تفيد مراقبة مواقف الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي من ملفات الصومال والسودان ولبنانوايرانوالعراق ان بين هذه المواقف خيوطا مشتركة منها ما له علاقة برفض السماح للميليشيات ان تنجح في الانقلاب على السلطة وحجب كل ما من شأنه ان يوحي بأي موافقة ضمنية على وسائل الارهاب والقتل والتهديد وضرب القرارات الدولية بعرض الحائط، ومنها ما له علاقة بفرز لافت للعلاقات في ما بين هذه الدول وبين بعضها ودول اقليمية فاعلة في المنطقة العربية والافريقية. فإجماع مجلس الأمن على قرارات العقوبات على ايران يشكل سابقة بالغة الأهمية تخرج العلاقة الروسية والصينية الثنائية مع ايران من العلبة وتضع طهران أمام خيارات استراتيجية حاسمة. ورفض الدول الخمس إدانة التوغل الاثيوبي العسكري في الصومال ومعارضتها مطالبة اثيوبيا بالانسحاب الفوري لهما دلالة اساسية فحواها الموافقة على عبور الحدود لمنع سقوط الدولة المجاورة في أيادي ميليشيات داخلية وخارجية والاتفاق على ان"القاعدة"وأمثالها عدو مشترك يجب التعرض له بغير القيود التقليدية والتعريف التقليدي لمفاهيم السيادة. كذلك مواقف الدول الخمس من الملف اللبناني في مجلس الأمن، فإنها متماسكة جداً وراء انشاء المحكمة الدولية لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية في لبنان، مهما توهم معارضو المحكمة في دمشق وبيروت ان إجادتهم أداء المناورات بدهاء سيطيح المحكمة الدولية أو سيؤدي الى إفراغها من الفحوى. مع السودان، هناك توجه نحو ردم الخلافات ونحو صياغة مواقف صارمة للولايات المتحدةوالصينوروسيا وبريطانيا وفرنسا، وذلك لأن الصين قررت ان تضع سمعتها العالمية التي لطخها ملف دارفور فوق الفوائد الاقتصادية مع السودان. فهناك جديد على الساحة الدولية في مجلس الأمن الدولي، جديد يتزامن مع جديد الأمانة العامة التي يرأسها الآن الأمين العام بان كي - مون الآتي الى المنصب نتيجة وفاق وتوافق نادر بين الدول الخمس الكبرى. حكومة اثيوبيا ليست مثال الديموقراطية واحترام حقوق الانسان ولا هي بريئة من سياسات عدائية نحو الصومال وسياسات بائسة نحو اريتريا. لكن اثيوبيا لا تسيء الى الصومال بتدخلها عسكرياً، بدعوة من الحكومة الانتقالية، لوقف بعض ميليشيات المحاكم الاسلامية عن تحويل الصومال الى محطة ارهاب دائمة وارهاق هذا البلد المتعب في المزيد من الحروب. هذه المحاكم الاسلامية تحولت الى ميليشيات تدميرية، شأنها شأن فكر الاسلاميين المتطرفين اينما كان. فهؤلاء لا يمتلكون برامج عمل أو تصاميم بناء لأنهم منهمكون دائماً بالتدمير والدمار وهم لا يكنون نحو الشعوب التي يرتهنونها سوى التحقير لأنهم يبيحون أراوحها ويستبيحون طمأنينتها. انهيار ميليشيات المحاكم الاسلامية بسرعة يثير المخاوف من لجوئها الى العمليات الانتحارية وتكتيكات حرب العصابات على نسق ما يجري في افغانستانوالعراق في اعقاب الهزيمة. وهذا يعني ان المزيد من اللااستقرار آتٍ الى منطقة القرن الافريقي. ما يحتاجه الصومال ليس ان يتحول الى افغانستان أو العراق وانما يحتاج رفض تحويله الى