". في الغرب، يعتبر من ينظر إلى صورته نرجسياً، أما هنا فالأمير يتأمل في روحه أو يسبح فيها، فهو إذاً قد خرج عن نطاق الأنانية والذاتية. لقد زالت الأنا ليحل مكانها تجلٍ للكون. الفيلم ببنائه يحاول مساعدة المشاهد على نسيان أناه، على محوها للانفتاح في شكل أفضل على حقيقة العالم. الصحراء مكان محبب اليك وحاضر في أعمالك الثلاثة، ماذا تعني لك؟ وما الصعوبات التي واجهتها أثناء التصوير فيها. - لدى الطوارق مثل يقول"ثمة بلاد ملأى بالماء لراحة الجسد، وثمة بلاد ملأى بالرمال لراحة الروح". الصحراء هي أيضاً اللغة العربية وهي مرجعها. حين صورت في الصحراء الإيرانية أتاراك، كان أقرب مركز للهاتف يبعد أربعين كيلومتراً عن مكان التصوير! وعلى بعد عشرة كيلومترات، وجدنا منجماً مهجوراً للرصاص، فاتخذنا ما كان معداً قربه لسكن العمال مقراً لنا! لن أتحدث عن الثعابين والعقارب، وعن الحصان الذي وجدناه ميتاً ذات صباح بسبب لسعة. لقد صورنا في آب أغسطس حيث الحرارة في أقصاها. كنا نبدأ مع الفجر، ونتوقف عند التاسعة تقريباً، فعندها لم نكن نرى إلا صورة بيضاء، كان الضوء باهراً الى درجة يمحي معها كل أثر. كما لم يكن ممكناً مثلاً المشي بحذاء عادي في هذا الوقت المبكر. وكنا نعود للتصوير عند الرابعة عصراً ونستمر حتى الغروب. أشرت إلى حبك للغة العربية، وهذا معروف عنك، لكنك تتحدث دائما بالفرنسية! - هذه اللغة المحاصرة التي وإن كنت مغرماً بها فأنا لم أنم القدرة الجدلية فيها. كفرد، وكمجموعة أيضاً، لم نبحث عن معادلات لبعض المفاهيم والألفاظ... اللغة أيضاً رهينة ثقل الممنوع. إنها أم حنون مغلوبة على أمرها وممنوعة من أن تفتح مجال الشك! لقد زرت العالم أجمع وتسنى لي النقاش والجدال بلغات عدة باستثناء العربية. المفاهيم تعطلت ليس أشهر من العرب بالجدال والنقاش؟ - نعم في السياسة فقط! تركوا الثقافة والفكر والفلسفة تتعطل، فتعطلت بذلك المفاهيم. نحن في حال من الجمود. النقاش هو أن تنصت إلى ما يقوله الغير وأن تتفهمه وهذا غير موجود. وأنا أعانيه مع الصحافيين بوجه خاص. إنهم لا ينصتون. يأخذون منك ما يبنون به شيئاً كان موجوداً مسبقاً لديهم! شكراً! ولنعد إلى الفيلم. لماذا صورت في إيران؟ - لسببين، فالصحن من إيران وقد رغبت في إيجاد تواصل بيني وبين فنان من القرن الثاني عشر، وفي أن يكون الجواب عن سؤاله في القرن الواحد والعشرين. وثانياً قبول منتج إيراني بالعمل. إن لديهم أسئلة عن الحضارة غير موجودة في مصر ولا في غيرها! ثم مبتسماً لو كانت العروبة في زمن عبدالناصر ثقافية وليست سياسية لكنا وصلنا إلى حل! الممثلون من إيران، العراق، الجزائر، تونس.... الفيلم يذهب من شرق العالم الإسلامي إلى مغربه، هل هو اختيار أم شروط إنتاج؟ - إنه اختيار هدف إلى تمثيل هذه الحضارة بتعددها وتنوعها. لقد طلبت إحضار بعضهم من عبادان جنوبإيران كي تظهر وجوه إسلامية سود. الحضارة العربية الإسلامية هي حضارات داخل حضارة، ويجب أن ننصت إلى هذا الوجود الغني الداخلي قبل أن ننصت إلى أي شيء خارجي. وإذا لم تكن لدينا القدرة على الفخر بغنى هذا الوجود فكيف يمكننا أن نقبل الآخر؟ إن عملي ملتزم، ويدعو إلى الإنصات إلى من في الداخل وقبول التعدد. الاعتقاد اليوم يستند الى الفكرة الواحدة التي ليست بفكرة بل استبداد، لا من جانب السلطة فحسب بل من المجتمعات نفسها. إنها لا ترحم، ولا تقبل كل ما هو مغاير. بينما الإسلام يتحدث عن الرحمة والرحيم، عن اليسر.. قلت عن فيلمك انه"فيلم عن السينما"، ما الذي عنيته؟ - اكتشفت السينما في المدرسة الداخلية حيث أقمت من عمر ست سنوات إلى 18 سنة. كانوا يعرضون علينا فيلماً كل يوم جمعة. رأيت أفلاماً من كل الأنواع والجنسيات. وحين كانت الأضواء تطفأ، كان ينتابني الإحساس بأنني حر لأن الرقيب لا يراني في الظلام. كانت الإنسانية كافة مجسدة أمامي. لقد تولد إحساسي بالإنسان هنا، من الشاشة وليس من المجتمع. لأن المجتمع منغلق. لقد طورت فيّ السينما شعوراً عميقاً بالحرية. في الفيلم حين كان عثمان ينظر من نافذة القصر إلى الخارج، كان القصر في تونس فيما كان المشهد الخارجي من إيران! إن السينما هي الوحيدة القادرة على إعطاء هذه المعادلة. وثمة أمر آخر، هو أنه من خلال مشهد مثل المسجد المطمور بالرمال والذي هو حالة الإسلام اليوم، تحقق السينما هذا الترابط بين الصورة الموجودة في الذهن وتلك الموجودة في الواقع. ثمة حضور طاغ لعالم شخصي في أعمالك: الصحراء، الملابس الشرقية، الألوان الحارة، الحدائق، المعمار القديم... هل يمكنك أن تصور في إطار مختلف؟ - كتبت سيناريوات عدة تتحدث عن الواقع، ولم أجد أي تمويل! أحدها يتحدث مثلاً عن"يوم الانتخابات"! حين أناقش الحاضر فلن أمنع نفسي من مناقشته حقاً ولن أكتب سيناريو يحتوي على أقل مما أفكر به! ومن ناحية أخرى، حاولت أن أضع في السينما إطاراً كلاسيكياً للتصور العربي الإسلامي بمراجعه التي ذكرتها في سؤالك، أن أعطي فكرة جلية تشكل جسراً بين الإنسان العربي الحالي وبين حضارته التقليدية. إنها محاولة للفت الانتباه والحديث عن الأصول لا كشيء ميت بل كتركيبة حضارية. محاولة يمكن أن تعطي الإنسان المسجون داخل حاضر مغلق، إحساساً بالاعتزاز وبأنه حي وقدم الكثير للإنسانية وفي مقدوره أن يتصور مستقبلاً مغايراً لواقعه من خلال البحث في جذوره. هذا لجهة مخاطبة الداخل، أما الخارج فالمخاطبة تتم بتقديم حضارتنا مقابل الحضارة الأخرى وتبيان فعاليتها، فلسفتها ومساهمتها في بقية الحضارات. وتصحيح النظرة إلى الإسلام كدين يسر لا عسر، فيه جماليات وإنسانية عميقة. السينما أساسية كيف ترى العلاقة بين الشرق والغرب؟ وكيف تجسد نظرتك إليها من خلال أعمالك كافة: السينمائية والأدبية والتشكيلية؟ - أحسن جواب هو أن أصنع فيلماً عن الإسلام والتصوف. حال من حالات الوجود الإلهي الموجودة في كل الأديان. إن نجاح الفيلم في سويسرا حيث شاهده سبعون ألف متفرج يدل على أن السينما ليست قضية تسلية وإضاعة وقت واستهلاك. إنها عملية أساسية. حين يشاهدك إنسان مغاير، فلأنه يشاهد نفسه في أعمق أعماقها. عندها لا يوجد حد فاصل، هنا ينتهي الشرق ليبدأ الغرب. ثمة تواصل وتفاعل منذ القدم على رغم المشاكل والتاريخ الدموي. الشرق ليس مغايراً. لقد ساعد على تطور الإنسانية وعلى الوصول إلى الحضارة. وإذا لم يفهم ذلك، فيمكن أن ينغلق على نفسه. الفن يبدع تواصلاً فورياً يجعل العلاقة تنفتح أكثر مما يفعله العمل التاريخي. نحن بحاجة الى بناء إنسان هو اليوم مشكوك فيه. وهو مطالب بتوضيح هذه الشخصية وإعطائها وجهاً. إنني الوحيد المتجذر في حضارتنا والذي يشتغل على هذا الموضوع! أليس هذا غروراً؟ - لا! اعمل على ذلك منذ عشرين سنة. ولا أحد آخر. أنا مجبر على ذلك! لكن كوني أعمل عليه لا يعني أنني أعمل على الماضي بل على الحاضر ليكون هناك مستقبل. وكيف ترى تقبل الجمهور الغربي للفيلم؟ - بعضهم لم يحب الفيلم، من الجمهور ومن النقاد. ثمة أمور تزعج فيه كفكرة الموت مثلاً. من المهم بالنسبة إلي ألا يحب الجميع الفيلم. إذا أحبه كل الناس فهذا يعني أنه لپ"الجميع"، أي قابل للمرور في كل مكان! ما يهمني هو أن نعي أن العمل على حضارة منذ 15 قرناً هو الوسيلة الوحيدة لأن نبني أنفسنا في التاريخ وفي المستقبل.