مثل هذا المصير تحت أي ذريعة أو تفسير كان. سيقول البعض ان الغرب سيغض النظر عن قيام اثيوبيا بمهمة القضاء على ميليشيات المحاكم الاسلامية وغيرها من الميليشيات المستوردة الى الصومال. البعض يقول ان الولاياتالمتحدة تشجع اثيوبيا ان تقوم بمهمة القضاء على هذه الميليشيات كما سبق وشجعت اسرائيل على حرب لبنان للقضاء على"حزب الله"، مع ضمان عدم تدخل مجلس الأمن لوقف الغزو الاثيوبي للصومال. وقد يكون كل هذا صحيحا، انما من الخطأ تجاهل توافق آراء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن على هذا التوجه، ومعها الدول الافريقية الأعضاء في المجلس. وهذا يجب ألاّ تفسره اثيوبيا بأنه دعوة مفتوحة لها للتدخل الدائم في الصومال ولعبور جيوشها الحدود تحت ذريعة"القلق الأمني". الرئيس ميليس زيناوي وعد بأن تكون العمليات العسكرية محدودة وان يتمكن من اخراج جيوشه من الصومال في غضون ايام. ما يسهل عليه تنفيذ هذه الوعود هو ايضاح الشعب الصومالي، بقدر الإمكان، موقفه المعارض لتوغل ميليشيات المحاكم العسكرية وغيرها من الميليشيات. بعض الصوماليين خرج الى الشوارع مرحباً بالقوات الصومالية الحكومية وكذلك بالقوات الاثيوبية التي ذهبت الى هناك لدعمها. هؤلاء في حاجة الى دعم شعبي عربي ومسلم لهم كي تفشل جهود تصوير المسألة على انها صراع ديني بين المسيحيين والمسلمين، وكي تنفذ وعود عدم اطالة التواجد الاثيوبي العسكري ليصبح شبه احتلال، وكي يتم قطع الطريق على تحويل الميليشيات الصومالية الى ساحة حرب استنزاف وحرب ارهاب. الشعوب العربية، عامة، تؤازر باستعجال بدلاً من التدقيق في ما من شأنه ان يساعد حقاً الشعوب التي تريد مؤازرتها. الصومال ليس في حاجة الى ذوي الصراخ والمغالاة والمزايدة على حساب الصوماليين الذين يدخلون وبؤسهم خانة النسيان فور انتهاء الصراخ والصياح. إنه في حاجة الى وقفة شامخة للصفوف العربية والمسلمة المعارضة لصفوف التطرف الاسلامي. وقفة صريحة ضد الميليشيات المتطرفة ومع المؤسسات الحكومية باحترام لحاجتها حماية خارجية وإلا لكانت انهارت ومعها الصومال. الصوت العربي أصيب ببحة عميقة إزاء التجاوزرات في دارفور، فيما كان من الواجب ان تعلو الأصوات العربية على الأصوات الغربية مطالبة بوقف الكارثة والكف عن اغتصاب النساء وحرق القرى وتشريد الأطفال. بعض العرب انزعج من قيادة منظمات يهودية الحملة من أجل دارفور واعتبر ذلك مبرراً له للتعالي عن الالتحاق بالحملة بدلاً من ان يقرر ان هذا الأمر يجب ان يجعله في طليعة قيادتها. البعض الآخر قرر ان يضع كامل المأساة في دارفور في معادلة رغبات خارجية بإسقاط حكومة عمر البشير في السودان وكأن بقاء النظام بحد ذاته يبرر غض النظر عن تشريد الملايين باعتبارها فدية غير مكلفة أمام"الاستعمار"الآتي من جديد. الصين التي تتهم بأنها تحمي الحكومة السودانية في مجلس الأمن بسبب العلاقات النفطية الاساسية معها بدأت بإلقاء نظرة مختلفة على كلفة السمعة السيئة التي تلحق بها بسبب الاهتمام العالمي بقضية دارفور. بدأت تعمل نحو تنظيف السمعة باجراءات ليست كافية بعد، لكنها ستؤدي، بالتأكيد، الى سياسات أكثر حزماً وصراحة ومطالبة من حكومة الخرطوم. وهذا سيؤدي الى المزيد من التوجه نحو التوافق بين الدول الخمس على مختلف الملفات الدولية. وليت الحكومات والشعوب العربية ايضاً تتحرك لتنظيف سمعتها من لطخة الصمت على مجازر دارفور ليعلو احتجاجها على الاغتصاب والتشريد كي تسمع الحكومة السودانية جلياً ان سياساتها في دارفور مرفوضة عربياً واسلامياً وليس فقط غربياً وشرقياً. فهناك حاجة ماسة الى صراخ من نوع آخر في الساحة العربية. صراخ يُخرس ذلك الصياح الذي يعتنقه الفاجرون في المنطقة العربية لتخويف الأكثرية الصامتة. هناك حاجة الى ارتفاع أصوات الاعتدال بدلاً من القبوع صمتاً في انتظار توقف صياح الفجور والتطرف. كثيرون من المفكرين العرب والقياديين في القطاع الخاص يؤمنون ان التجربة اللبنانية يجب ان تنجح إذا كان للمنطقة العربية فرصة للتعافي من السلطوية ولتجنب الوقوع في فخ التطرف والمدرسة التدميرية واللجوء الى الشارع بوصفه وسيلة لافلاس المجتمع والدولة. والسبب هو ان صوت الاعتدال ارتفع في لبنان في وجه صياح الفجور المحلي وهمس الإملاء الخارجي. وهذا في حد ذاته لافت لسببين اساسيين هما أولاً: ان لبنان اليوم عاد ليكون مختبر الديموقراطية في العالم العربي، انما بتجربة ونموذج مختلفين ومتفوقين عن التجارب السابقة. وثانياً: ان هناك حنينا في المنطقة العربية، بل تشوقا بالاحرى، الى متعة ممارسة حق تقرير المصير مدنياً بدلاً من الرضوخ الى سياسات الاخضاع، إما على العتبة الأمنية أو أمام السيوف التدميرية. السبب الأهم هو ان لبنان يضع المنطقة العربية أمام امكانية المحاسبة من الداخل، ومن حروب خارجية، واجراء محاكمات لا سابقة لها، بحيث لا تمضي الاغتيالات السياسية، كما مضت في السابق، من دون عتاب واستحقاق. لبنان يضع مكبر الصوت في أذن القيادات الأمنية والحكومية ويقول لها: أني اتهمك أمام المحكمة. وقد تكون هذه القيادات من الداخل اللبناني أو من الجيرة الحميمة أو من بيئة الايحاء والإلهام والاعلان المهم. ان لبنان تجرأ على اعلان التالي: ليس ابداً ضرورياً ان يأتي التغيير الى المنطقة العربية عبر الحروب الخارجية، أو على متن عربة التدميريين، كما في العراق. وليس ابداً ضرورياً ان تكون الأنظمة المستبدة مفتاح الاستقرار الدائم كما توهم الشعوب الخائفة من تجربة العراق سيما في سورية. وليس ابداً ضرورياً ان تنجح بدعة التهويل والتخويف والتهديد، باستخدام غير نزيه للمقاومة ولمبدأ الأسرى، بهدف نسف المحكمة الدولية وبهدف التمكين الدائم من الاستمرار بالاغتيالات أداة سياسية عربية. الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين اعتقد يوماً انه فوق المحاسبة تحت أي ظرف كان. وضع العراق بأجمعه في خانة المقايضة مقابل بقاء النظام. صدام حسين قايض العراق من أجل النظام. هكذا هو الأمر ببساطة. فليكف الاعتذاريون عنه وعن حزب البعث الزعم بأنه وضع العراق في طليعة أولوياته واعتباراته. صدام حسين وضع النظام فوق البلاد. ولذلك، يلاقي مصيره على اساس هذه المعادلة. الذين يريدون تمجيده و"رأسه المرفوع"أمام المشنقة انما هم من قبيلة الفجور الدائم والشتائم المتتالية التي لا تقدم للشعوب العربية سوى الأدوات والخيارات التي تحصرها في حظيرة الديكتاتورية أو التدميرية أو الاسلامية المتطرفة. أما الذين يريدون تجنب مصير مشابه لمصير صدام حسين، عليهم أولاً ان يفكروا بما رفض صدام حسين القيام به من أجل العراق، وهو الاستقالة، فلاقى يومه على المشنقة. الاستقالة خيار غريب على الحكام العرب وعلى الذين يجلسون في كرسي السلطة برغبات آتية عليهم من الخارج. رئيس الجمهورية اللبنانية اميل لحود قد يكون أحد هؤلاء، انما على أي حال، مهما أجبر على البقاء في كرسي الرئاسة برغم تشكيك نصف البلاد على الاقل بشرعية رئاسته ودستوريتها، يجب عليه اليوم ان يفكر بصدام حسين الرافض لفكرة الاستقالة. فالشنق يأتي بأكثر من اسلوب وطريقة. أما الرئيس السوري بشار الاسد، فإن طريقه يزداد وعورة وصعوبة تماماً لأنه يعتقد، أو لأنه اقتنع ان بإمكانه، ان يمنع انشاء المحكمة الدولية أو تفريغها من عنصر محاكمة الرئيس وعنصر ترابط الاغتيالات، بدلاً من التضحية بالمرؤوس كالعادة مما يعني نسف اي محاكمة على منهجية في الاغتيالات تؤدي الى اعتبارها، عملياً، جرائم ضد الانسانية. مجرد ان يكون لدى القيادة السورية ولدى قيادة"حزب الله"المتمثلة في السيد حسن نصرالله مثل هذا الإصرار العارم على هذين البندين من نظام المحكمة الدولية يجب ان يثير عند اتباعهما التحفظات والمخاوف. فإدانة الذات إدانة بالغة بحد ذاتها. انما الأهم ان لا أحد من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن سيسرع الى انتشال بشار الأسد أو حسن نصرالله من الإدانة الذاتية التي أتيا بها على نفسيهما. بل العكس، هذه المخاوف أضعفت استعداد روسيا لحمايتهما امام مجلس الأمن، بل ضاعفت امكان صدور قرار بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة ينشئ المحكمة الدولية إذا استمرت المناورات المحلية لمنع انشائها. فلتراقب الحكومة السورية والقوى اللبنانية المتحالفة معها ماذا يحدث في عواصم الدول الخمس وكيف تتلقى هذه الدول تقارير التعطيل المنهجي لانشاء المحكمة الدولية. هذه دول ليست ابداً جاهلة ولها سفراء يفهمون جيداً المناورات والبدع السخيفة منها وتلك المفرطة في إدعاء الذكاء والحنكة. لتراقب وتدرس جيداً ماذا حدث لملف ايران في مجلس الأمن الدولي، فلقد اسقطت طهران من رف التعالي والإملاء والتحدي السافر، بإجماع الدول الخمس الكبرى، ويتم تقنينها في حظيرة العقوبات التي تشمل امثال سييراليون والسودان وطلبان و"القاعدة". وليستفق رئيس البرلمان اللبناني، نبيه بري، وليطلق سراح البرلمان فهذا مجلس دستوري ليس ملكه ولا ملك حلفائه. ليكف عن الوعود بمبادرات وليتصرف بمستوى التحديات وليدرك انه هو شخصياً تحت المراقبة الدولية. ذلك ان الدول الخمس لا مزاج لها الآن في مهاترات وألاعيب وبدع مسايرات. انها في صدد صنع سياسات كبرى وهي ستدوس على العراقيل الصغيرة وان اوهم اصحابها أنفسهم انهم في قمم الجبال الشاهقة. راغدة درغام - نيويورك